أثارت العملية ، التي نفذت ضد المجلة الفرنسية " شارلي إيبدو " جدلا في أوساط واسعة . ففيما ركز البعض على إدانة هذا العمل الإجرامي واعتبره إرهابيا ، داعيا للتعاطف مع فرنسا ، راح البعض يعطي مبررات ويبحث عن دوافع لهذا العمل ولا يرى حاجة للتعاطف مع فرنسا . وبينما اعتبر بعض العرب والمسلمين أن هذا العمل هو ردة فعل على سياسات فرنسا وتدخلها في شؤون العرب والمسلمين ولم يدرك النتائج الخطيرة التي يمكن ان تترتب على هكذا عمل على الموقف الفرنسي الرسمي والشعبي تجاه الإسلام والمسلمين وقضية فلسطين ، رأى آخرون أن هكذا عمل يسيء للإسلام والمسلمين ويستدعي تدارك الأمور حرصا على كسب فرنسا وخوفا من فقدان التعاطف الشعبي الفرنسي والأوروبي مع قضية فلسطين والقضايا العادلة لشعوب المنطقة . ولم يخلو الأمر من وجود ارتباك لدى الكثيرين من العرب والمسلمين ، إذ أن بعضهم لاحق موجة الغضب وتبنى شعار " أنا شارلي " فيما رفض آخرون ذلك واعتبروه مزايدات وتملقا لا داعي له .
وحرصا مني على توضيح الأمور ، والوصول إلى موقف عقلاني متوازن من الحدث الذي بات يتصدر المشهد الأوروبي والعالمي ، ارتأيت أن أدلي بدلوي في هذا الشأن موضحا بعض الأمور التي أعتقد أن الموقف مما يجري يتوقف على الإمساك بها .
1. فرنسا ، بلد جمهوري ديمقراطي حر ، من أولى الدول في العالم التي عرفت طريق الحرية والإخاء والمساواة ، وكان ولا يزال لأفكار ثورتها ودساتيرها ومواثيقها تأثير بالغ في الثقافة والفكر الإنساني . وهي بلد الحريات والتعددية الفكرية والسياسية بامتياز : حرية الفكر والتعبير والمعتقد والصحافة والإعلام والتنظيم النقابي والسياسي وغيرها من الحريات الشخصية والعامة ، المكفولة بالقانون.
2. تتواجد في فرنسا أكبر جالية مسلمة في أوروبا ، يصل تعدادها ، حسب إحصائيات حديثة جدا ، قرابة 5 مليون مسلم ، جلهم من الدول العربية الشمال افريقية ، وتكاد لا تخلو مدينة فرنسية من وجود مساجد وجوامع يمارس فيها المسلمون عبادتهم وصلاتهم وشعائرهم الدينية بكل حرية دون تدخل احد. لكن وللأسف ، عانى و يعاني الكثير من المهاجرون ، بمن فيهم من ولد في فرنسا ، من سياسات و ممارسات و إجراءات عنصرية ، منها ما هو حكومي ومنها ما هو مجتمعي ومن مراكز وأوساط عنصرية متطرفة وصهيونية أيضا ، منعتهم من الاندماج في المجتمع الفرنسي ، بل وحولت اغترابهم إلى نزعات انعزالية لا تخلو من التطرف تحت دواعي ومبررات الحفاظ على تميز الهوية ، بل ودفعت البعض ، وبمساعدة دول خليجية وجمعيات وهابية وسلفية ، ليكونوا عرضة لتأثير السلفية تحت غطاء الدعوة ، مما ولد في صفوفهم مناخا خصبا للتطرف ، رفد الإرهابيين في أفغانستان و الجزائر والقاعدة وتونس والمغرب ومالي وسوريا ، وأخيرا داعش ، ولعبت السياسة الفرنسية التي تدخلت في شؤون بعض البلدان ، دورا في إذكاء هذه النزعات المتطرفة ، وآخرها التدخل في سوريا والحرب ضد داعش .
3. بالرغم من تاريخها الاستعماري ، وعلاقتها المميزة بإسرائيل بعيد قيام الأخيرة ، وبالرغم من حرصها على استمرار العلاقات المميزة العابرة للأطلسي بين أوروبا وأميركا ، إلا أنها كانت السباقة لاتخاذ خطوات أوروبية استقلالية ووحدوية لتعزيز مكانة أوروبا ودورها المستقل ، وحاولت القيام بمقاربات جديدة لقضايا العالم الثالث بما فيها قضية الصراع العربي الإسرائيلي ، وفي القلب منه القضية الفلسطينية ،اختلفت فيها مع الولايات المتحدة الأمريكية . ومؤخرا كانت من الداعمين لفلسطين في عضويتها باليونيسكو ومن ثم منح دولة فلسطين العضوية المراقبة في الأمم المتحدة وأخيرا المساهمة بالمشروع الذي قدم لمجلس الأمن في أواخر كانون أول عام 2014 بشأن الاعتراف بالعضوية الكاملة لدولة فلسطين في حد زمني أقصاه عام2017 ، وهو المشروع الذي لم يلق تأييد تسعة دول بسبب الضغط الأمريكي والإسرائيلي وبالتالي فشل عرضه على مجلس الأمن.
4. الرأي العام الشعبي في فرنسا ، وبدعم من الأحزاب الكبرى ، بات يتعاطف بشكل جلي مع الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة ، وثمة حركة تزداد اتساعا وانتشارا لعزل إسرائيل ومقاطعتها وسحب الاستثمارات الفرنسية منها في إطار الحركة الفلسطينية العالمية المعروفة اختصارا ب BDS . ومع الموقف الجديد لفرنسا الدولة والحكومة المتعلق بالاعتراف بدولة فلسطين وشجب أعمال إسرائيل الإجرامية ، استشعرت إسرائيل والمجموعات الصهيونية الخطر ، فقامت ولا تزال تقوم بشن هجمة شرسة ضد ما تسميه بالنزعات والسياسات والمواقف المعادية للسامية في أوروبا ، في مسعى منها للتأثير على فرنسا التي عاشت تاريخا سابقا أسودا لمعاداة السامية ، وعانت من النازية التي احتلتها في الحرب العالمية الثانية .
5. تأسست مجلة " شارلي إيبدو" الساخرة عام 1969 ، أبان ما عرف بالثورة الطلابية وحركة اليسار الجديد ، واعتمدت على حرية الرأي والتعبير والصحافة والإعلام والفكر والمعتقد ، لتنشر رسوماتها وتعليقاتها الساخرة . وتوقفت لفترة ، لكنها عادت للصدور عام 1994 ، ويصل تعداد قرائها اليوم إلى مئة ألف قارئ. ومنشوراتها سخرت من سياسيين فرنسيين ، ومن أفكار ومجموعات وديانات منظمة ، وشملت البابا بينديكيت . ولم تثر جدلا واسعا حولها ، إلا بعد أن قامت عام 2006 بإعادة نشر الرسومات الدنماركية الشهيرة التي أساءت للرسول الكريم . وبعد أكثر من خمس سنوات ، وتحديدا في الثالث من آذار عام 2011 تعرض مقر المجلة لإلقاء زجاجات حارقة من إسلاميين متشددين . فقامت المجلة ردا عليه ، بإصدار عدد خاص لها مغيرة اسمها الى " شريعة إيبدو " ووضعت اسم النبي محمد كرئيس للتحرير !! أما الاعتداء الأخير عليها ، فقد جاء على خلفية نشرها لكاريكاتير ساخر من زعيم تنظيم " داعش " أبو بكر البغدادي. ومن الواضح أن منفذي العمل ضدها إسلاميين متشددين ، بات يجزم ، حسب المعلومات المتوفرة ، بأن لهم صلة بتنظيم القاعدة وداعش ، ولهم صلة بتجنيد المتطوعين من الشباب المسلم في فرنسا للقتال إلى جانب النصرة وداعش في سوريا والعراق .
6. سارعت حكومات العالم لادانة هذا العمل الإجرامي واعتبرته عملا إرهابيا ، وتعاطف العالم بأسره مع فرنسا حكومة وشعبا ، وباتت صفحات التواصل الاجتماعي مليئة بصورة غلاف تقول : " Je Suis Charlie " ( أنا شارلي ) ، في إشارة لتضامنها مع المجلة وضحايا العملية الإرهابية . واستنفرت فرنسا ، وخرجت مظاهرات تندد بالعمل الإرهابي في باريس وليون وطولوز وليل ونانتز ومارسيليا وغيرها من المدن والمناطق الفرنسية ، وسارعت الأوساط الفرنسية المسلمة والمؤسسات والقوى المسلمة الموجودة في فرنسا للمشاركة بالإدانة والشجب والاستنكار.
وما يلفت النظر في تداعيات الأمور ، ليس إدانة الإرهاب ، فهذا أمر مسلم به ، بل ويستحق أن يؤكد عليه ، وأن يعبر أصحاب ودعاة حرية الرأي والتعبير والمعتقد عن موقفهم بوضوح منه، باعتبار أن هذا العمل هو إرهابي من طراز مقيت لا يقل بشاعة عما ارتكبته مجموعات الإرهاب في العالم ومنها القاعدة وداعش والنصرة وبيت المقدس وغيرها من أعمال قتل وتنكيل بالأبرياء . وهو يستحق الإدانة والاستنكار من العرب والمسلمين بخاصة لأنه يزيد ويكرس من الصورة النمطية التي باتت تسكن عين وعقل الغرب عن الإسلام والمسلمين ، التي تعتبر الإسلام دين عنف وقتل واتباعه متطرفين متشددين وإرهابيين ، بعيدين عن روح التسامح واحترام الديمقراطية وحرية الرأي والمعتقد. وهذا ما حاولت أوساط يمينية فرنسية أن تذكيه وتركز عليه كما فعلت لوبين وآخرين ، فيما اعتبره البعض معركة في حرب الحضارات وعمل أجرامي ضد القيم التي تتشارك بها الدول الديمقراطية الحرة ، وكذلك فعلت إسرائيل في محاولة لتكريس تلك الصورة النمطية واستدرار عطف معها في ما تسميه بمعركتها ضد الإسلام الراديكالي ، حيث قال رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو معلقا على تلك العملية :
“العملية الإرهابية القاتلة التي ارتكبت أمس بحق حرية التعبير تشكل أوضح مثال على استهتار الإسلام الراديكالي بالقيم التي نعتز بها.نفس القوى التي تهاجم أوروبا تهاجم أيضاً إسرائيل. نحن نقف مع أوروبا، وعلى أوروبا أن تقف مع إسرائيل”.
وتابع يقول : “هؤلاء المتطرفين يشكلون جزءً من حركة عالمية وهذا يلزمنا على الرد بشكل عالمي. أعتقد أنه بفضل قوة إصرارنا وأفعالنا الموحدة نستطيع أن نتغلب على هذا التهديد الذي يوجه ضد حضارتنا المشتركة”.
ويبدو أنه تحت حمأة الموجة الناقمة على "الإرهاب الإسلامي" ستجد هذه الأقوال صدا لها ، وسيسكت الكثيرون عن إثارة موضوع الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الإنسان الفلسطيني وهدر كرامته واحتلالها البغيض وسياستها الاستيطانية المحمومة وجرائمها بحق الشعب الفلسطيني التي ارتكبت وترتكب تحت مرأى وبصر العالم أجمع ، وآخرها جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت بحق شعبنا في غزة أبان العدوان الغاشم الذي استمر واحد وخمسين يوما تاركا وراءه دمارا هائلا وضحايا بالآلاف ومنهم المشردين الذين لا مأوى لهم والذين يكابدون الشقاء والبؤس والجوع وبرد الشتاء القارص. وهو ما يذكرنا بالسكوت عن جرائم هذا الكيان الغاصب بعيد الهجوم الإرهابي على نيويورك عام 2001 وما تبعها فيما بات يسمى بالحرب على الإرهاب ، وهو ما استغل من قبل حكومة إسرائيل لإلصاق تهمة الإرهاب بالنضال الوطني التحرري الفلسطيني والإمعان في ممارسة إرهاب الدولة الصهيونية دون أي رادع .
وبدلا من أن ترتدع وسائل الإعلام والصحافة الأوروبية عن نشر رسوماتها الكاريكاتورية الساخرة ، كما أراد من نفذ العملية ومن يقف وراءهم ، راحت تنشر رسومات شارلي ايبدو على نطاق أوسع وصل إلى دول نأت فيها وسائل الإعلام تاريخيا عن مثل هذه الإعمال كايطاليا مثلا. وركب المتطرفون الفرنسيون موجة الغضب ولجأوا للاعتداء على جوامع ومساجد ومحلات المسلمين في فرنسا ، وقد تتطور الأمور إذا لم يجري تداركها إلى ما هو أبعد من ذلك ، وقد تعم موجة العداء والغضب الشارع الأوروبي بأكمله.
وللأسف غيبت وسائل الإعلام والكثير من المعلقين ، ربما عمدا وربما دون قصد أو دون معرفة ،خبر ومعلومة أن أحد الشرطيين الفرنسيين الذين قتلا في العملية الإرهابية وهما يتصديان لمرتكبيها اسمه أحمد مرابط !!.
وأحمد مرابط هذا ، من أصل عربي مسلم ، دفعته الظروف الخاصة والعامة المحيطة لأن يجد ويحقق ذاته في المجتمع و النظام الفرنسيين ، ولم يصبح عرضة لتأثير السلفية والوهابية والقاعدة وداعش مثل آخرين من ذات الأصول والمنابت ، بل سقط ضحية للإرهاب من أبناء جلدته .
بعد كل ما تقدم ، وإذ قد يستعصي على البعض معرفة حقيقة ما جرى ويجري ، وما هو الموقف الممكن اتخاذه بشأن هذا العمل الإجرامي ، أحيل الجميع لسؤال : لمصلحة من ارتكب ويرتكب مثل هذا العمل ؟؟؟
وعليه أرجو أن نبني موقفا يليق بالعرب والمسلمين ، موقفا يدين الإرهاب والإرهابيين ويعمل للخلاص منهم في مجتمعاتنا التي ذاقت وتذوق الأمرين من أعمالهم الوحشية ، التي مسخت الدين ووصمت العرب والمسلمين بالإرهاب . أما فرنسا ، التي لا بد وأن نبدي تعاطفنا معها ، فعليها أن تقف جديا أمام سياساتها الخارجية والداخلية ، ولا تسمح لمن هم ضد القيم الإنسانية الفرنسية المنتشرة في العالم أن يفرضوا سياساتهم وأجنداتهم التي تتغذى على الموروث الاستعماري والعنصرية والصهيونية . وعلى الرغم من أنني مع احترام حرية المعتقد ، واعتبر ذلك من أسس بناء المجتمعات العلمانية الحديثة وركيزة أساسية من ركائز الديمقراطية ، الا أنني لست مع الإساءة للأديان وأصحاب الديانات على اختلافها وتنوعها ، وأرى أن أمثال سلمان رشدي ، والصحيفة الدنماركية صاحبة الرسومات المسيئة وكذلك شارلي أيبدو ، ومن يلحقها على ذات الدرب ، تستفز مشاعر المسلمين ، وتساهم في تغذية الكراهية . ولكني في مطلق الأحوال ، لا يمكنني أن أبرر العمل الإرهابي الإجرامي الذي ارتكبه هؤلاء الإسلاميين المتطرفين ، لأنه يصب زيت الحقد والكراهية على نار العداء التاريخي ، في وقت بات العالم فيه بأمس الحاجة للحوار ونبذ العنف ومحاربة الإرهاب وإرهاب الدولة ، والاحتلال الأجنبي والتدخل بشؤون الغير وعدم احترام إرادة الشعوب وحقها في تقرير المصير بحرية ، والعنصرية البغيضة والابارتهايد، ومرحلة نحن الفلسطينيين أكثر ما نكون فيها بحاجة للدعم الفرنسي ولتضامن الشعب الفرنسي ، وأوروبا والعالم بأسره في مواجهة العنصرية والابارتهايد والإرهاب الصهيوني . وأختم بقولي :
JE SUIS CHARLIE, JE SUIS AHMED MORABET