يصعب حقيقة تحديد مسافة زمنية ذات حيز واضح جلية المعالم بكيفية لا لبس معها، حين محاولة التطرق إلى ممكنات الفضاء الثقافي والسياسي، تحديدا وفق منطق الهوية الخالصة والصافية التي لا تشوبها شائبة، المطمئنة تماما إلى امتلاء الشيء وحضوره المنتهي اكتمالا في ذاته، ثم تبلور مرتكزاته بغض النظر عن باقي العالم وبالاستغناء عنه.
صحيح أن خصوبة المفاهيم يحكمها عموما في تصوري، منطق اللاأمان هذا، حيث لعبة الجدال كامنة بقوة وبشكل مطلق، وإلا استغرقتها الدوغماطيقية والعقائدية والتحجر والإفلاس التاريخي. ثم تزداد الإشكالية هشاشة، وتصير مهيأة أكثر كي تجعل النقاش عقيما بعد كل شيء، لا تخلص تأسيسيا إلى رؤية منفتحة على ممكنات منسابة تطوريا، وقد وجهتها نظرية ذات قاعدة صلبة. أقول، يحدث أمر من هذا القبيل حينما يغيب النظام الابستمولوجي المحكوم طبعا بالتناظر النِّدّي بين الانفصال والاتصال، الائتلاف والاختلاف، التماثل والتباعد، المماهاة والتنافر…
وفق مختلف ذلك، لا ينزاح النقاش الثقافي/السياسي عن سياق من هذا القبيل؛ فهو سؤال بنّاء، يراهن دائما على آفاق أخرى، حينما تتراكم كميا ونوعيا مرتكزات التكريس المعرفي للثقافة والسياسة، بحيث يدرك كل واحد منهما صراحة أو ضمنيا إطاره ومجاله. نتيجة لا تتحقق بالسهولة المأمولة، سوى بالنسبة للمنظومات المجتمعية المهووسة على الدوام بمساءلة واقعها المادي وتجلياته الرمزية. هنا تتلاقى السياسة والثقافة عند نفس المصب، يشتغلان على ذات التطلع، لكن ليس حتما تآلفهما أو تضادهما: السياسة تدبّر يومي في إطار مشروع مجتمعي على المدى اللانهائي. سعي لن يتحقق سوى إذا صارت السياسة حقا مؤسسة ''وطنية' مكتملة البناء، شيدها وما زال كذلك الصرح الثقافي التأملي للمجتمع. في نهاية المطاف؛ الثقافة أكبر من السياسة بل تشملها، والأخيرة مجرد تجلّ ضمن باقي تجليات الأفق الثقافي عموما.
حين الإقرار بخلاصة هذه المعادلة؛ يحق هنا مبدئيا الجهر بأحقية تدبير الثقافي لأمور السياسة، وليس العكس، حتى تحافظ الثقافة باستمرار على مكانتها الأسمى، وتظل السياسة دؤوبة في اجتهادها ضمن مرجعية حِكمة الثقافة.
صحيح، كما هو معلوم، وخلال زخم أزمنة المد اليساري، لا سيما سنوات السبعينات والثمانينات، وقبل التحول الجذري مع طفرة العولمة بنظامها المعرفي المغاير تماما لكل مامضى؛ اتفقت طيلة حقبة زمنية ليست بالقصيرة جل أدبيات الفكر الثوري على أن الثقافة - مجرد ممارسة إبستيمية- يلزمها قطعا الانقياد وراء محرض السياسة – الورش الأيديولوجية - التقدمية، بالتأكيد، تأخذ منحاها يمينا وشمالا، أفقيا وعموديا. هكذا توارت الثقافة يعني التأمل والتفكير والنقد والعقل النسبي والخيال والموسوعية وتفاعل المعارف والتعدد… خلف الإقرار السياسي أي الدوغما، التبرير الظرفي، البعد الواحد المطلق..
مع ولوجنا حقبة العولمة، بانقلابها المعرفي المماثل إن أردنا تقريب الرؤية بكيفية من الكيفيات، لما صنعته هندسة ريمان ولوباتشيفسكي بالتراث الأوقليدي، اقتضى السياق الانكباب قصد إعادة النظر في جل مرتكزات المنظومة الكلاسيكية، التي ارتكنت إلى بديهيات، لم تعد اليوم قادرة على مواجهة أسئلة مختلف كليا قدر تشعبها الزئبقي بذات المرجعيات السابقة: الدولة، المثقف، الطبقة الاجتماعية، فعل السياسة، موقع المثقف ودوره، الجمهور، الايديولوجيا وغيرها، مثلما أن مكونات حقل الصراع تضاعفت واكتست مظاهر جديدة، طبعا حقوق الإنسان دائما وأبدا، غير أن مفهوم الانتهاك حاليا تطور صوب أبعاد أخرى معقدة، وتجاوز الأمر مستوى العلاقة العمودية مع استبداد الدولة المادي! وإشكالية بيولوجيا الجنس، أسئلة التغيرات المناخية، انبعاث قوميات جديدة ومفهوم الدولة الوطنية، مشكلات البيئة ،اللوبيات الأممية المتوحشة، الهجرات، الحروب، الإرهاب والتطرف الديني والعرقي والجنسي!.
إذن، لم يعد مجديا البحث في الأسبقية التراتبية لعلاقة الثقافي بالسياسي، ومن ينبغي امتلاكه لزمام المبادرة، بل أساسا مدى قدرتنا على صياغة نظام معرفي عبر بلورة فلسفة جديدة، يمكنها ملاحقة الأسئلة اللحظية المصيرية، المتغيرة كل آن، نتيجة الشروخ الزمانية والمكانية المهولة، التي تراكمها الثورة الرقمية والإعلامية.