هذه الرواية، فلسطينية عربية، من إبداع روائي عربي فلسطيني، صدرت له ثلاث روايات: "المهزلة" و"رجل واحد لأكثر من موت" و"غاسل صحون يقرأ شوبنهاور". حَوَتْ كتاباته على جملة من الاعتبارات الاجتماعية والدينية والسياسية والروحية، كانت رواياته مؤشّرًا على فهمه العميق للنفس البشريّة، وقراءاته المكثّفة في الأدب العربي والعالمي، ودقّة ملاحظاته في فهم المجتمع. درس اللغة العربية في جامعة بير زيت، وهذا يعني أنه متخصص في اللغة. لا بد من الإشارة، أن الروائي لم يبلغ من العمر أكثر من 26 سنة.
الرواية ليست "طفرة حماس" سطحية، ولكنها فهم إنساني عميق وحزين وشجاع. فهي انفتاحٌ تام نسبيًا على الإنسان في قوته وضعفه، في إيمانياته ونفوره، في مشاعره بكافة أشكالها وألوانها، وفي محاولاته لفهم الآخرين، وفهم تصوراتهم العقائدية والشكلية. وأيضًا هي محاولة فكفكة الحالة الفلسطينية وتشريحها، ونثر ملفاتها أمام القضاةالقرّاء.
قيل، في إسبارطة، في كل سنة، يقدّمُ القائدُ الإسبارطيّ طفلًا قربانًا للآلهة، والقائد هنا، يلعبُ دورًا رمزيًا وإيمانيًا فداءً بطوليًا لكلّ شعبه الإسبارطي. ذات يوم، حمل القائدُ طفلًا إلى خارج المدينة، وألقاه على عشبٍ أخضر كي يقدم دمَهُ شرابًا لكبرياء الآلهة، واستلَّ سيفَهُ، وتوقّف حين التقتْ عيناهُ بعينيّ الطفل، رأى الطفلَ يحدّقُ إليهِ ويبتسم، وهكذا تجمّدَ السيفُ في يد القائد، وبدأت تنمو فروع الحزن العميق في داخله، وبجانب تلك الفروع نمتْ حشائش التضحية البطولية التي آمن بها طوال سنوات حياته، استمرَّ وقطعَ رأس الطفل. وهذا يعني أن القائد الإسبارطي، كان حزينًا على الطفل، ولكنه بالمقابل كان مؤمنًا بالتضحية. وهذا ما فعله "جبعيتي" في روايته، حيث كان حزينًا على ما مرَّ به "نوح" بطل الرواية، وبالمقابل كان مؤمنًا بطريق التضحية التي كان لا بدّ من "نوح" أن يمشي بها. لم يكن "نوح" سوداويًا، ويرى الحياة سوداء، بقدر ما كانت الظروف تلعب دورًا واضحًا في جعل الحياة داكنة. ذُكرَ في الرواية أن "رام الله تملأ فراغاتِها الأحلامُ"، و"نوح" أنهى دراسة البكالوريوس، وكان مثله مثل باقي البشريات، يحلم بأشياء واقعيّة، تُعد متطلبات أو حقوق أساسيّة بالنسبة للأفراد الذين يعيشون حياة كريمة، لكنه رغم ذلك، واجه معيقات عائلية قَبَليّة حين عشق فتاة، ومطبّات مادية، كذلك واجه حالة من حالات الإنسان العبيد، حين عمل في أحد المقاهي في مدينة رام الله. في الحقيقة، لا أريد سرد أحداث الرواية، بقدر ما أريد الحديثَ عنها، لذلك سأترك السرد للقرّاء، اذهبوا إلى الرواية واقرأوا، لتحصلوا على بعض المتعة والألم. فالسّرد سريالي أنيق، ولا أقولُ أنيقًا بشكلٍ عبثيّ، إنما لأنه لم يكن متقطّعًا مثل سيارة فيها القليل من السولار، بل كان لامعًا، يصهل، لا يتوقف عند اعتبارات البلاغة، فكما يقال "كلما زادت البلاغة قَلّ المعنى"، و"جبعيتي" استطاع أن يخلق توازنًا ما بين البلاغة والمعنى.
من الأشياء الملفتة للنظر في الرواية، قدرة "جبعيتي" على تشريح دواخل "نوح" الإنسانية النفسية، كما لو أنها صارت مفروشة على طاولة ما، في غرفة القارئ، تلامسهُ، وتظلُّ بجانبه إلى أن يمضي مدة كبيرة مبتعدًا عن الرواية، وهذا برأيي، بندٌ يحسب للكاتب. وأيضًا محاولة "جبعيتي" في قلب موازين المسميات، أو بصورة أوضح محاولة في إعادة صياغة الأشياء، مثل: رجال الدين، والبومة، والحب، والقرية والمدينة، والأحزاب والعشائر. حيث إن لكل هذه المسميات، مخزون معرفي في أذهاننا، "جبعيتي" يحاول بطريقة ذكيّة، تفكيك هذا المخزون لتعريفه من جديد. البومة على سبيل المثال والذِّكر، في أذهاننا هي طيرٌ ينذر بالشؤم، لكنه يجدها ذكيّة ولطيفة، ويسأل "كيف في وسع هذا الطائر الخجول أن يجلب الشؤم والدمار للعالم؟". من هذا المثال البسيط، لو فكّرنا بجديّة قليلًا، نستطيع أن نلتمس بأن الكاتب يدعو لتجديد المخزون الفكري لدينا، ولإعادة النظر في كثير من المسميات والأشياء. أيضًا نجد ذلك في الأحزاب السياسية، فلم يعد الانتماء إليها بدافع أنها وسيلة للوصول إلى الغايةالوطن، إنما صار الانتماء بدافع أنها الغاية. وكذلك المساجد، أحيانًا، لم يكن الانتماء إليها بدافع التقرّب إلى الله بقدر ما يكون الانتماء تستّرًا عن الأفعال المشينة التي يستطيع "المُصلي" ارتكابها، حيث إنه لن يُسأل عنا، ولن يكون محلّ شك، لأنه ببساطة، يصلي الليل والنهار في المسجد.
في النهاية، الرواية تثير مواضيع كثيرة، بطريقة ملفتة للنظر، سواء كانت حسّاسة أو غير حساسة، منها تم ذكره أعلاه. الرواية مزيج من الواقعية والفانتازيا، بعيدًا عن طوباوية الكتّاب المعاصرين، وترتبط بالفرد الفلسطيني والحالة الفلسطينية ككل، ولا تنحصر بهما، لأن الكاتب حرص على أن يتناول العديد من الأشياء المتعلقة بالإنسان في المقام الأولى، ومن ثم بالإنسان الواقع تحت احتلالين أو أكثر، فهناك الاحتلال الإسرائيلي والمجتمعي والعشائري والعاطفي.