الجمعة  22 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

التطبيع مع من؟ بقلم: بثينة العيسى – كاتبة وروائية كويتية

2016-04-11 10:38:31 PM
التطبيع مع من؟
بقلم: بثينة العيسى – كاتبة وروائية كويتية

يمكن للمرء أن يردَّ على تهمة التطبيع بسرد مجموعة من الحقائق المادية، مثل أن يقول بأن الداعي هو جهة فلسطينية، والتصريح، تصريح صادر عبر السلطة الوطنية الفلسطينية، والدخول من حدود الأردن، والإقامة في فندق فلسطيني، وأن الزيارة هي ضمن حدود 67.

من السهل أيضًا أن نذكّر بأن زيارتنا الأخيرة لفلسطين، بناءً على دعوة من مؤسسة محمود درويش في رام الله، قد جاءت موافقة لمعايير الحملة الفلسطينية للمقاطعة الثقافية والأكاديمية لإسرائيل، والتي تنصُّ على أنه "عند توجيه دعوة لأي أكاديمي أو فنان أو مثقف عربي، تلتزم المؤسسات الفلسطينية بمبادئ ومعايير المقاطعة الأكاديمية والثقافية المقرة فلسطينيًا في تنظيم الزيارة بحيث تصر على أن يكون دخول أي حامل جواز سفر عربي إلى فلسطين المحتلة فقط عن طريق تصريح من سلطات الاحتلال، صادر من خلال السلطة،وليس بتأشيرة دخول، وذلك تأكيدًا على رفض التعامل مع دولة الاحتلال كدولة طبيعية".

هذا المعيار وضعته لجنة المقاطعة نفسها، ولكن يبدو أن البعض يريد أن يكون مقاطعًا أكثر من اللجنة المعنية بذلك.

نعم هناك ختم الاحتلال على ورقة التصريح، ولكن ماذا كنا نتوقع؟ فالبلاد تحت الاحتلال، فلماذا أصبحت زيارة السجين تطبيعًا مع السجّان؟

إن الوقوف أمام حاجز العدو لساعات هو شيء لا يذكر أمام ما يتعرّض له الإنسان الفلسطيني يوميًا، فلماذا تريدون لنا أن نرفض لأنفسنا، بأنانيةٍ معيبة، ما يتعرّض له الفلسطينيون كل يوم؟ ولماذا تريدون للفلسطيني أن يقبل لنفسه ما ترفضونه للزائرين العرب؟ ولمصلحة من هذه القطيعة بيننا نحن (سجناء الخارج) وبين الفلسطينيين، سجناء الداخل؟

إنَّ الاعتراف بالواقع شيء والاعتراف بشرعية الاحتلال شيء آخر. والختم على ورقةٍ سيتم إتلافها عوضًا عن الجواز هو رسالة رمزية لرفض دولة إسرائيل، وهو حل براغماتي لكسر العزلة والحصار.

هذه أمور يسهل قولها، ولكننا إذا توقفنا عند عتبة درء التهم فنحن لم نقل شيئًا في الحقيقة. والوقوف في منطقة الدفاع هو موقف جبان. ويجب علينا الآن أن نذهب أبعد.

يجب علينا أن نكفّ عن سرد الحقائق التي يسهل قولها وأن ننتقل إلى ما يصعب قوله، إلى الجوهري في الأمر؛ من المستفيد من ترويج فكرة التطبيع بهذا الشكل؟ الفكرة التي تخالف معايير ومبادئ لجنة المقاطعة عينها؟

إنني لا أجرؤ على القول على لسان الداعي الفلسطيني ما تعنيه الزيارة بالنسبة له، ولكن طالما أنه صاحب الدعوة، فهو يثمّن هذه الزيارات بكل تأكيد. بوسعي أن أتخيّل الضرر الجسيم الذي يمكن أن يلحق بأي مجتمع يُعزل علميًا وثقافيًا، ولا أعتقد بأن أحدًا منا يريد ذلك لفلسطين. إنني أتلمس من الدفء الاستثنائي الذي وجدته في كل من التقيتهم هناك أن مجيئنا – أنا والأساتذة الأعزاء؛ قاسم حداد، إبراهيم نصرالله، وحمور زيارة – يعني لهم الكثير.

ولكن.. ليس هذا ما أردت قوله.

ما أريد قوله هو أهمية زيارة فلسطين للزائر نفسه، لأنني أعتقد بأنَّ من يدخل فلسطين لا يغادرها وهو الشخص نفسه. وهو الأمر الذي أستغرب التقليل من جوهريته فيما يتعلق بالقضية.

من واجب أي كاتب توجَّه له دعوة لزيارة فلسطين (متطابقة مع معايير لجنة المقاطعة) أن يقبل. أقول من واجبه وليس من حقه. من واجبه أن يساهم في كسر العزلة على شعبٍ يعاني الأمرّين لما يقارب السبعين عامًا، ومن واجبه أن يأتي لكي يرى فلسطين تتحول من شريط إخباري في شاشات الأخبار إلى واقع محسوس. من واجبه أن يرى ما يتكبده الفلسطيني يوميًا على المعابر، والحدود، وفي جميع أشكال المقاومة منذ الخروج بعربة الخضار إلى الشارع، مرورًا بزرع أشجار البرتقال والزيتون، وانتهاءً بالحجارة والسكاكين. من واجبه أن يتصدى لتلك المسافة الشاسعة بين التوقع والواقع، بين الشعارات والأرض، بين الحقيقي والمتخيّل. من واجبه أن يجيء لكي يرى بأمّ عينه.. ما يحدث فعلًا.

إنَّ هذا التحول، هذه الولادة الجديدة، التي تحدث لمن يتسنى له دخول الأراضي المحتلة هي ما أعوّل عليه. لأن ذاكرة الكثيرين عن فلسطين توقّفت بعد النكسة. لأنَّ النضال ضد الاحتلال قد تطوّر واستوعب أشكالاً جديدة، دون أن يتسنى لنا كعرب أن نواكب هذه التحولات. لأنَّ النكبات والنكسات التي لحقت بمعظم الدول العربية جعلت فلسطين أبعد وأبعد، رغم أن الاحتلال – من وجهة نظري على الأقل – هو المنشأ الحقيقي لكل ما يحدث. لأنّنا بحاجة لرؤية كيف يعيش الفلسطيني، وليس فقط كيف يموت. لأن فلسطين تتحول في كل يوم إلى فكرة مجردة، إلى حزمة شعارات، إلى تنظير بارد في الذاكرة العربية وهذا.. يخيفني كثيرًا. إنها تتحول في وجداننا إلى ماضٍ، والقبول بأمرٍ كهذا في نظري هو أفضل تطبيع مع العدو.

أما الوقوف عند ختم الاحتلال على ورقة التصريح، واعتباره ذريعة لمزيد من العزل والحصار لهذا الشعب الصامد، فهو أمرٌ بالتأكيد يصبُّ في صالح العدو. ويجعل من مفهوم فكرة التطبيع، مفهوما ضد الفلسطينيين أنفسهم،لانصرة لهم.

من حقّ أي شخص أن يختلف معنا في الشكل الذي ارتأيناه للتضامن، ولعل هذه فرصة للحوار والمناقشة حول ما يعنيه التطبيع فعلًا، ولكن من المخيف أن يتحوّل اختلافنا على "شكل التضامن" سببًا للتشنيع والتخوين؛ الرديف السياسي للتكفير والطرد من الملة "القويمة" في عالمٍ ملتبس ومركّب أكثر مما نظن.