ضوء في الدَّغْل
الحدث.
أنْ تجلِسَ في مكانٍ متخيَّلٍ يُشبِه البحرَ، وتمسكَ بين يديكَ بلا شيء تحسبُه صنَّارة، ثمّ تحاوِل بجديَّة عجوزِ إرنست هيمنجواي الأسطوريَّة أنْ تصطادَ سمكة اللا مرئيِّ المغرية والمتملِّصة في آنٍ واحد، يشبِه إلى حدٍّ كبير الإبداع الذي ينطلقُ من أشياء العالمِ المرئية ليخوض مغامرة صوبَ المجهول في كلِّ شيء، صوبَ الجزر غير المكتشفة في هذا الكوكب المنهكِ بالاكتشاف. لأنَّ الإبداع الحقيقيَّ لا يرومُ وصف العالم كما هو، ولا يعنيه أنْ يقولَ للمتلقي بأنَّ الشجرة خضراء، أو النهر متدفّق، أو حضن الحبيبة دافئ، بل لا يعنيه مطلقا وصف هذه الأشياء. إنَّما يقصدُ إلى القبض على الخيالاتِ الأكثر جموحًا وهي تروي لنا قصة أخرى عن الحياة، قصة لم نعرفْها من قبل، ومع هذا لا يمكننا تكذيبُها، لأننا نشعر في أعماقنا القصيَّة بأنَّها حقيقية رغم سحابة الوهم التي تعلو محيَّاها. يأخذنا هذا التصوُّر إلى أبيات أبي نواس حين وصف تجربته الشعريَّة وهي تتمخَّض وتتكوَّن لتحمله إلى كونٍ آخر:
" غَيرَ أَنّي قائِلٌ مــا أَتاني مِن ظُنوني مُكَذِبٌ لِلعِيانِ
آخِذٌ نَفسي بِتَأليفِ شَيءٍ واحِدٍ في اللَفظِ شَتّى المَعاني
قائِم في الوَهمِ حَتّى إِذا ما رُمتُهُ رُمتُ مُعَمّى المَكانِ
فَكَأَنّي تابِعٌ حُسنَ شَيءٍ مِن أَمامي لَيسَ بِالمُستَبانِ"
هكذا صوَّر أبو نواس الحالة الملتبسة التي يعيشها وهو يمارس الشِّعر، حالة تاجُها الغموض الكثيف وسلطانها المتاه الجليل؛ هكذا أيضا تبدأ علاقة الإبداعيِّ بالروحانيّ، وهي علاقة على درجة كبيرة من التماهي والحساسيَّة، إذ تفترض من المبدع أنْ ينطلقَ من العناصر المشاهدة في الحياة، أي من المادَّة، ليعبِّر عن العناصر الخفيَّة، عن الظلالِ البعيدة للشيء، أي عن بعده الروحيّ باعتباره متجلِّيًا من خلالِ ملمحيْن أحدهما ماثل في العالم والثاني لم يوجدْ بعدُ: الأوَّل هو القيمة الخفيَّة في الشيء التي لا يقولُها ظاهرُه ولا توحي بها ملامحه المعروفة، وإنَّما تُكتشف في ثناياه. والثاني هو التفكير فيما يجبُ أنْ يكونَ عليهِ الشيء، أيْ خلْقه من جديد بواسطة اللغة واحتمالات تشكُّلها الوفيرة. وباجتماع هذين الملمحيْن يجد الإبداع نفسه واقفا في مهبِّ الرُّوحيّ الكبير الذي يعني في جوهره المثالَ الذي يظلُّ نائيًا وغير متحقِّقٍ لأنَّ ملابساتِ الواقع لا تؤدِّي إليه. فيظلُّ المبدع في هذه الحالة يركض
وراءه لعلَّه يلتقط بعضا من بروقه التي تسَّاقطُ في طريق انغماسِه في سماوات العمق. وهذه هي الحالة نفسها التي عبَّر عنها بيتُ أبي نواس الأخير في المقطوعة المثبتة سابقا.
يبتدئ الرُّوحي إذًا من التأمُّل فيما هي عليه الأشياء وفي ما يجب أنْ تكون عليه، وهذا ما لا يتوفَّر في جميع الإبداعات التي تكتب وتنشر، بل يوجد في قلَّة منها فقط، وهي تلك التي تقرأ كتابَ العالم المفتوح قراءة عميقة تؤطِّرها الأسئلة المربكة، ويقتادُها الأملُ في كسر الحكم الذي تحملِه مقولة ابن عربيّ الصوفي:"فما يُعلَمُ من العالَم إلا قدر ما يُعلَم من الظلال".هذه الرؤية هي ما تجعلُ موضوع الإبداع متجددا، لأنَّه برغم ما يعرفه من العالم لا يعلم منه القدر الذي يشبعُ حيرته، ولأنه يدرك بأنه بقدر ما ينغمسُ في الحيرة تنفتح أمامَه الأسرار التي تنغلق في وجوهِ المأسورين في سجون اليقين الموهم. أنْ تمتطي فرسَ الحيرة معناه أنك تمتلك فرصة لرصد بعض التجارب الخفية في العالم، وقبل ذلك في الذاتِ البشرية التي هي جزء من منظومة أكبر هي الكون الذي يوحي كل شيء فيه بانسجام بالغ بين عناصره المختلفة، والمتنافرة حدَّ التناقض أحيانا.
هل يصطادُ المبدع سمكة اللا مرئيِّ؟؟ قد لا يفعل مطلقا نظرا لصعوبة الأمر، لكنّ مجرَّد جلوسه أمام ما يشبه البحر حاملا في يديك لا شيء يحسبه صنارة يزيد من احتمالاتِ ظفره بهذا الصيد الثمين الذي لا يمنح نفسه إلا إلى نوع واحد من الإبداع، هو ذاك الذي يثور على الجاهز رؤية ولغةً وأسلوبًا، وينطلق، وهو يسبر تجارب الوعي البشريّ المتعددة، صوب الرَّحابة التي تتراقص في مراياها معاني الموجودات وجواهرها، والتي هي في أهمِّ تجلياتها:الروحانيَّات.