"كل الذين ماتوا، نجوا من الحياة بأعجوبة" محمود درويش
ما العلاقة بين فن العيش والحياة؟ هل الأخيرة مقولة كبرى، مجردة، يعتبر فن العيش تجليا من تجلياتها! بمعنى تعكس الحياة تمثّلا نظريا بعيد المدى، في حين يبقى فن العيش تجليا فعليا يعكس إمكانية ضمن ممكنات الحياة.
بغض النظر عن سؤالي المفهوم والتموضع التراتبي بين أن تحيا أو فقط الاكتفاء بأن تعيش، ثم أيهما يحظى بأولية الحيز التداولي؛ أود هنا التغافل إن استطعت لذلك سبيلا عن جسامة وثقل البعد المفهومي، ثم الاقتناع بحدوس الرنين الصوتي حين التلفظ بكلمتي فن العيش أو الحياة. لعبة عفوية محض وشعرية فردية حالمة، تتوخى إرهاف السمع بكلّية الحواس والمشاعر والانفعالات والتخيلات، إلى المضامين والدلالات.
الحياة وقعها مرعب ومهول ومخيف وغامض، تماما كالإدلاء بتعبير الموت هكذا بفظاظة، بدل التحايل لغويا: رحيل، سفر، غياب، اختفاء، صمت، نوم أبدي، سكينة، إلخ. الموت؛ صوت مدوّي حد اللانهائي يهز كيان الذات بكيفية جذرية وعميقة؛ بينما التأويلات الأخرى أكثر ليونة ورحابة وجمالية، بل وتعضيدا لمركزية الإنسان في الكون، وأن الذات الواحدة؛ سيّدة ذاتها وولادتها وتحققها على هذا النحو أو ذاك.
فن العيش؛ بمثابة انتصار على الحياة الملغزة، بأخرى مستساغة ومحتملة وقابلة للتحمّل، بحيث حدث الانتقال من المفهوم الإشكالي العويص، التائه والفضفاض جدا، الذي لا يقبل بتاتا إطارا منتهيا؛ فالانتقال إلى مرحلة إرساء فن العيش توضح بأن الفرد تبيّن أخيرا شعاع ضوء على امتداد هذا النفق المظلم.
استحضار جدليتي التشاؤم والتفاؤل بهذا الخصوص؛ يمثل حديثا عن حقيقتين مختلفتين، مع التوهم أننا نقارب الموضوع نفسه. وإذا كان التفاؤل غير التشاؤم؛ فإن الحياة باعتبارها ورطة، لا يخفف من ضجرها الوجودي غير فن العيش. وأظن بهذا الصدد، أن الحكماء والمتصوفة حين استفاضتهم في التلويح باستحقاق الحياة لعناء أن نعيشها؛ فقد كرسوا ضمنيا رؤاهم تلك لفن العيش وليس الحياة، وكأنّ لسان حالهم يخاطبنا: هيّا، بعد اكتشافنا لحقيقة مجيئنا إلى هذه الحياة، فلنتدبر لنا، قبل وبعد كل شيء، مخرجا بأقل الخسائر الممكنة، عبر تبني أساليب تجعلنا نعيش الحياة دون التفكير أصلا في جدواها.
الحياة كمقولة كبرى، انفتاح على الموت بذاكرة جنائزية، يسكنها على الدوام الشعور بالعدم، لكن حين الانتقال إلى مرتبة تالية غير هذه، ضمن تأويلات كيفيات العيش؛ يصير الموت واقعة بيولوجية قابلة للتفاوض، مرتبطة بقياسات ومعدلات كمية؛ تندرج ضمن مستويات الأكل والشرب والنوم والمداواة والتطبيب والفحص الاختباري…، هكذا يبدو الموت قضية شخصية؛ ومسألة اختيارات فردية، لا تتحكم فيها قوة قاهرة، هلامية، تحدد ماهيتها قبليا، بل تعود وصفتها إلى مدى نجاعة بوصلة فن العيش.
لكن حين الانتهاء من المعركة الأولى، أي الاستعاضة عن شر الموت الميتافيزيقي بخلاص فن العيش؛ نجدنا أمام مواجهة ثانية؛ عندما يرتهن العيش المفترض انسيابه وتحرره، إلى كماشة قوة أخرى جبارة كابحة لجماح انسجام الشخص مع جسده. أقصد هنا وازع الفوبيا أو الرهاب النفسي الذي اكتسى مع التطور الحضاري أبعادا ثقافية في غاية التعقيد الرمزي: هل نعيش الحياة جزافيا دون تفكير، أم نفكر في كيفية إحياء الحياة حتى لا نجازف؟ طبعا، التفكير معناه الامتثال لقاعدة أو قواعد تمثل حتما منطلقا لتشكّلات منظومة الفوبيا المتعبة؛ بناء على ثنائية: افعلْ ولا تفعلْ !
بناء عليه، يطرح التجاذب التقييمي بين الذين يعيشون الحياة، كنزوة، منطلقين تبعا لإيقاع نداء غرائزهم الحميمي، بلا تردد أو روية، وربما اندرج هذا ضمن أسلوبهم للعيش. ثم فريق آخر تسامى من الطبيعي نحو الثقافي، مبرر المرجعيتين، العثور على جواب لسؤال: لماذا جئنا إلى هذا العالم؟ وعلى الأرجح، أن لا يطرح على ذات المنوال، عند الكثيرين.
هناك من يقف بالحياة عند حدود إشباع منطقته السفلى؛ ما دامت هذه الحياة سافلة وعاهرة ولا تستحق مجرد عناء التفكير فيها؛ بل "تُعاش" هكذا لحظيا، لحظة لحظة، بأريحية دون تلك الهواجس المتسيّدة للفوبيا؛ فالحياة متعة مطلقة يلزم التماهي مع حمولتها فوريا دون وسائط؛ لن تعمل بعد كل شيء، سوى على بث شروخ في هذه العلاقة، ومن ثمة تباعد هوة المسافة بين الشخص والحياة.
يعتبر هؤلاء منظومة الفوبيا؛ أوهاما سيكو- سوسيولوجة لا غير، أضحت مستثمرة بمكر اقتصاديا، في إطار شراسة حرب التسويق؛ بين التجمعات المالية الكبرى الجشعة، وفق شعار: الفوبيات في خدمة المافيات.
عموما، وكيفما جاءت النهايات تبعا للمقدمات أو نوعية المبررات؛ تظل الحقيقية التي لا غبار عليها، كوننا:
نولد عبثا، نتقنع كي نؤدي دورا كيفما اتفق في مسرحية سخيفة جدا، ثم نختفي دون رجعة.