الكاتب والأكاديمي أمين معلوف، المزداد في بيروت سنة 1949، كشف في كتابه الأخير: غرق الحضارات (منشورات غراسي)؛ عن رؤية مقلقة جدا حول مآل عالمنا المعاصر، والذي تنخره أساسا أزمة سياسية وعودة الديني والتهديدات المناخية والبيئية وغياب تضامن كلي أو انتفاء مبدأ المساواة كمرجعية أخلاقية.
لا يتبنى أمين معلوف قط شعار "كان الوضع أفضل ماضيا"، ولا ينزع نحو رؤية ماضوية؛ بل يعبر عن وجهة نظر متبصرة غير قابلة للتراجع.
إذن مع بداية القرن 21؛ يُطرح التساؤل بخصوص ما تبقى لنا من أمل ثم أيّ موقع تشغله الثقافة؟
س- تتابعون مسار العالم ببصيرة لا تحضر دائما لدى جميع الكتّاب، إلى درجة بوسعنا وصفكم بـ''ستيفان زفايغ الشرق"؟ من أين استلهمتم اهتمامكم الكبير بالراهن؟
ج- كان والدي صحفيا، يتابع عن كثب أحداث الساعة، ومنذئذ اعتدت باستمرار على الاهتمام بالوقائع. وبشغف لم يتوقف. وينصب اهتمامي على سياق الأحداث بغض النظر عن تطلعي من عدمه إلى الكتابة عنها. مارست مهنة الصحافة لمدة خمسة عشر سنة ثم واصلت اهتمامي بمجريات الوقائع حتى بعد انقضاء تلك المرحلة، أعلِّق عليها داخل رأسي ثم في يوم ما، ينبثق مضمون ذلك عبر نصوص مكتوبة، لكني أقول بأنها ممارسة يومية تقريبا عفوية.
س- تحدثتم في دراستكم المعنونة بـ"غرق الحضارات'' بكيفية مستفيضة عن الشرق الذي ولدتم فيه. بالنسبة إليكم، انطلاقا من هذا المكان ''بدأت تشيع غياهب الظلمات''، فما هو هذا الشرق الذي عرفتموه؟ ثم لماذا لم يعد بوسعه أن يمثل نموذجا؟
ج - عندما أتحدث عن الشرق، يستحضر ذهني مثالين اثنين، مختلفين جدا؛ الرئيسي يعيدني إلى لبنان حيث عشت غاية بلوغي سن السابعة والعشرين، أما المثال الثاني؛ فأقصد به مصر بلد أسرتي من جهة أمي. فقد أنطوى كل واحد منهما على جوانب مثيرة وواعدة، لكن أيضا معطيات اقتضت نقدا لاذعا، والتي قادت في نهاية المطاف صوب إخفاق النموذجين. فيما يتعلق بمصر؛ فقد كشف مثالها عن مجموعات أجنبية شكلت مصدرا لانتعاش ثقافي مذهل، ولكن المشكلة أن هذا الإثراء وجد نفسه فوق تربة جرفتها علاقات غير عادلة كفاية، مع منح امتيازات لتلك الجماعات الأجنبية لم تستسيغها الساكنة المحلية. ثم تجلى مستوى التوترات عام 1952 مع الثورة التي أطاحت بالملكية وسعت إلى القضاء على التأثير البريطاني.أما النموذج اللبناني فقد عانى مشاكل أخرى؛ فكانت هناك جماعات اعتُبرت لبنانية حتى لو قدِمت متأخرا، لكن وقع تأسيس نظام قوامه الكوطا اتضح فساده بحيث تحولت في إطاره تلك الجماعات إلى نوع من المرزبانيات الفارسية. وضع حال دون تكريس الانتماء إلى جماعة وطنية ثم تناثر الأفق اللبناني شظايا، ابتداء من سنوات السبعينات. هكذا أخفق نموذجا الشرق، المبشرين بوعود. والحال أنها منطقة تشغل مكانا متميزا بالنسبة للتاريخ الكوني لأنها مثلت مهدا لثلاث ديانات توحيدية أساسية لو تعايشت بنجاح لألهمت مجتمعات أخرى على امتداد العالم، لكن وقد حدث العكس، مع جماعات لا تتوقف عن محاربة بعضها البعض، مما بثّ تأثيرات سيئة نحو بقية العالم. تكلمتُ عن ''غياهب الظلمات'' لأننا أرسينا دعائم نماذج مضادة بدل المفترضة أصلا. هكذا، لعبت ظواهر العنف الهوياتي، كما الشأن مع الهجمات الإرهابية للحادي عشر من شهر سبتمبر 2001 دورا جوهريا بخصوص تغير المناخ السياسي والثقافي لدى مجموعة كبيرة من الدول الأوروبية أساسا. أيضا ارتبطت ظواهر الهجرة، باضطرابات الشرق؛: بحيث لعبت نفس الدور. وبناء على وجهة النظر هذه دائما، أودت اضطرابات المنطقة التي أنحدر منها، إلى توترات في كثير من بلدان العالم، تفسر جانبا من طبيعة الأجواء السائدة، التي دفعتني إلى وصف نتيجة الراهن بـ''الغرق''.
س- ما الذي سيصمد أمام هذا الغرق؟
ج-يجتاز العالم مرحلة صعبة ومخيفة، وأعتقد أن الوعي مهم جدا في هذه المرحلة. يتمثل أول واجب في صحوة الوعي. بالتأكيد، لست من المؤمنين بانعدام الحلول؛ لأن لا شيء يأخذ منحى واحدا، لكن يلزم إدراك حيثيات الوضع، غير أني لا ألتمس بهذا الخصوص تجليا لذلك، نعم نعبّر عن مشاعر الاستياء لكن في المقابل لا نستوعب ما يجري، مثلا افتقد العالم لسمة تجعله يستحق تسمية نظام عالمي؛ فالقوى الدولية بصدد تكريسها أنانية مقدسة، ونحن على درب سباق جديد للتسلح، واختفت كل آلية للتضامن قصد مواجهة الاضطرابات المناخية مثلا، بل ونلاحظ ذيوعا للريبة حول السلطات الدولية التي بوسعها مواجهة أخطار من هذا القبيل. طبعا ونحن بصدد الحديث عن الموضوع؛ يحضر حتما لدى الشباب وعي حقيقي بخصوص الأخطار البيئية، لكن لم تتحقق عمليا أي مبادرة تجاري مستوى هذا الخطر، مما يدعو إلى القلق.
س- هل لامس الانحدار الثقافة أيضا؟
ج-تعتبر الثقافة حاليا أكثر أهمية من أي وقت مضى؛ لأن الإشكالية ثقافية في نهاية المطاف. هناك حقب أخرى في التاريخ واجهت خلالها البشرية مشاكل واقعية وعجزت عن إيجاد حلول لها، إما بسبب افتقادها للمعرفة، أو لانعدام الوسائل الضرورية. يتجه تفكيري هنا إلى مسألة انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون في الجو التي ابتدأت فعليا مع الثورة الصناعية، غير أننا لم نلتفت إلى ذلك سوى منذ عقود قليلة فقط. إذن، حاليا ندرك حقيقة ذلك، وفي مقدورنا المبادرة، ما دامت قد توفرت لنا المعارف ثم الوسائل التكنولوجية والاقتصادية، وينبغي للمعركة الحقيقية السعي قصد الإعلاء من شأن انتماء خالص إلى وطن الإنسانية. نفتقد فقط، إلى القدرة على إرساء علاقات حقا وطيدة تربطنا بالآخرين. فما هي الوسائل التي يمكننا بواسطتها الشعور بوحدة المصير وارتباطا بالإنسانية جمعاء؟ أعتقد بأنه مشروع لن يتحقق سوى بالثقافة، وكذا معرفة عميقة، حميمة، بثقافة الآخر (متونه الأدبية، موسيقاه…)، مما يؤهل للقطع مع الأحكام الجاهزة.
س- هل ما زال بوسع معتنقي مذهب الأنسية كما الشأن معكم الشعور بكونهم سعداء؟
ج-لقد أصبتم بإشارتكم أعلاه إلى ستيفان زفايغ، الذي يظل رمزا بالنسبة إلي، أشعر نحوه بأخوية عميقة، وقرابة روحية حقيقية، أتماهى مع تصوراته أكثر كلما قرأت كتابه "عالم الأمس". في المقابل أتوقف عند تأمل طبيعة المواقف التي تبناها زفايغ، هكذا أعتب عليه إلى حد ما تبنيه اختيار الانتحار والذي يفتقد لأي معنى بالنسبة لمؤرخ. لقد اتخذ زفايغ قرارا مفاده أن الحياة لا تستحق عناء أن نعيشها مادام يعتقد بتمدد كنه الظلمات إلى مختلف بقاع العالم طيلة فترة غير محددة. غير أنه لو انتظر فقط ستة أشهر، لشاهد بوضوح أن النازية أوشكت على الانهيار. أقول هذا قصد التأكيد على ضرورة استمرار إيماننا باستحالة العثور على الخلاص سوى إن تبيَّنا نقطة ضوء عند نهاية النفق، نأمل في معانقتها ذات يوم. أعتقد بأن الوضعية الحالية خطيرة جدا، وعلى الأرجح لن نتفاعل مع ما يجري إلا حين حدوث هزات كبرى، حينئذ ستحدث انتفاضة. لابديل آخر أمامنا. فلا يمكننا السماح لأنفسنا باختيار سبيل الغرق، وكذا نهاية الحضارات.