لا يريد الرئيس الأمريكي أو مساعدوه التسرع في إعلان بنود صفقة القرن. ويعود السبب الأساس في ذلك على الأرجح إلى خلوها من أي بنود تهم أحدا باستثناء إسرائيل. باختصار وتبسيط تامين يبدو لنا أن الصفقة تعني جوهرياً المحافظة على الوضع القائم. ومن المعروف أن الولايات المتحدة تفكر دائما أن نقطة الانطلاق لحل أية مشكلة سياسية هي اللحظة الراهنة التي تجبُ ما قبلها. وبناء على هذا الفهم قد يكون المغزى الفعلي لصفقة القرن هو الاتفاق على بقاء الوضع القائم ليكون هو خاتمة المطاف في الصراع الدائر بين العرب، وعلى رأسهم الفلسطينيين، وإسرائيل/الصهيونية. أما إذا لم يرد العرب ذلك، فإن عليهم أن يتوقعوا خسائر أكبر في المستقبل. على سبيل المثال كان الأمريكيون يرددون طوال الوقت بخصوص الراحل عرفات: "إنه لا يضيع أية فرصة لكي يضيع الفرصة." He misses no opportunity to miss an opportunity
إن ما عرض على عرفات كان هزيلا دون شك، خصوصا في كامب ديفد سنة 2000، لكنهم الآن لا يقدمون ذلك العرض السخي مرة أخرى. والسبب وراء ذلك كله هو ميزان القوة: إنك لا تأخذ إلا ما تضمنه قوتك بالفعل، وإذا كانت قوتنا قد تناقصت فلسطينيا وعربيا منذ "الربيع" وبسببه، فلا بد أن ما نستحقه قد تناقص أيضا.
بداهة يمكن القول إن حق العودة قصة منتهية. ولا بد أن جل ما ستفعله الولايات المتحدة في هذا الشأن هو "مساعدة" اللاجئين الفلسطينيين على الاستقرار في أماكن تواجدهم، وربما تنشأ حاجة إلى إعادة توطين بعض منهم –مثل لاجئي لبنان- في بلاد أخرى من قبيل العراق أو كندا أو حتى دولة سيناء/غزة الموعودة.
ويظل موضوع الدولة الفلسطينية محور مناقشات مستمرة تتصل بمن يقدم الأراضي اللازمة لها. ويقال إن أحد الاقتراحات تتضمن أن تقدم الأردن الأرض اللازمة للدولة الفلطسينية بينما تاخذ أرضا مقابلة من السعودية في حين تأخذ السعودية جزر سنافر وتيران من مصر عوضا عن أراضيها.
من ناحية كوشنير يعتقد الرجل أن فلسطين بالذات لن تكون المكان الأمثل لتحقيق الآمال والأحلام الففلسطينية. ذلك أن خطته تتضمن على ما يبدو بقاء الجيش الإسرائيلي ودوريات الشرطة الإسرائيلية في أنحاء الضفة الغربية كافة. وهذا يعني بوضوح تام أن أية دولة فلسطينية مهما تصاغرت وتضاءلت لن تكون ممكنة إلا خارج الضفة. بالطبع سيكون هناك حاجة كبيرة إلى الخيال المبدع من أجل تصور وضع الفلسطينيين الذين سيتواجدون داخل إسرائيل من دون أن يتحولوا إلى مواطنين. لكن فكرة الهويات الزرقاء التي يحملها المقدسيون تبين أن الحلول ليست محالاً، وأن إسرائيل لن تعييها الحيلة في اختراع وضع قانوني خاص بسكان الضفة الذين يقيمون على أرض إسرائيل دون أن يكونوا إسرائيليين.
بالطبع تشير التصريحات الأخيرة لسفير الولايات المتحدة لدى إسرائيل ديفد فريدمان، إلى عنصر هام من خطة "السلام" الأمريكية الجديدة التي تبشر على نحو حاسم بانطلاق مشروع إسرائيل الكبرى. هكذا أقر الرجل علنا بحق إسرائيل في ضم أراض من الضفة بعد أن أقر رئيسه بضم القدس والجولان. ولا يمكن أن نستبعد أن هذه البالونات التجريبية هي المقدمة للإعلان الصريح عن الضوء الأمريكي الأخضر بضم الضفة كلها. ويحلو للبعض في هذا السياق أن يردد أن الولايات المتحدة تخضع لتأثيرات اللوبي الصهيوني، ولكن واقع الحال يشي بأن الولايات المتحدة معنية بتحقيق حلم إسرائيل الكبرى الذي يعني مزيدا من الأراضي والهيمنة على حساب العرب جميعا الذين يبدو مفيدا على ما يبدو بالنسبة للاستراتجيين الأمريكيين أن يتم تقسيمهم أكثر وصولا إلى دويلات صغيرة بحجم الأردن أو دول الخليج مع عدم الاعتراض على تحويل الدول العربية إلى دول فاشلة كلية إن لم يكن خيار التقسيم هو الأسهل.
التقسيم أو الفوضى هو التصور الأمريكي للمنطقة العربية، وهو في رأينا ما تساهم به في هذه الأيام بقوة واضحة النزاعات القطرية-التركية/السعودية-الإماراتية في أكثر من ساحة عربية، وصولا إلى تمزيقها كلها إن أمكن. ولعل ذلك ما يفسر بمقدار معين حالة الاستكانة التي يعيشها نظام السيسي تجاه السعودية متوهما أن ذلك قد ينجيه من أن يكون أحد البيادق التي سيتم توظيفها من ناحية، وتفتيتها والتلاعب بها من ناحية أخرى. للأسف هنالك مؤشرات كافية على أن المملكة السعودية والإمارات على وجه الخصوص راضيتان من الغنيمة بالسلامة والتمتع بدور المحظيتين لدى المهيمن العالمي الأمريكي، والمهيمن الإقليمي الإسرائيلي الذي يتم نفخه بالأسلحة الحاسمة من قبيل الغواصات ذات القدرات النووية الفائقة التي تقدمها ألمانيا للدولة العبرية عن طيب خاطر.
ليس من السهل علينا أن ننسى أن محمد بن سلمان قبيل حادثة "نشر" الصحفي الخاشقجي، كان قد قال لمجموعة يهودية في الولايات المتحدة إن على الفلسطينيين أن يقبلوا صفقة القرن المقدمة من الرئيس ترامب، أو يغلقوا أفواههم ويتوقفوا عن الشكوى والتذمر. ولا بد أن هذا الموقف لم يتغير جوهريا على الرغم من أن الزخم السعودي تجاه إسرائيل قد خفت وتيرته بسبب هذه الفضيحة المزعجة التي ترافقت مع فشل عسكري في اليمن على الرغم من الترسانة الضخمة من الأسلحة، والجرائم الوحشية التي ترافق تنفيذ العملية العسكرية هناك.
تبقى نقطة غاية في الأهمية في لوحة الصراع الدائر في المنطقة والذي يمكن أن تدفع فيه سوريا وفلسطين الثمن من ترابهما الوطني بالذات. هذه النقطة تتصل بالموقف الروسي الذي لا يستشعر أية مخاطر إسرائيلية جدية على نفوذه في المنطقة. ولا بد أن الرفض الروسي لبيع إيران صواريخ اس 400 التي وافق على بيعها لتركيا، إضافة إلى ردة فعل روسيا الباهتة تجاه قرار الاعتراف بضم الجولان، وتجاه كل ما يتصل بقضية فلسطين بما في ذلك خطط صفقة القرن، كلها مؤشرات على أن الدور الروسي في المنطقة لن يكون مؤثرا من ناحية ردع الحلف الأمريكي/الإسرائيلي/السعودي، بل إنه يمكن أن ينضم له في حال تلقي موسكو الثمن المناسب. ولعل المشروع البديل في المستوى الكوني غير ممكن حتى اللحظة باعتبار أن القوة الصينية الصاعدة ما تزال بعيدة واقعيا عن امتلاك المؤهلات الضرورية لتحمل أعباء مثل هذا الدور. ولا بد أن أزمة هواوي تعطي الانطباع الكافي عن مدى التحدي الصيني الذي يؤرق الولايات المتحدة، كما أنه يعطي الانطباع في الوقت ذاته عن الوقت الذي ما تزال تحتاجه الصين لكي تدشن زمنا كونيا جديدا.
لكن تجارب إيران في حربها ضد العراق، وتجربة حزب الله في مواجهة إسرائيل إضافة إلى الصمود اليمني الأسطوري، قد تقدم الأمثلة حول البديل الوحيد في هذه اللحظة والمتصل بالتزام الفلسطينيين، أو على الأقل بعض فصائلهم السياسية المقاومة، بالتحالف مع ما يعرف بمعكسر المقاومة لسد الطريق في وجه المشروع الأمريكي وحلفائه وأنصاره. وليس هناك فيما نتوهم أية بدائل واقعية أخرى، وإذا لم يكن بوسع هذا الحلف بداهة أن يدحر الاحتلال والهيمنة الصهيونية في الإقليم في هذه المرحلة، فإنه قادر على الأقل على منع فرض الأمر الواقع المتصل بالتخلص من حق العودة، وابتلاع الضفة، وإنهاء القصة الفلسطينية كلها في سياق حل يتحقق خارج أرض فلسطين، وعبر وكلاء عرب تحتويهم الولايات المتحدة وتشتريهم بالأموال السعودية بالذات.