الفصل الأول (1-2)
لـ أنور الخطيب.
عيسى
(حين تولد في الكنيسة.. لا يعني أنك تشبه المسيح أو تكونه)
(اسمع يا عيسى، أنت مسلمٌ يا بُنيّ، لكنك وُلدتَ في كنيسة، حين أطعتُ أباك ولبّينا دعوةً من “الراهبة أنطوانيت” لحضور الاحتفال بعيد الميلاد، أنطوانيت كانت تعمل مع أبيك في قسم الأطفال في “مستشفى الأمل” قبل أن تقرّر الانضمام للدير والتفرغ للعبادة، على أمل التخلص من خطاياها والتكفير عن حبها للرجال الوسيمين. كانت سيدة جميلة ولطيفة، أحبها أبوك، ولم يتوقف عن الانجذاب نحوها حتى عندما غادرت المستشفى إلى الدير، وأنا أحببتها أيضا. في تلك الليلة التي وُلدتَ فيها، استقبلتنا أنطوانيت بعاطفة دافئة، أجلستنا في الصف الثالث في الصالة التي كانت تشهد القداس وشهدت صرخة الطلق، حاولتُ كتمان ألمي كي لا أفسد الاحتفالية لكنني فشلت، تألمت كثيرا يا بُني، وفي لحظة ما تعرضت لنوبات طلق متتالية ومؤلمة، استغثت بشكل لا إرادي بالعذراء، كانوا يعرفون أنني مسلمة، وحين سمعوا صرختي واستغاثتي توقف القداس فجأة، اعتبرها كل المصلين بشارة خير وبركة من بركات يسوع المسيح في ليلة ميلاده. تقدمت أنطوانيت نحوي مع زميلتها وسحبتاني إلى غرفة داخلية، وبعد الكشف قالت لي: “لا وقت للذهاب إلى المستشفى، من الأفضل أن تلدي هنا، وليساعدني الرب”. كان خروجك ناعما من رحمي، وبعد نصف ساعة من إطلالتك حملتك الراهبة الصديقة وقدّمتك لي، كانت تفوح منك رائحة البخور واللبان المحروق، حملتكَ بكفين مرتعشتين، نظرتُ في وجهك وقلت على الفور: “حبيبي يا عيسى، حمداً لله على سلامتك”، فابتسمتَ ابتسامة عريضة للحظة، فحضنُتك أكثر. نقلت أنطوانيت ما شاهدت وسمعت، انتشرت قصة تسميتك وابتسامتك بسرعة انتشار البخور في الكنيسة، سمعت كلمات الشكر من أعماق قائليها، وتدفقت نساء كثيرات بعد استئذانهن من أنطوانيت إلى “غرفة الولادة”، أردن رؤية الطفل الذي ولد في ليلة الميلاد المجيدة وسُمَي بـ”عيسى” وابتسم لسماع اسمه، وربما توقعن اكتشاف بعض الشبه بينك وبين المسيح. صرتَ حديث الكنيسة، انتشر خبر اسمك ومعه قصة أخويك اللذين فارقا الحياة بعد لحظات من خروجهما من رحمي، وأنك المولود الثالث الذي بقيت على قيد الحياة، وفجأة، ارتفعت التراتيل تمجد عيسى المسيح، كأن معجزة تحققت في ليلة الميلاد.وبعد الانتهاء من القداس، أرسل لي الأب جرجس معبّرا عن رغبته بمباركتك، ارتبك أبوك في البداية، لكنه وافق بعدها مبتسماً، خاصة حين قال له الأب: “مباركتي له لا تجعله مسيحياً”. من المؤكد أنك تدرك هذا يا بني، وربما سمعت بعض الأقاويل والشائعات من هنا أو هنالك، لكنني اسرد عليك قصتي معك لأؤكد لك أنك حين تولد في الكنيسة لا يعني أنك تشبه المسيح أو تكونه، مثلما أن يكون اسمي مريم، لا يعني أنني العذراء، أقول لك هذا الكلام وقد أصبحت ناضجا، وستدخل المرحلة الثانوية بعد شهور قليلة، فلا تندهش من تعامل الناس معك، حُباً أو تحفّظاً أو كرهاً، هناك من سيحبك ويتقرب إليك دون سبب، وقد تقابل امرأة تمد كفها لتتبارك بك، لكنك لست نبياً ولن تكون، أنت مبارك فقط فاحفظ البركة، ولست معجزة لكن قد يحدث معك ما يشبه المعجزة، فاحذر أن تخلط بين مكان الولادة وبين اسمك، ولا علاقة بين بقائك حيا ومكان ميلادك، ولا تفهم أن أخويك ماتا لأنهما ولدا في البيت أو المستشفى، ماتا لأن الله لم يكتب لهما الحياة، طبعا لم يكن الأمر بهذه البساطة، لقد مرت ست سنوات من زواجنا حتى أتيت يا عيسى، بعد عامين من زواجنا وُلدَ الطفل الأول، وكان ذكرا، ومات مباشرة، وبعد عامين وُلد الذكر الثاني ومات كما الأول، وبعد عامين حضرت أنت وحييت، لم يجد الأطباء سبباً لوفاة الطفلين، لكنهما توفّيا، كأن الموت يا بني يأتي بدون سبب أحياناً، أو بدون تفسير، ولهذا علينا تقبّله كما هو، ببساطة وبدون تعقيد، لكن عندما تُمنح لنا الحياة، فإننا ننشغل بتفسير أمور كثيرة، فحين أتيت يا عيسى تعقّدت حياتنا، أنا وأبوك مع أهلي وأهله، خاصة حين علموا أنك ولدت في كنيسة، بعضهم قاطعنا بدون تفسير أو عتاب، وبعضهم تواصل معنا بمحبة أكبر، وبعضهم أخرجنا من الملة واعتبرنا كفاراً، وسترى في حياتك هذه الفئات الثلاث من الناس، فلا تحب أحدا حباً شديدا كي لا تُصدم بكراهيته، ولا تكره أحداً كرهاً شديدا كي لا يفاجئك بمحبته، ولا تقتل، واصبر على الأذى والفضول، “فلكل امرئ من اسمه نصيب”. لعلك لمست دهشة الناس من بقائك حياً، وينظرون إليك كالميت الحي أو الحي الميت، وربما تعامل معك بعضهم كشبح يفرّون منه ويخشونه، وقد تعاملك امرأة عاقر أو زوجة تعيسة كمبارك، وربما تحولت في بعض الأوقات إلى أنموذج لكسر العقم وتعويذة توقف وفاة الأطفال حديثي الولادة، ولكن اعلم يا بُني، لن تتمكن من التغلب على عقم امرأة ولن تهب السعادة لامرأة تعيسة.)
كان الوقت بعد انتصاف الليل بقليل، وكان عيسى يجلس في مكتبه الواقع في الدور الأول من دائرة دفن الموتى، يفكر بما ستؤول إليه الحرب بين الجيش والمسلحين، ففي أوقات الحرب ينصبّ التفكير على المستقبل، الذي يحتضن الزهور وشواهد القبور والضحايا والأحياء السالمين والمعافين والمعاقين واللاعنين والملعونين والمهزومين والمنتصرين. والمستقبل الغامض القلق يستدعي الماضي المكتمل الحامل للنبوءة المتحققة وغير المتحققة، وماضي عيسى لا يتجاوز كثيرا أمه وأباه والمدرسة والخدمة العسكرية وفترة عمله في دائرة دفن الموتى.
كان صوت أمه أول الحاضرين من الماضي الذي بدأ يشعره سحيقاً، فالحرب تباعد بين الأزمنة، وتجعل اليوم الذي سبق اشتعال شرارتها مفصلياً، حتى لو كان هذا اليوم قبل اسبوع، والحرب تستدعي الأمهات الغائبات، فالبرد ينتشر أيضا في صيف القتال، وعيسى يعتقد جازماً أن كل حامل بندقية لديه توق كبير لحضن أمه، هو لا يحمل بندقية، وقرر ألا يحملها مهما طال أمد القتال، لكن توقه لأمه أكثر من الجنود، فهو يرى الموت أكثر منهم، والأمهات يقللن من وطأة الموت قليلا، حتى لو حضرن بأصواتهن فقط، كما حدث بعيد انتصاف تلك الليلة، فرح به كأن صاحبته أمام عينيه، وأنصت لكل حرف من كلامها، وكل قصة من قصصها القليلة، وخاصة قصة ميلاده في الكنيسة، وتداعياته، وانعكاساتها على النساء، وما لم تقله أمه له، إن بعض أزواج النساء اللواتي فقدن أبناءهن في اليوم الأول لظهورهم إلى الدنيا، حرّض زوجته على الولادة في الكنيسة، وكانت نتيجة ذلك استمرار زيجات كثيرة، وهدم علاقات زوجية أكثر، لا سيّما عند الرجال الذين يرون في دخول الكنيسة كفراً، فكيف بحضور قدّاس أو عيد الميلاد! أو مباركة الأب جرجس للمولود القادم.