منذ أن اكتشف بعض نشطاء مجتمعنا "فجأة" بأن مدننا وقرانا وأسواقنا ومطاعمنا مفتوحة على زيارة وفود إسرائيلية وشخصيات وأشخاص من دولة "الكيان الصهيوني"، بعيدا عن غزوات الدوريات والاقتحامات الليلية لجيش الاحتلال الغاشم؛ قامت الدنيا ولم تقعد على منصات التواصل الاجتماعي، وتحركت "القوات الضاربة" لبعض الفصائل في الجامعات وساحات النضال، مهددة ومهدرة لدم بعض من شاركوا في اجتماع نظمته مؤسسة لجنة التواصل الفلسطينية التابعة ل م.ت.ف. بمباركة أعضاء اللجنة المركزية لحركة فتح، مع تجمع "مبادرة السلام الإسرائيلية" في إحدى المدن الإسرائيلية.
بدون سابق إنذار، اكتشفنا ثغرة مهولة في منعتنا السياسية بتغلغل "المطبعين" في جبهتنا الداخلية، وانكشافنا على "العدو الصهيوني" من خلال نشاطاتهم، وكدنا نعتقد بأن هذه الأرض المقدسة الطاهرة تنتهك لأول مرة في تاريخها بهذه الممارسة "الشائنة"، غافلين عن حقيقة ارتباط معظم هذه الزيارات بقرار سياسي من رأس الهرم، ومباركة النظام السياسي بأكمله وعلى رأسها م.ت.ف بفصائلها (باستثناء فصيل واحد)، ناهيك عن حقيقة أن تنظيم وتمويل هذه اللقاءات يتم من لجنة التواصل بقرار سياسي رسمي وتمويل خزينة السلطة الفلسطينية. وإنه لمن المضحك المبكي أن يأتي وقود الانتفاضة على "المطبعين" المشاركين في ذلك الاجتماع من عناصر فصائل م.ت.ف. وعلى رأسها بعض قبائل حركة فتح، متناسين أن المكلف بإدارة هذا التواصل ممثلا للنظام السياسي وم.ت.ف، هو عضو لجنة مركزية للحركة.
لست معنيا في هذا المقال بالدفاع عن أحد، ولا بتحديد موقفي الشخصي من برنامج التواصل مع المجتمع الإسرائيلي، ولكنني أستغرب توقيت وحجم ردة الفعل هذه، في الوقت الذي نحن بأمس الحاجة فيه إلى حشد أي صوت من أي بقعة من الكون في مواجهة صفقة القرن ولجم صلف إسرائيل وعدوانها الشامل، وتأييد حقوقنا الوطنية الثابتة غير القابلة للتصرف.
لقد ترعرعنا وكبرنا في ظل شعار "الوحدة الوطنية"، وقمنا على أساس ذلك بتجاوز الكثير من المحرمات والثوابت بداعي ما يسمى "الحفاظ على العلاقات الوطنية" وأحطناها بهالة مقدسة. والتي كانت دائما مجرد شعار تقوم على أساسه مكونات منظومة العمل الوطني بالاستثمار في تحسين شروطها لدى القيادة. وأعتقد أن الهبة الحالية لا تخلو جزئياً من عنصر المناكفة في هذا السياق.
إلا أن سنوات أوسلو العجاف، وانكسار وضعف النظام السياسي، واختلال مفاهيم الديمقراطية واحترام الرأي الآخر، وسطوة منابر التواصل الاجتماعي الفالتة من عقالها، وغياب الانضباط الفردي والمؤسسي، فعلت فعلها بنا، بحيث أصبحنا نمارس الفعل ونقيضه دون وازع أو رادع. وليس أدل على ذلك من اكتظاظ الأجواء بأفظع المشاهد والوقائع في مجال الردح والتخوين وكشف المستور، والتي تمارس تحت سمع وبصر النظام دون اكتراث، فما دامت هذه الردة بعيدة عن رأس النظام السياسي وأركانه فلا ضير.
في منابر التواصل الاجتماعي نحن أمم وشعوب وجماعات ليس بينها روابط ولا محرمات، وأهم ما يمز واقع الحال بأننا، كما توثق هذه المنابر، مختلفون، رافضون، حانقون، متشائمون، مستسلمون، تائهون، خبراء، مستشارون، منظرون، ثائرون، جبابرة في المواقف، حادون في الذود عن تاريخنا ومكتسباتنا وتضاريسنا، ونكاد نرفع علم دولتنا العظمى على أزقة وحارات ومنازل ومباني "تل الربيع" وغيرها من المغتصبات، ونفتك كل يوم بآلاف مؤلفة من الأشخاص والآراء والمواقف.
بينما نحن في الواقع أمة مهزومة تتسلح بأقصى ما تستطيع من الرفض المعزز بالاستكانة وانتظار ما سيأتي به الغيب، متسمرون في العدمية، نتوه وحدنا في فضاءات هزيمة لا اسم لها، ونعمل كل شيء إلا العودة إلى الجذر والتمترس خلف إرادة شعب الجبارين، وحرق كافة السفن، وعلى رأسها، متبقيات أوسلو، والتنازل الطوعي لإرادة شبية البلاد حتى يحددوا بأنفسهم خارطة المسير، وتسخير كافة الفرص والمنافذ والمنابر والساحات لشرح قضيتنا وثوابتنا، والتجييش ضد الصلف الإسرائيلي وصفقة القرن والتوسع الاستيطاني غير المسبوق على أراضينا، ولا بأس في ذلك من استخدام كافة السبل بما في ذلك زيارة الشيطان والاجتماع مع إبليس.
في زمن ترامب والردة العربية الفلسطينية الرسمية، تاه من تاه وخان من خان ونامت الشعوب واستأسد حكامها في إصدار بيانات الاستنكار واختراع الأوصاف لما يجري من تنكيل بحقوقنا غير القابلة للتصرف. أما نحن فما زلنا نعتقد بأن لنا "زمنا نشتريه في القدس"، ووطنا نحلم به، ونصرا مزلزلا يأتي به الرحمن، ونرقص على أنغام "شهيداً... شهيداً... شهيداً" في وقت الفراغ.
بالمقارنة، وعلى أرض الواقع، فإن تضاريسنا تتسرب من أفئدتنا وحدقات عيوننا، وتذبل فلسطين في أسرها واغترابها، ويحترق شبابها في البحث عن مكان تحت أي شمس إلا شمسنا، وتستمر الجغرافيا بالشرذمة والمناصب والإكتناز والمواكب بالاكتظاظ. نحن اليوم ذبيحة تنتظر نحرها من الجلاد، وبذات الوقت ننشد أن "النصر صبر ساعة"، أما الوطن وأحلام الشهداء وتطلعات الأسرى وأنات الجرحى وصبر الأمهات، فهي من تراث مرحلة انتهت، ودرب أقفر، وواد سحيق يبتلع الجميع.
أمام هذا الوضع بالغ التردي، لا يكفي أن نسطر الأمجاد والغضب والثورة على منصات التواصل الاجتماعي والسلام، ولا يجوز أن نكتشف فجأة خلل منظومة العلاقات المتشعبة مع "شريك السلام"، ولا يصح أن ننصب أنفسنا حكاما وجلادين لكل من فكر أو قرر أو مارس ما يناقض قناعاتنا الفردية، بغض النظر عما إذا كان ذلك يتم بتوجيهات "القيادة" أم لا. إن الغضب المستشري اليوم على "التطبيع" و"المطبعين" يعكس مزيدا من الاغتراب الوطني والضغط المتنامي بين أبناء شعبنا نتيجة حالة الفشل الشامل التي تحدق بنا على كافة الأصعدة، وسوء إدارة الملف السياسي والاقتصادي والسلم الأهلي.
لنختلف أو نتفق على مفهوم "التطبيع" أولا، قبل خوض المعارك في غير محلها وخلط الحابل بالنابل وهدم معبدنا بأيدينا. وحيث أننا رفعنا شعار وحدانية تمثيل م.ت.ف.، فإن الجهة الوحيدة المخولة بوضع مفهوم رسمي ل، "التطبيع" هي م.ت.ف. رغم تحفظي شخصيا على أدائها وسلوكها. وما دامت م.ت.ف. أجازت وتبنت فكرة التواصل مع مجتمع "العدو الصهيوني" وخاصة القوى التقدمية فيه، وحددت الإطار الناظم لهذا التواصل وأهدافه وأدواته، فإن الاختلاف بيننا يجب أن يكون على وجاهة هذا الموقف وليس على جهة أخرى.
إضافة إلى ما سبق، فإنه لا تملك أي مؤسسة مجتمع مدني الحق بالتصنيف والتخوين كما يجري اليوم، خاصة إن تعلق الأمر بتنفيذ برنامج م.ت.ف. المتعلق بالتواصل المجتمعي مع مجتمع "العدو الصهيوني" وخاصة القوى التقدمية فيه، وإن كان لأي جهة أن تعارض توجهات م.ت.ف. في هذا الشأن فلها الحق المطلق بذلك، ولكن ليس بالعدوانية التي شهدناها ضد أي جهة (أفراداً ومؤسسات) تختلف معها، ما زالت تلك الجهة ملتزمة ببرنامج م.ت.ف. والأولى بهذه المؤسسات أن توحد الجهود لتصحيح مسار وبرنامج م.ت.ف.، لا أن تغض الطرف عن ترهلها وسوء أدائها واستكانتها واستسلامها، وتتفرغ للنيل من وطنية من يعمل تحت مظلتها.
نحن جميعاً في فلسطين محكومون بنظام سياسي، لكل منا موقفه منه، ولكن المصالح الوطنية العليا المتمثلة بوحدة الأرض والشعب والأهداف الوطنية بالتحرر وإقامة دولة فلسطين الديمقراطية العلمانية الشفافة الكفؤة المنفتحة على كافة مواطنيها ومفجرة طاقاتهم الإبداعية، يجب أن تكون فوق الاختلاف بأي شكل من الأشكال.
لنختلف أو نتفق على محتوى وأهداف علاقتنا بدولة "الكيان الصهيوني"، وليس على من يتصرف منطلقا من ترتيبات هذه العلاقة وفهمه لها، وتوجيهات النظام السياسي. لنشهر السيف في وجه من يعيقون وحدة الوطن ويعطلون مؤسساته ويمنعون تطوره، وليس من يحاول توسيع مساحة التأييد لحقوقنا الوطنية بفلسطيننا. وإلى أن تعلن م.ت.ف. موقفاً مغايراً من مسألة التواصل مع مجتمع "العدو الصهيوني" وخاصة القوى التقدمية فيه، فإن محاولة النيل من أمن وأمان وسمعة من يقوم بذلك في إطار م.ت.ف. تعتبر مخالفة جسيمة لـ"القانون". وإن صمت اللجنة التنفيذية ل م.ت.ف. واللجنة المركزية لحركة فتح على التشهير بمن اعتقدوا بأنهم يؤدون رسالة وطنية حتى ساعة كتابة هذا المقال لهو أمر معيب، علما أنه جرى ترتيب لقاء ما بين هذه المجموعة ورئيس السلطة مساء يوم 24/02/2020، والذي أتوقع أن يسفر عن تصريح واضح مسؤولية القيادة عن ذلك النشاط، وآمل أن يشمل الموقف محددات للعلاقة السليمة مع مجتمع "العدو الصهيوني" والقوى التقدمية فيه.
ختاما، فإن الجهود التي تبذلها منظمة BDS في مجالات عملها مقدرة وتستحق الدعم والمؤازرة منا جميعا، وقد تزامن معها انطلاق جهود وطنية رسمية وشعبية مكثفة لمكافحة اقتصاد المستوطنات. وقد طورت BDS في سياق عملها مفهوما عالميا للحكم على أي موقف أو نشاط بشأن إذا ما كان "تطبيعاً" أم لا، وإنني أتفق معها عليه. ولكن الحالة الفلسطينية الشاذة جداً، حيث الاحتكاك القسري بالمحتل ودولة الكيان هو ممر إجباري في كافة تفاصيل حياتنا اليومية، بمن فيهم أعضاء المنظمة ممن يقيمون في فلسطين أو يزورونها، يستدعي إبداع مفهوم خاص "للتطبيع" في حالتنا هذه.
تقوم هذه المنظمة بجهود جبارة عالميا لفضح الممارسات الإسرائيلية بحق شعبنا وقضيتنا، وتحقق النجاحات التي نعتز بها جميعا، ولكنها ليست الجهة الرسمية المخولة برسم السياسات والبرامج المتعلقة بخدمة مصالحنا الوطنية. تلك الجهة هي من انتخبها برلمان الشعب الفلسطيني، المجلس الوطني، وهي اللجنة التنفيذية ل م.ت.ف.، على بؤسها وضعفها وغيابها عن المشهد، وإن شاء لأي منا أن يدعوا لإعادة النظر بالعلاقات اليومية مع شعب ودولة "الكيان الصهيوني"، ويسعى للتغير ويكافح لتحقيقه، فالأولى أن تكرس الجهود والطاقات لإصلاحها ومحاسبة لجنتها التنفيذية على بؤس أدائها بالتزامن مع الضغط في مجال الانفكاك عن دولة الاحتلال، وليس الهروب من مواجهة هذا الاستحقاق بمحاولة معالجة الأعراض وليس المرض ذاته.
إن منظمة BDS ليست الجهة الرسمية التي تحدد ما إذا كان أي شخص أو تجمع "خارج عن الصف الوطني" أم لا، وليست هي الجهة الرسمية التي ترسم الخط الفاصل ما بين نشاطات وأفكار وبرامج "التطبيع" وغيرها في السياق الفلسطيني، ويخطئ من يعتقد بغير ذلك. وبرأيي، لن تتمكن منظمة BDS، وغيرها من الناشطين في مجال مقاطعة "إسرائيل"، من تحقيق أهدافها في السياق الفلسطيني دون معالجة الخلط في مفهوم "التطبيع" على الجبهة الفلسطينية، حيث تستدعي العلاقة القسرية بين الشعب المحتل ودولة الاحتلال والاعتماد شبه الكلي عليه في معظم شؤون حياتنا صياغة مفهوم وتعريف خاص ل "التطبيع" في فلسطين، يأخذ بالاعتبار حقيقة أننا ما زلنا تحت الاحتلال ومضطرون للتعاطي مع المحتل قسراً. ولا بد أن يترافق ذلك مع الضغط والعمل على تبني هذا المفهوم رسميا من قيادة الشعب الفلسطيني، وإصدار التشريعات والسياسات المعززة له، وبحيث يعتبر من يتناقض مع هذا المفهوم خارجاً عن الصف الوطني. وإلى حين تحقق ذلك، فعلينا بالهداية والتثقيف والتوعية، والابتعاد عن التشهير والتخوين والقتل المعنوي العمد، الذي يفوق بآثاره إزهاق الروح على ما أعتقد. والله من راء القصد.