وعلامةُ رَفْعِهِ الفِكرَة
أكثر ما يستفزني كإعلامية أمضت سنوات في الميدان مراسلة تنقل الأحداث إلى القرّاء والمشاهدين ومساءلة صناع القرار هو قراءة خبر ينتهي بسؤال: من المسؤول؟ سؤال ينم عن انعدام الفهم المعمق لحقيقة واجب الصحافي ورسالته السامية وهي تتمثل في الإجابة عن هذا السؤال ومساءلة المسؤول بدل الاستكانة لطرح سؤال معلوم الإجابة وذلك تجنباً للقيام بما يقتضيه الواجب المهني.
لكن الصحافي ليس وحيداً في اللجوء إلى صفة المجهول ويشاطره في ذلك السياسيون والمعلقون والمحللون. في غزة، يفجر مجهولون معلومون منشآت ومؤسسات ويستهدفون المنازل ومع ذلك، تبنى تلك الأفعال على مجهول وكأن ذلك يخفف من وطأة تلك الأعمال الجبانة أو ينجح في إخفاء الشمس بغربال. بالأمس فجر أولئك "المجهولون" صرافات آلية لبنك فلسطين ومولد الكهرباء في منزل الناطق باسم الحكومة وأرسلوا رسائل تهديد لبعض الوزراء وسرقوا مقر شركة الاتصالات ووزعوا بياناً يأمرون به المواطنين الذين يودعون أموالهم ومدخراتهم في بنك فلسطين أن يسحبوها لأنه وبحسب البيان، سيقفل هؤلاء ذلك البنك إلى أجل غير مسمى!
وما يستفز عقل المتابع ومشاعره هو إمعان قادة حماس في تعميق حالة الشيزوفرينيا السياسية التي سادت المشهد السياسي منذ تشكيل ما سمي بحكومة الوفاق. فتارة يهدد قادة حماس الحكومة والرئيس عباس وينعتونهم بأقبح الألفاظ ويطالبون بمحاكمة الرئيس بتهمة الخيانة وتارة تظهر ذات القيادات وتتحدث عن دعم الرئيس وحكومة الوفاق ويستنكرون أعمالاً همجية وبربرية ترتكب في قطاع غزة من قبيل ما شهدناه البارحة!.
أي دَجَل هذا وأي امتهان لعقول الناس؟! معلومٌ وغير قابلٍ للنقاش أن حركة حماس تحتكر السلاح في قطاع غزة وهي من تعتقل المواطنين وتهينهم وتعذبهم وهي من تحمي المنشآت في القطاع ومن تهاجمهم وهي من تستلم الأدوية والسولار التي تختفي أيضاً، وبحسب تصريحات الحركة، بفعل "مجهول" هو في الحقيقة معلوم للجميع.
وبالعودة للسؤال "من المسؤول"، فلا شك أن الكل الوطني مسؤول عن استمرار حالة الانفصام هذه وبناء الأحداث الإرهابية على مجهول هو في حقيقة الأمر ماثل أمامنا. المسؤول هو كل واحد منا يأبى أن يسمي الأمور بمسمياتها وكل من هو في موقع يسمح بالمساءلة ويستنكف عن القيام بمسؤولياته وكل من هو في موقع لمحاربة ثقافة الكراهية والتحريض واستباحة المحرمات ولا يفعل ذلك بدافع الخوف أو التواطؤ.
ذات الخوف والتواطؤ هو الذي أوصل الأمور إلى ما هي عليه فيما يتعلق بالصورة النمطية المرعبة والمشوهة للعربي والمسلم حول العالم. ذات العزوف عن تحمل المسؤولية هو الذي قاد الشباب العربي الى أتون الجهل والكراهية والظلام وجعلهم يقترفون أبشع الجرائم ضد مدنيين عزل في أوطانهم وحول العالم كما شهدنا في الأيام الأخيرة في باريس؛ شبابٌ يقتلون بدم بارد وعن سابق اصرار صحافيين عزل إلا من قلمهم ويأخذون النساء والأطفال رهينة لإرهابهم، غير مدركين أنهم يرتكبون أعلى درجات الجبن وليس الجهاد والبطولة كما سوَّق لهم أمراء الظلام وأبواقهم ومن سكتوا عنهم.
المفجع فيما حدث في فرنسا هو النقاش الذي تابعه الكثيرون وأنا منهم، حول ما إذا كانت هجمات باريس مبررة وحول ما إذا كانت تسوجب الاستنكار أم لا. انه لأمر مرعب أن نفقد إنسانيتنا بطريقة تسمح للبعض منا أن يرى في ترهيب الآمنيين عملاً ينتصر للإسلام وهو الدين الذي انتشر في العالم بسبب سماحته وقوانينه الإنسانية وتحريمه لقتل النفس التي حرم الله قتلها وتجريمه لاستهداف المدنيين في كل الظروف! كيف يمكن أن نقبل بفكر قاصر يعتبر أن الله ورسوله وكتابه بحاجة لحماية البشر الذين يبيحون لأنفسهم القتل باسم الله والدفاع عن خاتم مرسليه؟!
الحقيقة أن هذه الحالة من الإرباك الفكري والهوية المأزومة، تعود في أصلها إلى عقود من التجهيل وانعدام الديمقراطية في منطقتنا، تزامناً مع استسلام لموجة من الاستغلال غير المبرر للدين باسم الانتصار للقضايا العادلة وعلى رأسها القضية الفلسطينية. وهكذا، استطاع هؤلاء من تجار الدم والدين أن ينشروا مفاهيم مشوهة باسم الدين رغم أن الدين منها برآء.
هذه الجماعات من الخوارج توغلت واستفحلت حتى بات فكرها المريض وإجرامها الجبان عنواناً للعرب والمسلمين في العالم وقد وجدت من الأبواق والجهات الإعلامية من يروج لها ولأفكارها ومن أوجد من المبررات لإرهابها ما بات مقبولاً ومسلماً به في مجتمعاتنا.
ذات الترويج والتبرير من جهة والعزوف عن المسؤولية من جهة شجع وأسهم في الخطيئة الفلسطينية الكبرى عام ٢٠٠٧. في الأشهر التي سبقت الخطيئة، قام ذات المجهولون المعلومون بارتكاب سلسلة من الهجمات التفجيرية التي استهدفت صالونات تجميل ومراكز ثقافية ومؤسسات إعلامية واغتيالات لخصوم سياسيين. في حينه، سيقت التبريرات أيضاٌ وقيل أنها أعمال فردية وصدحت الحناجر بشعارات مفرغة من مضمونها عن الوحدة الوطنية وعزف الجميع عن الإشارة إلى الجهة المسؤولة عن موجات الترهيب تلك وانساق الكثيرون، صدقاً أو رياءاً، وراء حديث الأخوة وأوجدوا المبررات المتلحفة كذباً بالدِّين لتفجير أماكن "التبرج والاختلاط" كما قيل في حينه.
النتيجة هي أن ثقافة الكراهية هذه أنتجت نداءات مفزعة من على منابر المساجد للفلسطيني ضد ابناء بلده تقول: "يا أعداء الله! سلموا تسلموا!" وسقطت غزة في أتون الظلام وسقطنا جميعاً في عار التناحر المستمر.
من المسؤول؟ نحن جميعاً مسؤولون عن استفحال هذا التغييب للعقل والإنسانية. نحن الذين قبلنا أن يقال لكل شخص أطلق لحيته "يا شيخنا" وأن تكون له كلمة فاصلة في الدين والدنيا والسياسة حتى وإن كان أمياً أو شبه ذلك. نحن الذين قبلنا ونقبل بناء الاعتداءات على المجهول وهو معلوم لنا والتعايش مع الدجل والانفصام السياسي وهو مكشوف لنا أيضاً. من المسؤول؟ مجتمعاتنا وإعلامنا الذي جعلنا نهادن ولا نواجه فكراً بات يبرر بيع النساء في سوق الرّق وقطع رؤوس الأطفال وتعليقها على أسوار المدارس وتعذيب الأسرى وغيرها من أعمال الإرهاب وانعدام الإنسانية.
ظلم الاستعمار والاستبداد لا يبيح وجود هذا المرض بيننا ويستوجب منا الدفاع عن إنسانيتنا بقدر أعلى من الوعي والشجاعة لأن الإنسانية لا تجزأ ولأن قمة الهزيمة هو أن نسلم إنسانيتنا ونصبح كما يصورنا عدونا، كائنات لا بشرية متعطشة للدماء ومنعدمة الإحساس.
منذ عقود طويلة، كسب شعبنا تعاطف شعوب العالم لأنها آمنت بإنسانيتنا وعظمة قضيتنا ورفضوا تلك الصورة التي يصر أعداؤنا وتجار الدم والدين المتجددون في ترسيخها عنا. علينا أن ننتصر لأنفسنا ورسالتنا الإنسانية السامية ونتحمل مسؤولية مجابهة الظلام والظلاميين بنور المعرفة والوعي والإنسانية. هذه مسؤولية جماعية لا مجال للتهرب منها.