فرق شاسع بين الفقر والفقراء والعلاقة بينهم كالعلاقة بين فكرهم وفعلهم ففقر الفكر هو المتأتي عن فعل فقراء الفكر الذين عادة ما يصوغون فقرا فقيرا يمكن تسميته بفكر الفقر في محاولة للقفز على حالة التخلف الناجمة عن افعال فقراء الفكر غير المدركين لواقعهم والذين يواصلون القبول بواقعهم مبررين حالة الفقر التي يعيشونها بمبررات غيبية يمكن ان تحمل صفة فكر الفقر اعتباطا أو أن تكون متأتية عن ارادة اولئك المعنيين بتكريس حالة الخنوع والقبول بما هو قائم مبررين ذلك بأدوات واليات ومعطيات تكرس فكر الفقر الذي يقدم مبررات للفقر تجبر الفقير على قبول حاله الذي يعيش افرادا وجماعات وتقدم له حلولا بعيدة لكنها اجمل بكثير من واقع حاله تمنحه القدرة على الصبر بانتظار ذلك الغيب الاجمل بما يمكن مقارنته باي واقع, وكل فكر لا ينقل صاحبه خطوة عملية واحدة معتمدا على اساس الفعل يبقى حالة من التخاريف لا تغني لا يملك الفقير رفضه او حتى نقضه, وكل الدور الذي يقوم به فكر الفقر هو التخدير اما اعتمادا على ماض بعيد كاذب او انتظار غد غيبي وفكر الفقر هو المسمى النظري لتلك الحالة التي تنتهي عادة بفقر الفكر مملوكا بالمطلق لفقراء الفكر, وما يعيشه العرب بالثقافة والفكر والاعلام ينتمي بالمطلق هذه الايام الى فقراء الفكر وهو نتاج افعالهم الذي لن يعطي ابدا سوى فقر الفكر الذي ينتقل بصاحبه تلقائيا الى حالة التخلف التي نعيش.
يقول ادوارد سعيد في كتابه " الادب المحظور المضمن بكتابه " سياسات الاستلاب " ( هناك تعمد وقصدية وربما عدائية من نوع ما للأدب المكتوب باللغة العربية في الغرب ) وقد يكون ذلك صحيحا لكن السؤال الاهم الذي علينا ان نطلقه هو ما السبب وهل قدمنا شيئا مفيدا وضروريا للآخرين اولا ثم ما الذي يمنعنا نحن من القيام بعملية الترجمة والنقل من العربية الى اللغات الاخرى هذا اولا ثم لماذا لم تكن هذه القصدية والعمدية مثلا موجودة بترجمة كتاب الف ليلة وليلة 274 مرة وهو ما يؤكد ان الغرب اراد ان يأخذ عنا ما يريده ان يكون لنا وما تقدمه الف ليلة وليلة هي تأكيد للصورة الخيالية المرسومة لنا في ذهن الغربي والتي لا تخرج عن صورة الخيال الشرقي المنسلخ كليا عن الواقع والحقيقة.
مجموع ما تمت ترجمته للعربية من اللغات الاخرى منذ عصر الخليفة المأمون الى عصرنا الحالي 10 آلاف كتاب وهو يساوي ما تترجمه اسبانيا في عام واحد فقط وفي ثمانينيات القرن العشرين اظهرت الاحصائيات ان حصة كل مليون عربي من الكتب المترجمة هي اقل من كتاب واحد في السنة بينما كانت حصة المليون هؤلاء في هنغاريا 519 كتاب وفي اسبانيا 920 كتاب وحسب صحيفة البيان الاماراتية الصادرة بتاريخ 19/6/2019 فن كل 80 مواطن عربي يقراون كتابا واحدا في السنة وهو بمعدل 6 دقائق لكل مواطن عربي في السنة بينما يقرا المواطن الاوروبي 200 ساعة في السنة, تبلغ مبيعات الكتب في العالم سنويا 88 مليار دولار 30مليار دولار منها في امريكا و10 مليار في اليابان وحدها و 9 مليارات في بريطانيا بينما لا تزيد حصة العالم العربي من هذه المبيعات عن 1% .
في العام 1936 كان ظهور اول بث تلفزيوني في بريطانيا بينما بدأ اول بث تلفزيوني عربي في العراق عام 1/5/1956م وقد بلغ عدد محطات التلفاز العربية الى 1320 قناة تلفزيونية ويشاهد العرب كل الاعمال الفنية المترجمة عن لغات الاخرى بينما تكاد تغيب حركة الترجمة عن العربية للأعمال السينمائية والتلفزيونية وتنشغل محطات التلفزة العربية بقضاياها الداخلية وصراعاتها تاركة الاخرين ينشغلون بها فبينما تنقل عشرات المحطات العربية اخبار وثقافات امريكا واوروبا لا تجد احدا من محطاتهم يهتم بثقافة العرب ولا بمنتهم الفني والثقافي واحيانا حتى السياسي ويترك للعربي تقديم الاجنبي بصورة تستقطب جمهور الشباب العربي وتجعله يسعى لتقليدهم لا مجاراتهم وينشغل الشباب العربي بمشاهدة الافلام والمسلسلات المترجمة عن اللغات الاخرى والتأثر بها بينما يزداد الابتعاد عن الاعمال العربية حتى في اوساط العرب.
قنوات تلفاز ومحطات اذاعة وصحف واستخدام كبير للشبكة العنكبوتية والمهمة تتلخص اما بالهجوم على ذواتنا او بنقل الآخرين وثقافاتهم الى بيوتنا وغرف نومنا في الوقت الذي نصرخ برفضنا لهم وعدم قبولنا لثقافتهم وبالتالي فان ايا من وسائل الاعلام التي نملكها او نستخدمها لا تملك ابدا اية رسالة تنقلها لذواتنا ولا حتى لتنظيف صورتنا المعتمة لدى الآخرين وبدل ذلك نجد عديد وسائل الاعلام العربية التي تنقل للمتلقي العربي كل انواع الثقافات الغربية حتى دون فحص او تمحيص وعلى مدار اليوم تتواصل الافلام الغربية بلا انقطاع مما يجعل المتلقي العربي من الشباب عرضة لأي تأثير في الوقت الذي لا يجد فيه ما يملأ الفراغ الكبير الذي تتركه غيابات العرب بكل انواع الغياب.
عند فحص الارقام والاحصائيات التي تنتمي الى التقدم والحضارة والعلم نجد انفسنا فيها في اخر القائمة ونجد الاخرين بما فيهم الاعداء في مقدمة الصفوف وتغيب كليا القدرة على فحص الخطاب العربي والذي يتداخل مع الخطاب الاسلامي ونؤسس لمحطات دينية مسلوبة الارادة وبدل تقديم الدين كنظام حياة عصري وقادر على الحياة والمواصلة وقادر على استيعاب التطورات والمتغيرات واحترام الاخرين تجدنا نقدم صورة ظلامية منغلقة لا تقبل الاخر ولا تقبل العصرنة ولا التطور بل وتدعو علانية الى التخلف والبقاء في الزمان الابعد والانصياع له بلا أي فحص او تدقيق او صياغة للقراءة مختلفة غير متنازعة مع ذاتها.
مسالة الذات العربية بين ذوات الآخرين هي المسألة الأخطر ويعود ذلك للعرب انفسهم عبر الاصرار المتواصل على تضخيم الذات الغائبة أي الذات الماضوية واعتبار ذلك حقيقية تلزم الآخرين على القبول بها دون مبرر حضاري قائم وعلى العكس يعيش العرب الحاليين على هامش الحضارة والفعل الحضاري الانساني كمتلقين يدعون رفض التلقي ومستهلكين يدعون انهم صانعين, يتهمون الغير بسرقة انجازاتهم ولا يفعلون شيئا لحمايتها يريدون لعقارب الزمن ان يتوقف عند قديمهم ولا يقبلون لما يدعون انه ملكهم ان يتحول الى رافعة للفكر الانساني والعلم والتعلم فلا نستفيد نحن من تطوير الآخرين لما كان لنا ونواصل ادعاء الملكية بل نرفض ما تم انجازه ونواصل البكاء على الماضي المسروق مما يجعل منا تاريخا جامدا لم يثبت ولن نستطيع ان نثبت انه ملكنا بعد المراحل الطويلة التي تقدمت بها امم الارض الحية الى الامام تاركة تاريخنا لنا لنبكي عليه ونندب حالنا لا أكثر ولا اقل وهو ما يجعل من استخدامنا لسائر وسائل الاتصال والتواصل يقدم ضررا لمستقبلنا ولا يفعل شيئا لانتقالنا مع ركب التقدم الى الامام الا بانتقال ذواتنا الى ذوات الآخرين منسلخين عن ذواتنا لصالح ذواتهم رغم اصرارنا المتواصل قولا لا فعلا انهم هم الاعداء.
المطلوب اذن رسالة محددة وادراك لما نريد وما يجب ان نكون عليه حتى نستطيع الانتقال بتلك الرسالة الى العالم بأدوات ووسائط ورؤى حية وحقيقية قادرة على الوصول الى عقول البشر والتحول الى افعالهم وتجليات ادائهم لنصبح مرة اخرى جزء حي ومشارك في صياغة الحضارة الانسانية بكل تجلياتها وافرازاتها.
ان علينا ان نتخلص من فقر الفكر وفكر الفقر لصالح فكر الفقراء انفسهم وهو وحده الفكر المنطلق من حاجات الفعل المتنامي على الارض والقادر على احداث النقلة الى الامام على طريق صناعة مجتمع العدالة والعلم بوابة ضرورة للتأثير في صياغة المجتمع البشري برمته عبر ادراكنا باننا المزودين الحقيقيين للبشرية بغذاء الروح قولا وعملا عبر قناعتنا ان الحياة المادية الجافة ستقود البشرية حتما الى التطور والارتقاء وتحقيق عالي لتلبية الحاجات الاقتصادية والاجتماعية والبيولوجية للبشر الا ان ذلك سيبقى منقوصا ان لم يرافقه المؤثر الروحي الذي يمد مكونه المادي بمضامين انسانية واخلاقية عالية تؤدي الى الوصول بالبشر الى حالة العدل المنشود القادر على ضمان احتواء الجميع والسعي لإسعادهم لا الاعتماد على الاقتتال للتخلص من فئة لصالح فئة او جهة لصالح جهة لنصل لمرحلة تدرك فيها الروح الانسانية الحية ان مصلحة الجميع بحرب انتاج الخير وتطوير مصادره لا حرب سرقة الموجود حد اختفائه وان تجارة الحلوى دائمة لا تندثر وهي تدر ربحا اكثر على صانعيها ما دام البشر يتكاثرون اكثر من تجارة السلاح التي ستنخفض بانخفاض قدرة البشر على الحياة بسببه وبسبب صانعيه.