الأحد  24 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

حوار مع ميشيل سير: التفكير سعادة عميقة (*)

ترجمة: سعيد بوخليط

2019-07-01 08:13:59 AM
حوار مع ميشيل سير: التفكير سعادة عميقة (*)
الفيلسوف ميشيل سير

 تقديم :

ولد ميشيل سير Michel Serres عام 1930، في إقليم غارون. ولج بداية المدرسة البحرية قبل انتقاله إلى فصول المدرسة العليا للأساتذة، شارع أولم. حصل على الميتريز في الفلسفة، وأصبح  أستاذاً في جامعة ستانفورد- كاليفورنيا، ثم عضواً في الأكاديمية الفرنسية. ألّف أكثر من ثلاث وستين كتاباً. 

دعا ميشيل سير في كتابه الجديد، التفكير كي يتسكع أكثر خارج نطاق دروب مبتذلة، ثم يغادر للتخلص من المنهج لأن الإنسان لا يبدع سوى حينما يتيه.

يعتبر ميشيل سير في الوقت ذاته فيلسوفاً وقصاصاً، وأحد أكبر المفكرين الفرنسيين إنتاجاً. كتب ما يقارب ستين عملاً، وهو صاحب رأي يدلي به عبر أثير''فرانس أنفو''، يهتم بمجالات عدة: الانفجار الكوني العظيم، والتكنولوجيات الجديدة، واللغات، وعلم الجينوم، ومعنى التاريخ….ثم لا تحدثوه قط عن "ميادين بحثه"، فالتعبير يحدث لديه الطفح الجلدي. وتمتلك الفلسفة لديه، سرعة السيارات الرباعية الدفع: تماثل هذه العربات القادرة على اختراق مختلف الحقول وعبور جل الأراضي دون اهتمامها بالحدود المصطنعة التي رسمتها اليد البشرية. أما بخصوص المفاهيم، فإن ميشيل سير يرفض تحليلها، مادامت  تتجسد على شاكلة عناوين كتبه: الإبهام الصغير، هرمس، والثلث المتعلم وكذا آخر إصداراته: الأيسر المضطرب.  

استقبلنا في منزله الذي يشبهه، على بعد خطوتين من باريس. يستيقظ يومياً مع حلول الفجر كي يكتب ويقرأ. زوايا البيت غير مستقيمة، وغرف أضحت بكيفية طارئة عند أقصى الممرات، تمثال صغير يجسم تانتان وُضع إلى جانب أعمال أوغست كونت .إناء زجاجي جميل يفتح الأفق.

يتوجه ميشيل سير مخاطباً، بفضول رجل كهل، التلميذ باستيان، الشاب البالغ من العمر ستة عشر عاماً، والذي يمضي فترة تدريبية داخل مجلة العلوم الإنسانية .يبدو بأن لهجة منطقة جاسكوني لازالت تجرف شيئاً من أسلوب منطقة ولادته، أي إقليم غارون العليا.  

يجيب أحياناً على أسئلتي بدهاء شارلوك هولمز: "الأمر بسيط جداً، صديقتي العزيزة".  

س- تحددون ذاتكم باعتباركم ابناً، أخاً، وعاشقاً لمنطقة غارون .تعودون إلى هذا المكان باستمرار، مع كل كتاب تصدرونه. فلماذا يعتبر أساسياً بالنسبة لكم الولادة في مكان ما؟

ج- لم أولد في مكان ما؛ بل وسط المجال المائي .فقد كان أبي بحاراً منتمياً لإقليم غارون .يعيش داخل آلة كاسحة تستخرج الرمال وكذا الحصى. بالتالي، قضيت طفولتي على متن السفن .بل إني سافرت بحراً حتى''قبل ولادتي"، لأنه في يوم من الأيام عرفت منطقتنا لاغارون فيضاناً كارثياً، فتدخل أبي كي ينقذ أمي -الحاملة بي آنذاك-، بحيث انتشلها بفضل قارِبه من داخل المنزل. هكذا ترسخت داخلي هذه الصلة الجوهرية مع الماء، الذي يعتبر عنصراً مختلفاً جداً عن الأرض.ه ل أثر الأمر على الكيفية التي رأيتُ وفقها العالم؟ لا أدري .لكن لنقُل بأنها طريقة كي أنتمي إليه شعرياً. 

س- لقد بدأتم دراسات علمية. كيف ولماذا تحولتم صوب الفلسفة؟

ج-كنت أبلغ من العمر عام 1945، أربعة عشر عاماً، حين انتهاء الحرب. ماوقع في ناكازاكي وهيروشيما أحدث لدي صدمة مهولة .لذلك فجأة، العلم الذي عشقناه، لأنه جاء لنا بالرفاهية والدواء ومختلف ما يفترض أنه يحدد نمط الحياة الجيدة، صار نفسه العلم الذي أنتج جريمة شنيعة: القنبلة الذرية. ساد عماً هنا وهناك. لتقديم مثال بهذا الخصوص، كنتُ تلميذاً لغاستون باشلار في السوربون، الذي كتب بعد مرور عشرين عاماً على مأساة هيروشيما، رثاء للفيزياء المعاصرة! الجيل الذي أتى بعده، أقصد جيلي عاش أزمة ضمير: جانب كبير من الباحثين، أشاح بوجهه عن الفيزياء متجهاً نحو الكيمياء الحيوية، التي حققت تطورات هائلة. فيما يتعلق بي، غادرتُ المدرسة البحرية كي أدرس فلسفة العلوم في المدرسة العليا للأساتذة.  

س- لديكم طريقة على مستوى التفلسف غير نمطية شيئاً ما.. تظهرون نوعاً من الاحتقار للمنهج، ولا تستشهدون إلا نادراً بمرجعيات، وتوظفون المجاز.. فما الذي يميزكم أساساً عن الكاتب؟

ج-أنا لستُ استثنائياً جداً. بل على العكس، أنتمي بشكل مباشر جداً إلى تقليد فلسفي فرنسي قائم منذ مونتين. لنستحضر ديدرو: حينما توخى الحديث عن الصدفة والحتمية، لم يحلل المفاهيم؛ بل وضع فوق الحصان شخصين، جاك القدري وأستاذه، بحيث يدافع أحدهما عن أطروحة القدرية، بينما انحاز الثاني إلى جانب الحرية. هكذا أخرج إلى العالم بكيفية رائدة إحدى أجمل النصوص الروائية، التي بلورت في ذات الوقت دراسة عميقة على الوجه الأكمل حول الصدفة والحتمية .الخرافة، على النقيض من العلم، تتفادى تجزئة الواقع إلى قطع مختلفة. أنتمي إلى هذا التقليد، الذي فضلاً عن ذلك لا يتبجح أمام قرائه .المعرفة هنا، لكن من غير المجدي استظهارها  أمام الملأ وفق استشهادات، وهوامش تؤثث أسفل الصفحة ثم وضع فهارس هائلة. راهناً، ينبغي بالضرورة الاستشهاد بسبينوزا حين الحديث عن السعادة .ليس الأمر ضرورياً، عندما أود مقاربة موضوع السعادة، فإني ببساطة أتكلم عنها، ولاشيء غير ذلك. أن يكون سبينوزا قد تحدث عن الموضوع، تعتبر مسألة في غاية الأهمية، وقد اطلعت على مضامين ذلك، لكني غير ملزم للتباهي بهذه المرجعية. علماً، أننا نتوفر اليوم على ويكيبيديا تهم مختلف هوامش النصوص. 

س-إذن ماهي الكفاءة النوعية للفيلسوف؟

ج-هناك رواية لـ جول فيرن، جال أحد شخصياتها يسمى فاليValet العالم قاطبة، فأُطلق عليه لقب مفتاح عمومي. هكذا حقيقة الفلسفة: مفتاح لكل القضايا. عربة صالحة لمختلف التضاريس، تطوي كل العالم، تجوب الحقول المعرفية، وتحيط بأفراد البشر. إنها ميزتها. يشكل ذلك أيضا قوتها بالنسبة للعالم الحالي، وقد تداخلت جل مشاكله بكيفية شاملة. لنأخذ مثلاً قضية المناخ: تتطلب في الوقت ذاته الفيزياء، والكيمياء، والبيولوجيا، والكيمياء الحيوية، والكوسمولوجيا، ثم الاقتصاد…. لذلك، إن حاولتم التطرق إلى مشكلة بيئية حسب منهجية تحليلية، فبالتأكيد ستواجهون إخفاقاً. مثلا، يعتبر من السذاجة تفعيل مخطط لإنعاش الضفادع إن كان المناخ نفسه يعرف اختلالاً، فسيقتل ثانية مختلف الضفادع التي أنتجها مخططكم! إحدى أكبر المشاكل، حاضراً، إفراز الجامعة لفئتين من البلهاء: الأدبيين، وهم أصحاب تكوين ثقافي لكنهم أغبياء .ثم صنف العلميين، جماعة متحذلقين لكنهم أميين. هنا يلزم الفلسفة تحديدا القيام بدور معين، يتمثل  في إعادة رتق ماوقع بتره بكيفية تعسفية. 

س- يظهر كتابكم الأخير بمثابة تأمل في ماهية التفكير. تعريف يمكنه اختزاله إلى المعادلة التالية:''أن تفكر، يعني تبدع''.ألا يوجد تفكير غير أن تبدع؟

ج-نعم، بالضبط ذلك. طبعا، من المهم بالنسبة للتثقيف التعلّم ثم الترسيخ في الذاكرة. لكن بقدر مايستمر سعيكم ضمن حدود التثقيف، فستظلون أيضاً عند حدود مجرد ترتيب المعلومات. على العكس، يقتضي التفكير التحرر من ذلك. أشرتم منذ قليل إلى المنهج. تعلمون بأن أصل كلمة ''منهج''يعود إلى ''ميتودوس''الإغريقية التي تعني"الطريق". والحال أنه إذا سلكتم طريقاً داخل مدينة ''لاندرنو''، فستظلون دائماً عند حدود أسوارها. أيضا يعيدك الطريق السيار (A6) باستمرار إلى محيط باريس. يمكن قول نفس التصور على وصفة للطهي: إذا اتبعتم بدقة مراحل إعداد وصفة طهي فطيرة تاتان، فقد اكتفيتم في نهاية المطاف بتحضير فطيرة تاتان. لكن يحق لنا التوقف لدقيقة، قصد التساؤل عن ما فعلته الأختان تاتان من أجل صنع هذه الكعكة الشهيرة. الجواب أنهما أحدثتا ارتباكاً،  أدى إلى قلب نظام الكعكة رأساً على عقب. أعتقد أن الفكر الحقيقي يصدر حسب هذا المنوال: إما بالتفريع أو حدوث اللامتوقع. هكذا نصادف مالانبحث عنه.تتحقق التطورات نتيجة الخطأ.

س-هل يسكن الخطأ نواة الفكر؟

ج-بل جوهر الإنسان. فعندما يقول المثل: ''الخطأ إنساني''، فلا يعني قط تصور من هذا القبيل، أنه ليس مهمّاً ارتكاب"الإنسان" للخطأ. بل يعني أساساً أن الخطأ سمة بشرية. الأبقار لا تخطأ أبداً، والعناكب تنسج خيوط بيتها بإتقان. على العكس، يبدع الإنسان عندما يخطئ. ما الإنسان؟ إنه الذي يقترف الأخطاء.

س- تتطلعون في نهاية المطاف إلى العثور عن جواب لسؤال فلسفي قديم :ماهو الإنسان؟

ج-نعم، لكن قبل إنجاز أنثروبولوجيا،أتطلع إلى البحث في كتابة كوسمولوجيا .فمن يبدع أولاً ؟في البدء تجلى الكون. حينما وقع الانفجار العظيم، تناثر في هذا الكون سيل من الإبداعات والكائنات الجديدة. تضاعفت كواكب مختلفة جداً. من بينها الأرض التي جسّدت حين برودها حالة خلق مدهشة: الحياة. ذرة أولى استنسخت نفسها ثم شرعت في إنتاج عوالم متعددة الخلايا. هكذا ظهرت أنواع جديدة. فلا صلة جامعة بين صَدَفة، وسمكة، وشامبنزيه. إذن كيف نفسر ذلك؟ الأمر بسيط جداً: يستنسخ الحمض النووي، ثم فجأة، وخلال لحظة النسخ الجديدة ينتج خطأ على مستوى القراءة، خطأ بسيط ينجم عنه مانسميه وحشاً واعداً! يتصدّع في حالة عجزه عن التكيّف. غير ذلك، يعيش ويخلق حوله محيطاً جديداً.أساساً، تنطوي الطبيعة على الخطأ، بل ويكمن داخل نواة الحياة نفسها. لذلك لا أعتقد في إمكانية وجود أنثروبولوجيا دون كوسمولوجيا قبلية تؤسسها. بالتالي، فالأنثروبولوجيا التي تتجاهل هذا المبدأ تعتبر فاقدة للمعنى.

 

س- هل تنحدر الحيوانات نفسها من ذات الصنيع. فما الذي يميزنا عنهم ؟ 

ج- التاريخ. لقد غاصت الإنسانية في التاريخ، بينما انحصرت باقي الكائنات الحيوانية الأخرى عند حدود النشوء. ولماذا امتلك الإنسان هذه الثنائية على مستوى الإرساء؟ نتيجة العَرَج الذي يجبرنا على التخلص من القبضة الصارمة للنشوء. حينما يخرج الحيوان الصغير من البطن الأمومي، فقد توفر سلفاً على بيئة، بيضة أو بيت طبيعي.في حين، يفتقد الإنسان إلى وضع كهذا، مما يجعله مضطراً لبناء مأوى، هكذا بكيفية فورية، ينتقل الإنسان الصغير، الذي أخذ منحى جديداً، من الطبيعة إلى الثقافة .هنا يتجلى شذوذنا المفصلي، الباعِث للتاريخ .حينما تحظون بتوازن ثابت، لن تكونوا أبداً في حاجة إلى التقدم. لذلك لا يتبلور المشي أو الركض سوى من أجل تعويض التوازن. نحدث اختلالاً للتوازن، ثم حين استعادته، ننتج اختلالاً ثانياً، إلخ. هكذا نسير ونتطور. يعتبر الانحراف عن التوازن حيوياً بخصوص تشكيل النوع البشري.  

س – أنت أيضاً شخص أعسر مزعجاً. هل أثرت سمة من هذا القبيل على علاقتكم بالعالم؟

ج- لا أحب عبارة ''الأيسر المزعج''؛ وأفضل بدلاً عنها الأيسر المكتمل. على النقيض من الشخص الأيمن، الفالِج، بقيت طيلة حياتي آخذا مطرقة بيد، في حين تمسك الثانية قلماً. أعتقد بصيغة ما، امتلاكي جسداً تامّاً. لكن بالفعل، يتحتم على كل شخص أيسر التأقلم بشكل مستمر. أضطر مثلاً، داخل قطار المترو إلى المكوث مكتوف اليدين وأنا أدلي للمراقب بتذكرتي قصد دمغها. فاللغة شأن للشخص الأيمن. عندما يقال :"أتوجّه''، فهذا يعني حرفياً "سأذهب نحو الشرق''، بمعنى جهة اليمين.  فالاتجاهات الإنسانية خاضعة لتقنين نظام يسمى اليمين. الكتابة نفسها تسعى من اليسار إلى اليمين، بحيث ترغم ذوي اليسرى على إخفاء- وغالباً تلطيخ- ما كتبوه بيدهم. كل هذا يوضح أنه تقع على كاهلنا قضية تأسيس ثقافي عميق. فالأشياء واللغة عموماً وُضِعت من أجل أصحاب اليد اليمنى، مما يرغم أصحاب اليسرى على تبني وضعية ساخرة نحو العالم.

س-أكدتم بأن إنسانية جديدة بصدد التحقق. وفق أي سياق تختلف عن السابقة؟

ج-نعيش اهتزازاً ثقافياً مرّ حسب ثلاثة وقائع ضخمة. تشير الأولى إلى اختفاء طبقة الفلاحين. خلال القرن التاسع عشر، في بلدان تقارن بلداننا، شكَّلت الساكنة 90% من المزارعين، مقابل0.8% حالياً. تبلور عالم القرويين هذا منذ العصر الحجري الأخير. نعيش إذن نهاية هذه الحقبة. لم يعد هناك شيء أكثر أهمية بالنسبة للتاريخ الإنساني، لأن عالم الفلاحين اختلف كلياً عن عالم أفراد المدن.

الانقلاب الثاني، ديمغرافياً. حينما ولدت سنة 1930، قارب عدد سكان الأرض بالكاد ملياري نسمة. حالياً، أوشكنا على بلوغ ثمان مليارات. فهل علمتم عبر التاريخ، حياة بشرية معينة تضاعفت مرتين؟ كانت الأرض فارغة؛ بينما اليوم ممتلئة نتيجة ارتفاع مؤشر الأمل في البقاء. معدل لم يكن يتجاوز 32 عاماً، حينما عقد قران والدة ووالد جدّتكم، في منطقة دوبيغور(الفرنسية). لقد عاهدتْ على الإخلاص لمدة خمسة أعوام! بينما راهنّا عندما تتزوج ابنتي الصغيرة، فسيمتد وفاؤها لخمسة وستين عاماً. إنها ليست نفس الزيجات، ولا ذات الحياة!

أخيراً،حدث انقلاب ثالث ابتداء من سنة 1995 مع ظهور تقنيات جديدة. فالقطيعة عامة وذاتية في الوقت نفسه، لأنها خلقت انقلاباً على مستوى مِهَنِنا، وكذا طريقتنا في الحصول على المعلومة، ثم علاقتنا مع الطبيب وكذا المسؤولين السياسيين. 

س- حددتم حقبتنا باعتبارها ''فترة ناعمة'' ماالذي يبرر تفاؤلكم هذا؟

ج-يعتبر تفاؤلي، تفاؤلاً نضالياً. طبعاً ليس كل شيء وردياً، ولا نعيش بالتأكيد حكايات السيدة تارتان، حيث كل شيء قشدة طرية ولوز محلى. ستصادفون دائماً أجداداً يتأففون كي يخبروكم أنّ الوضع كان أفضل سابقاً. أنا عشت تلك الحقبة، أشرف على أمورنا خلالها شخصيات من صنف هيتلر، وستالين، وفرانكو، وموسوليني، وماوتسي تونغ، وتشاوتشيسكو، خلفوا ثمانين مليون قتيل. بينما اليوم، نتمتع بحظ غير عادي يتمثل في كوننا نحيا غاية عمر الخامسة والثمانين وسط عالم هادئ؟ وهذا ما ينطبق على حالتي! يتمثل المهم بالنسبة إلي، في توليد هذا العالم الجديد، والمجتمع المغاير الماثل أمامنا ونجابه كثيراً من الصعوبات في سبيل جعله يلد. هنا تتجلى مهنتي: فأنا المولِّدة. هكذا تعريفي للفلسفة. ينبغي على الفيلسوف الاشتغال ليس فقط من أجل خلق العقول الفردية، مثلما تصور سقراط، بل المجتمع المستقبلي. لذلك، لايحق للمرأة القَابِلة الاتصاف بالتشاؤم. بل حرصها على أن تمر الولادات الجديدة في ظروف حسنة.

س-ماهي مشاريعكم المعرفية مستقبلاً؟هل أنتم على دأب التفلسف غاية النهاية؟

ج- حتماً! فالاسكافي يستمر في صنع أحذية حتى اللحظة الأخيرة. أشتغل حالياً على فلسفة للتاريخ. فماذا يعني بالنسبة لفيلسوف أن يتقاعد؟ والتوقف عن التفكير؟ إن وجد شي مذهل في مهنتي، فالأمر يتعلق بهيمنة واستمرار سعادة التأمل. ببساطة، هي إحدى مباهج الحياة الأكثر إثارة. 

    سؤال تقدم به باستيان بابيBabi، تلميذ يبلغ عمره ستة عشر عاماً، يمارس الآن تدريباً داخل مقر مجلة العلوم الإنسانية:

س- كنتُ شغوفاً جداً بالتكنولوجيات الرقمية حد الاستلاب، ثم عاودت الرجوع إليها مؤخراً رويداً رويداً. ما العمل بصحبة أفراد جيلي حتى لا تجرفنا كلياً العوالم الافتراضية؟

ج-قبل الخوف من التقنية، يلزمنا التساؤل حول مبررات تفوقها. لماذا بلغت تقنيات الافتراضي هذا المستوى من النجاح؟ الجواب في غاية البساطة: الإنسان نفسه كائن افتراضي. يقضي أهم وقته في الاستيهام، الحلم، التخيل. نستحضر مثلا إيما بوفاري (رواية مدام بوفاري) التي تمثلت الحب جل الأوقات خيالياً أكثر من الواقع. كما الشأن بالنسبة لنا جميعاً. لم تعمل التكنولوجيات الجديدة سوى على تبني هذا النزوع الطبيعي الرائع لدى الإنسان كي يحلم بعوالم أخرى ثم سعيه إلى تغيير عالمه. بالتالي، من غير المجدي توخي مقاومة ذلك. فالافتراضي ميزة الإنسان ومفتاح بقائه. 

 

وسعيد بوخليط كاتب وباحث مغربي، ألّف ثلاثة عشر كتاباً، حيث بدأ بكتابة المقالات والترجمات في أواخر التسعينيات، وتطور فيما بعد إلى تأليف كتبه الخاصة، وقد ترجم العديد من الكتب والمقالات والنصوص لكتاب وفلاسفة عالميين. 

 

*مصدر الحوار :

Sciences Humains : numéro 274.septembre-octobre ;2015.