إعداد: د. عصام عابدين – مؤسسة الحق
وقع الرئيس محمود عباس بتاريخ 31/12/2014 على طلبات الانضمام إلى ثماني عشرة اتفاقية وبروتوكولاً دولياً من أبرزها النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (اتفاقية روما)، وسلم رئيس دائرة شؤون المفاوضات د. صائب عريقات بذات اليوم بمقر الرئاسة برام الله طلبات الانضمام إلى نائب المنسق الخاص للأمم المتحدة جيمس راولي، فيما أودع مندوب فلسطين الدائم لدى الأمم المتحدة السيد رياض منصور وثائق الانضمام لدى الأمين العام للأمم المتحدة بتاريخ 2/1/2015.
وبالرجوع إلى المادة (126) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، فيما يتعلق بوثيقة الانضمام الخاصة بها، فإن النظام الأساسي للمحكمة يبدأ نفاذه على الأرض الفلسطينية في "اليوم الأول من الشهر الذي يعقب اليوم الستين" من تاريخ إيداع دولة فلسطين وثيقة الانضمام لدى الأمين العام للأمم المتحدة، وليس بعد ستين يوماً من تاريخ الإيداع كما يشاع في وسائل الإعلام، وبالتالي فإنه إذا كان إيداع وثيقة الانضمام لدى الأمين العام قد جرى في 2/1/2015 ومع احتساب أن شهر شباط يتكون من ثمانية وعشرين يوماً فهذا يعني أن اليوم الأول من الشهر الذي يعقب اليوم الستين من تاريخ إيداع طلب الانضمام للمحكمة يصادف 1/4/2015 وهو موعد نفاذ الاتفاقية.
الاختصاص الزمني للمحكمة وتقييم الخيار الفلسطيني
تمتلك القيادة الفلسطينية، من حيث المبدأ، خيارات متعددة، فيما يتعلق بالاختصاص الزمني بهدف تمكين المحكمة الجنائية الدولية من ممارسة اختصاصاتها على الأرض الفلسطينية، وقد اختارت بالفعل واحداً من تلك الخيارات، وإنْ بعد تردد طويل وضغط مستمر من المجتمع المدني الفلسطيني والمؤسسات الحقوقية، ترجمته من خلال وثيقة الإنضمام التي أُودعت لدى الأمين العام إلى جانب "إعلان" بالغ الأهمية يمنح المحكمة اختصاصاً بأثر رجعي منذ تاريخ 13/6/2014 مع الاحتفاظ بالحق في الرجوع بالاختصاص الزمني للمحكمة إلى تاريخ نفاذ نظامها الأساسي في 1/7/2002.
وإذا كانت القيادة الفلسطينية قد ربطت مسألة الانضمام للمحكمة بفشل المساعي في مجلس الأمن لتحديد جدول زمني لانهاء الاحتلال، فهذا خطأ سياسي وقانوني ينبغي أن ينتهي مع توقيع طلبات الإنضمام وإيداع الوثائق الدولية لدى الأمين العام ومسجّل المحكمة، وباستخلاص الدروس والعبر.
فإنهاء الاحتلال على أرضية الاحترام والالتزام الكامل بالقانون الدولي هو حق للفلسطينيين، والانضمام للنظام الأساسي للمحكمة وملاحقة مرتكبي الجرائم الدولية ووضع حد لسياسية الإفلات من العقاب وتحقيق العدالة والإنصاف لضحايا الانتهاكات الخطيرة هو حق أيضاً للفلسطينيين، وجوهر اتفاقية روما التي أنشأت المحكمة الجنائية الدولية باعتبارها هيئة قضائية دولية دائمة، وهو ليس محلاً للمساومة وخلط الأوراق، والقانون الدولي وُجد ليطبق لا ليساوم عليه ويتم تجاهله.
لا شك أن الإعلان الذي أودع إلى جانب وثيقة الانضمام لنظام المحكمة بالغ الأهمية؛ لأن من شأنه أن يمنحها اختصاصاً على الجرائم الدولية التي ارتكبت خلال الهجوم العسكري الأخير على قطاع غزة والذي أطلقت عليه سلطات الاحتلال الإسرائيلي تسمية "عملية الجرف الصامد". وهذا يقودنا وبعجالة لاستعراض الخيارات التي كانت متاحة للفلسطينيين بهدف تمكين المحكمة الجنائية الدولية من ممارسة اختصاصاتها لغايات التقييم وصولاً إلى الخيار الذي جرى اعتماده.
فالخيار الأول الذي كان متاحاً للفلسطينيين على هذا الصعيد يتمثل بالاكتفاء بإيداع إعلان بالقبول باختصاص المحكمة بأثر رجعي تحدده القيادة الفلسطينية (الجهة المختصة بحسب اتفاقية فينا لقانون المعاهدات) بحيث لا يتجاوز مداه الزمني تاريخ نفاذ النظام الأساسي للمحكمة في 1/7/2002 دون الانضمام لنظامها الأساسي وذلك وفقاً لأحكام المادة (12/3) من النظام الأساسي للمحكمة.
وحيث أن دولة فلسطين كانت قد أودعت إعلاناً لدى مسجّل المحكمة بهذا الخصوص عام 2009 من خلال وزير العدل السابق د. علي خشان تقبل بموجبه بولايتها "لغايات تحديد وملاحقة ومحاكمة المسؤولين عن الأفعال التي ارتكبت في إقليم فلسطين منذ يوم ا تموز 2002 والمشتركين معهم في ارتكابها" فإن اعتماد هذا الخيار كان يعني إرسال رسالة خطية من القيادة الفلسطينية إلى المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية تؤكد على تبني ودعم هذا الخيار. وبتوقيع طلب الانضمام للمحكمة وإيداعه إلى جانب إيداع إعلان قبول الاختصاص فإن متابعة هذا الخيار لم تعد قائمة.
وأمّا الخيار الثاني فيتمثل بالانضمام للمحكمة الجنائية الدولية، دون تقديم إعلان بقبول اختصاصها بأثر رجعي وتحديد مداه الزمني، أي أن الانضمام هنا يكون بأثر مباشر مستقبلي وينحصر فقط على الجرائم الدولية التي تختص بها المحكمة وذلك من تاريخ نفاذ نظامها الأساسي على الأرض الفلسطينية أي منذ تاريخ 1/4/2015، باستثناء "الجرائم المستمرة" التي ينعقد لها اختصاص المحكمة على اعتبار أن النشاط الإجرامي فيها لا زال مستمراً ولم يتوقف كلياً كجرائم الإستيطان والفصل العنصري والإبعاد والنقل القسري في الحالة الفلسطينية والتي ينعقد لها اختصاص المحكمة.
واذا كان لهذا الخيار بعض المزايا؛ من حيث فهم الطابع الواقعي لأداء المحكمة وكونها مؤسسة غير فعالة بالدرجة الكافية وتعاني من مشاكل لوجستية وإدارة ضعيفة ونقص بالموارد وإجراءات بيروقراطية طويلة وإرث سيء للمدعي العام السابق للمحكمة، ويستهدف توجيه وتركيز إمكانيات وموارد المحكمة باتجاه جرائم دولية مستمرة كالاستيطان والفصل العنصري، فإن مشكلة هذا الخيار تكمن في أنه لن يحقق العدالة للفلسطينيين ضحايا الجرائم الدولية الخطيرة التي ارتكبها قادة الاحتلال الإسرائيلي المسؤولين عن الهجمات العسكرية الإسرائيلية السابقة من عملية "الدرع الواقي" إلى "الرصاص المصبوب" إلى "عامود السحاب" وصولاً إلى "الجرف الصامد" فجميعها ستبقى خارج نطاق اختصاص المحكمة مع الأثر المباشر للانضمام ودون إيداع الإعلان بالأثر الرجعي للاختصاص.
وحيث أن هذا الخيار لم يعد قائماً أيضاً مع إيداع "الإعلان" بالقبول باختصاص المحكمة بأثر رجعي إلى جانب طلب الانضمام فسننتقل إلى هذا الخيار الذي جرى تبنيه من قبل الجانب الفلسطيني.
الخيار الفلسطيني هو الأفضل .. ولكن
إن الخيار الذي جرى تبنيه فلسطينياً قد جمع بين الانضمام للمحكمة أي العضوية الكاملة في اتفاقية روما والقبول باختصاصها بأثر رجعي منذ تاريخ 13/6/2014، مع احتفاظ الجانب الفلسطيني بالقبول باختصاص المحكمة بأثر رجعي يمتد إلى 1/7/2002 تاريخ نفاذ النظام الأساسي للمحكمة.
وقبل الدخول في تقييم هذا الخيار، فإنه من الضروري التأكيد على أن التهديدات التي تطلق هنا وهناك للحيلولة دون نفاذ النظام الأساسي للمحكمة على الأرض الفلسطينية ليس لها أية قيمة قانونية بموجب النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. وأن مجلس الأمن لا يملك حق الإعتراض على إجراءات الانضمام للمحكمة. وأن البيان الذي أصدره المدعي العام السابق للمحكمة لويس أوكامبو في آذار 2012 حول الوضع في فلسطيني فيما يتعلق بتعريف "الدولة" لغايات القبول باختصاص المحكمة، وبصرف النظر عن تقييمه، لم يعد قائماً بعد التصويت الذي جرى في الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 تشرين الثاني 2012 والحصول على وضع دولة غير عضو تملك الحق الكامل بالانضمام لنظام المحكمة. وبذلك، فنحن أمام مسألة إجرائية بحته تتعلق باستنفاذ المدة الزمنية اللازمة لنفاذ النظام الأساسي للمحكمة على الأرض الفلسطينية وبمرورها يصبح النظام نافذاً.
إن ما يميز الخيار الذي جرى تبنيه فلسطينياً أنه لا يقتصر فقط على الانضمام بأثر مباشر مستقبلي، وإنما بإيداع "الإعلان" إلى جانب طلب الانضمام بالقبول باختصاص المحكمة بأثر رجعي، إذ أن هذا الإعلان بالقبول باختصاص المحكمة مبدئياً منذ 13/6/2014 هو الذي سيمكن المحكمة من النظر في الجرائم الدولية التي ارتكبت خلال الهجوم العسكري الأخير على قطاع غزة. وبدون تقديم هذا الإعلان، فإن تلك الجرائم الدولية الخطيرة ستكون خارج نطاق اختصاص المحكمة؛ بما يعني أن التقرير الذي تعده لجنة التحقيق الدولية التي شكلها مجلس حقوق الإنسان في 23 تموز 2014 خلال الهجوم العسكري الأخير على قطاع غزة سيكون خارج حدود اختصاص المحكمة.
وهذا ما يفسر أن التاريخ المحدد لإعلان قبول اختصاص المحكمة بأثر رجعي (13 حزيران 2014) هو ذات التاريخ المحدد للاختصاص الزمني للجنة التحقيق الدولية المستقلة التي شكلها مجلس حقوق الإنسان، حيث نص قرار تشكيل تلك اللجنة على تكليفها بالتحقيق في انتهاكات القانون الدولي التي ارتكبت في الأرض الفلسطينية المحتلة منذ تاريخ 13 حزيران 2014، ما يعني تزامن النطاق الزمني للتحقيقات التي تجريها لجنة التحقيق الدولية والتي سيوضع تقريرها مستقبلاً بعد اعتماده على طاولة المدعية العامة وقضاة المحكمة الجنائية الدولية مع النطاق الزمني لاختصاص المحكمة.
وبالتالي فإن دولة فلسطين، وبنفاذ النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، تستطيع حسب المادة (14) منه أن تحيل للمدعية العامة للمحكمة شكاوى للتحقيق بجرائم دولية تدخل في اختصاصها ارتكبت على الأرض الفلسطينية منذ 13/6/2014 وبخاصة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية بما يشمل الإستيطان والفصل العنصري والإبعاد والنقل القسري باعتبارها جرائم مستمرة.
وبما يشمل الجرائم الدولية الخطيرة التي ارتكبت من قبل قادة الاحتلال الإسرائيلي المسؤولين عن الهجوم العسكري الأخير على قطاع غزة؛ كالقتل العمد والاستهداف العشوائي للمدنيين الفلسطينيين والممتلكات والأعيان المدنية من منازل وأبراج سكنية ومستشفيات وطواقم طبية ومصانع ودور عبادة ومدارس وآبار للمياه ومحطات للكهرباء وغيرها من الممتلكات والأعيان المدنية المحمية بموجب القانون الدولي ودون وجود ضرورة عسكرية تبرر هذا التدمير؛ كونها تشكل جرائم حرب عندما ترتكب في إطار خطة أو سياسة عامة أو في إطار عملية واسعة النطاق وفقاً للمادة (8) من النظام الأساسي للمحكمة، وتشكل جرائم ضد الإنسانية عندما ترتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد السكان المدنيين وعن علم بالهجوم وفقاً للمادة (7) من نظام المحكمة.
ولكن وبحسب الإعلان المودع من الجانب الفلسطيني فإن الاختصاص الزمني للمحكمة الجنائية الدولية محدد حالياً بأثر رجعي يبدأ من تاريخ 13/6/2014 ولا تختص المحكمة بجرائم وقعت قبل هذا التاريخ، وبذلك يكون الهجوم العسكري الذي شنته إسرائيل على قطاع غزة في الفترة بين 27 كانون الأول 2008 ولغاية 18 كانون الثاني 2009 "عملية الرصاص المصبوب" وما سبقه من هجمات عسكرية إسرائيلية بما يشمل التقرير الذي خلصت إليه بعثة تقصي الحقائق آنذاك والمعروف "بتقرير غولدستون" خارج حدود اختصاص المحكمة الجنائية الدولية.
لماذا خرج تقرير غولدستون من اختصاص المحكمة الجنائية الدولية؟
لو عدنا إلى خيار الاعلان المودع عام 2009 الذي لم يعد قائماً نجد أنه يقر باختصاص المحكمة بأثر رجعي يمتد إلى تاريخ نفاذ نظامها الأساسي في 1/7/2002 بما يشمل تقرير غولدستون وكافة الجرائم الدولية التي ينعقد لها اختصاص المحكمة وارتكبت منذ ذلك التاريخ. ولكن في المقابل، نجد أن الخيار الذي جرى تبنيه يحدد تاريخ 13/6/2014 نطاقاً للاختصاص الزمني للمحكمة ويترك الباب مفتوحاً فيما يبدو "لإعلان لاحق" يمكن أن يصدر مستقبلاً عن الجانب الفلسطيني للعودة باختصاص المحكمة إلى تاريخ نفاذ نظامها الأساسي في 1/7/2002.
وبالرجوع إلى النظام الأساسي للمحكمة، والشروحات على هذا الصعيد، نجد أنه لا يوجد ما يمنع من الاحتفاظ بالحق مستقبلاً بإيداع "إعلان آخر" بالقبول باختصاص المحكمة منذ تاريخ نفاذ نظامها الأساسي. وفيما يبدو، أن اعتبارات سياسية واعتبارات فنية بذات الوقت (تجربة 2009) هي التي دفعت بالمحصلة النهائية لأن يكون خيار انضمام الجانب الفلسطيني للمحكمة على هذا النحو.
فالجانب الفلسطيني يبدو وكأنه يسعى إلى الاحتفاظ بهذا الخيار (إعلان لاحق) والتلويح به مستقبلاً، ولا يريد الدخول في إشكاليات فنية وجدال على غرار تجربة إعلان 2009 فيما لو قبل باختصاص المحكمة قبل تاريخ الحصول على وضع الدولة المراقب في الجمعية العامة في 29/11/2012 وبالتالي إمكانية الدخول في إشكالية "الدولة" لغايات انعقاد الاختصاص للمحكمة، كما أنه لا يرغب بتحديد الاختصاص الزمني للأثر الرجعي بتاريخ 29/11/2012 كي لا يُحمّل هذا التاريخ مغزاً سياسياً أكثر مما يحتمل ولا يريده الجانب الفلسطيني، وقد فضل أن يمنح اختصاصاً زمنياً للمحكمة متزامناً مع الاختصاص الزمني الذي منحه مجلس حقوق الإنسان للجنة التحقيق الدولية المستقلة منذ تاريخ 13/6/2014، وبذلك فقد جاء خيار الانضمام فيما يبدو بالمحصلة النهائية على هذا النحو.
واضح تماماً، أننا أمام عملية وحسابات بالغة الدقة والاحتراف من قبل الجانب الفلسطيني في التعامل مع إجراءات الانضمام للنظام الأساسي للمحكمة وإعلان القبول باختصاصها، ولا تترك هامشاً لأي جدل خلال عملية مراجعة تلك الوثائق بعد إيداعها لدى الأمين العام ولدى مسجّل المحكمة.
ولكن ما تأثير الأثر الرجعي لاختصاص المحكمة على المقاومة الفلسطينية؟
إن عدم اكتفاء الجانب الفلسطيني بالأثر المباشر المستقبلي للمحكمة بدءاً من تاريخ نفاذ نظامها الأساسي في 1/4/2015، وإيداع إعلان بأثر رجعي لاختصاصها يمتد حالياً إلى تاريخ 13/6/2014 بما يشمل الهجوم العسكري الأخير على قطاع غزة؛ يجعل هذا التساؤل مبرراً؟
بداية لا بد من التأكيد على أن حق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال والاستعمار الأجنبي، المستند إلى الحق الأصيل للشعوب في تقرير المصير مكفول في ميثاق الأمم المتحدة وفي العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية وفي العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وفي العديد من القرارات الدولية الصادرة عن الجمعية العامة ومجلس الأمن.
ومع ذلك، فإننا لا نستطيع القول بأن احتمال المقاضاة غير وارد على الإطلاق، فقد خلص تقرير غولدستون في هذا الجانب إلى أن الصواريخ التي تطلقها الجماعات المسلحة الفلسطينية لا يمكن توجيهها لإصابة أهداف عسكرية محددة، وهي تشكل هجمات عشوائية ضد السكان المدنيين في جنوبي إسرائيل، ويمكن - بحسب التقرير- أن تشكل هذه الأفعال جرائم حرب وقد تكون بمثابة جرائم ضد الإنسانية. وقد يأتي تقرير لجنة التحقيق المستقلة التي شكلها مجلس حقوق الإنسان خلال الهجوم العسكري الإسرائيلي الأخير على القطاع "الجرف الصامد" على هذا النسق بهذا الجانب.
وإذا كان هذا الاحتمال وارداً، وبخاصة بعد استكمال إجراءات الإنضمام للمحكمة ونفاذ نظامها الأساسي على الأرض الفلسطينية، فإن البت فيه يعود إلى قضاة المحكمة، ولا يمكن بجميع الظروف والأحوال المقارنة بين المزايا الكبرى من الانضمام للمحكمة والمخاوف المحتملة على هذا الصعيد.
وفي المقابل، فإنه ينبغي العمل على التحضير جيداً ومبكراً لمذكرات تفصيلية بالدفوع القانونية التي يمكن للجانب الفلسطيني أن يثيرها أمام المحكمة مستقبلاً على هذا الصعيد في مواجهة المخاوف المحتملة وذلك من قبيل "الحق في الدفاع عن النفس" و "اللجوء إلى الاقتصاص" في ظل إنعدام إمكانية مواجهة وصد الهجوم العسكري الإسرائيلي الواسع والجرائم الدولية الخطيرة التي استهدفت السكان المدنيين والمنشآت والأعيان المدنية إلاّ من خلال الإمكانيات والأدوات المتواضعة التي تملكها المقاومة الفلسطينية للدفاع عن شعبها وعن نفسها في مواجهة هذا الهجوم العسكري الواسع.
ناهيك عن صعوبة، إن لم يكن استحالة، الوصول إلى قادة المقاومة الفلسطينية؛ والمقصود هنا مَن يتحكم بمنظومة القيادة والسيطرة الفعّالة وإعطاء الأوامر بإطلاق الصواريخ، فهم محل تركيز المحكمة في أسوأ الظروف، وذلك لكونهم إمّا استشهدوا أو يتعذر تحديد هوياتهم وأماكن تواجدهم كما أن حياتهم ستكون مستهدفة مباشرة من قبل الاحتلال الاسرائيلي فور خروجهم للعلن، بما يتعذر معه تعاون دولة فلسطين مع أي طلب مستقبلي للمدعي العام بناء على ما تقرره الدائرة التمهيدية للمحكمة من مذكرات حضور أو إحضار قد تصدر بحقهم في أسوء الظروف. وقادة المقاومة لا يسافرون بداهة بالطائرات ويتجولون بين الدول والعواصم المختلفة لإمكانية تنفيذ أية مذكرات قد تصدر بحقهم.
وهذا بخلاف ما عليه الحال فيما يتعلق بقادة الاحتلال الإسرائيلي العسكريين والمدنيين المتورطين في جرائم دولية ارتكبت خلال الهجوم العسكري الأخير على قطاع غزة والذين سيكونون عرضة للملاحقة الدولية بما يشمل الطلب من الدول التعاون القضائي لتسليمهم للمحكمة كما ينص نظامها الأساسي.
ولكن ماذا بعد خطوة الانضمام للمحكمة؟
لا شك بأن الانضمام للمحكمة الجنائية الدولية بعد نفاذ نظامها الأساسي على الأرض الفلسطينية يؤسس لمرحلة هامة على صعيد ملاحقة ومحاسبة قادة الاحتلال الإسرائيلي المسؤولين عن الجرائم الدولية التي ارتكبت على الأرض الفلسطينية، وعلى صعيد تحقيق الردع المستقبلي، ووضع حد لسياسة الإفلات من العقاب، والعمل على إنصاف الضحايا الفلسطينيين وتحقيق العدالة الدولية.
لذلك فقد سارعت الولايات المتحدة وشركاؤها؛ وفي مقدمتهم إسرائيل السلطة القائمة بالاحتلال؛ إلى التلويح والبدء بإجراءات عقابية سياسية ومالية واقتصادية ضد الجانب الفلسطيني، هذه الإجراءات ستكون مؤلمة للفلسطينيين، ومن المتوقع أن تستمر فترة من الزمن، وقد نشهد ارتفاعاً في وتيرة الاعتداءات الإسرائيلية وتسارعاً في وتيرة النشاط الاستيطاني، وأياً كانت تلك الإجراءات العقابية فيجب أن لا تكون على حساب الحق الفلسطيني بالانضمام للمحكمة وملاحقة قادة الاحتلال التي تحظى بظهير شعبي منقطع النظير، وأن لا تكون على حساب تحقيق العدالة الدولية لضحايا الانتهاكات الإسرائيلية الخطيرة لحقوق الإنسان، وعلى حساب استمرار سياسة الإفلات من العقاب.
وفي نهاية المطاف، فإن الولايات المتحدة وشركائها سيسلمون "بالأمر الواقع" ومفاده أن نفاذ النظام الأساسي للمحكمة على الأرض الفلسطينية مسألة إجرائية بحتة لا يمكن تعطيلها وهي واقعة لا محالة، مع محاولات عقيمة ستسعى للتقليل من نتائج وآثار هذا الإنضمام على الجانب الإسرائيلي.
ينبغي على الجانب الفلسطيني أن يتماسك جيداً في مواجهة تلك التهديدات "المتوقعة" بنتيجة الانضمام للمحكمة الجنائية الدولية، وآثارها على الصعيد السياسي والمالي، وبخاصة في المنظور القريب، وأن يمتلك أو يتسلح برؤية استراتيجية وطنية تشاركية شاملة واضحة المعالم والأهداف والأولويات في مواجهة تحديات تلك المرحلة التي ستكون صعبة وقاسية، الأمر الذي يتطلب بالدرجة الأولى ودونما تأخير العمل على تصليب جبهته الداخلية وإنجاز المصالحة وترميم البيت الداخلي.
وأن يدرك جيداً، بأن طريق المساءلة والمحاسبة على الجرائم الدولية التي ارتكبها قادة الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني أمام المحكمة الجنائية الدولية شاق وطويل، وأن لا يتوقع نتائج سريعة من المحكمة لأسباب عديدة ومتشعبة، وأن يدرك بأن بناء وتجهيز الملفات القضائية بالجرائم الدولية وفتح التحقيق والمقاضاة بها أمام المحكمة يحتاج إلى جهود حثيثة وخبرات كبيرة بما يتطلب الانفتاح الكامل على المجتمع المدني والمؤسسات الحقوقية التي تملك الخبرات في هذا المجال.
ولكن ماذا لو اكتفت دولة فلسطين بالانضمام للمحكمة دون المقاضاة أمامها؟
هذه الحالة تفترض بأن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية أصبح نافذاً على الأرض الفلسطينية، ولكن دولة فلسطين لم تقم بإحالة جرائم دولية ارتكبها قادة ومسؤولو الاحتلال إلى المدعية العامة "فاتو بنسوده" للتحقيق والسير في إجراءات المقاضاة أمام المحكمة، أي أنها لم تستخدم حقها المنصوص عليه في المادة (14) من النظام الأساسي بالإحالة للمدعية العامة، بنتيجة ضغوطات مثلاً قد تمارس على الجانب الرسمي الفلسطيني لعدم إثارة أية دعاوى أمام المحكمة.
هذا السيناريو إن حصل مستقبلاً لن يكون مجدياً، ولن يحول دون اتصال المحكمة بجرائم دولية ارتكبها قادة الاحتلال وتدخل ضمن صلاحياتها، إذ أنه وبموجب المادة (15) من نظامها الأساسي فإن المدعية العامة للمحكمة تستطيع أن تباشر التحقيقات "من تلقاء نفسها" بناءً على معلومات جدية وموثوقة مقدمة إليها من منظمات غير حكومية أو حتى من أفراد (العبرة بجدية وموثوقية المعلومات بالنسبة للمدعية العامة) عن جرائم دولية تدخل في اختصاص المحكمة ارتكبت على الأرض الفلسطينية. وبالتالي، سيكون على الجانب الرسمي الفلسطيني أن يتجاهل تلك الضغوطات إن مورست أمام إصرار المنظمات غير الحكومية الفلسطينية على المحاسبة على تلك الجرائم؛ وأن ينسق جهوده معها في تجهيز الملفات القضائية بالجرائم الدولية التي تدخل في اختصاص المحكمة.
وتجدر الإشارة، إلى أن هنالك جهوداً مشتركة تبذلها أربع منظمات فلسطينية هي مؤسسة الحق والمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان ومركز الميزان ومركز الضمير في قطاع غزة على صعيد رصد وتوثيق الجرائم الدولية الخطيرة التي تدخل في اختصاص المحكمة وارتكبت في قطاع غزة خلال الهجوم العسكري الأخير على القطاع، وقد اكتملت عملية الرصد والتوثيق تماماً، وهي تخضع حالياً للمراجعة والتدقيق، وقريباً ستتوج تلك الجهود المشتركة بتقرير شامل سيتم تسليمه إلى لجنة التحقيق الدولية المستقلة التي شكلها مجلس حقوق الإنسان خلال الهجوم العسكري الأخير على القطاع.
الأمر الذي يبرز أهمية الانفتاح والتنسيق الكامل بين الجانب الرسمي الفلسطيني والمجتمع المدني وبخاصة المنظمات غير الحكومية المعنية، وكذلك أهمية التعاون المفتوح مع لجنة التحقيق الدولية والعمل على تسهيل مهمتها وعدم السماح بفشلها، إلى جانب أهمية دخول اللجنة إلى قطاع غزة عبر معبر رفح لتجاوز العراقيل الإسرائيلية وغيرها وإنجاز مهام التحقيق المكلفة بها على الوجه الأكمل.
هل يملك مجلس الأمن صلاحية إرجاء التحقيق أو المقاضاة أمام المحكمة؟
نعم يملك مجلس الأمن الدولي ذلك، وهذه من أبرز الثغرات التي يعاني منها النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية؛ حيث تنص المادة (16) من النظام الأساسي للمحكمة على أنه "لا يجوز البدء أو المضي في تحقيق أو مقاضاة بموجب هذا النظام لمدة اثني عشر شهراً بناء على طلب من مجلس الأمن إلى المحكمة بهذا المعنى يتضمنه قرار يصدر عن المجلس بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة؛ ويجوز للمجلس تجديد هذا الطلب بالشروط ذاتها".
وبالتالي، فإن مجلس الأمن يملك صلاحية تأجيل الإجراءات الجزائية المتخذة أو التي ستتخذ في أية مرحلة من مراحل الدعوى أمام المحكمة الجنائية الدولية؛ سواء قبل بدء التحقيق من قبل المدعية العامة أو خلال مرحلة التحقيق أو في مرحلة المحاكمة بقرار يتخذه المجلس وفق الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ولمدة اثني عشر شهراً، قابلة للتجديد بقرارات مجلس الأمن بذات الشروط.
ولكن مجلس الأمن لا يملك صلاحية "إسقاط" الدعوى الجزائية وإنهاء التحقيق أو المقاضاة أمام المدعية العامة أو المحكمة، بما يعني أن الدعوى الجزائية المرفوعة بالجرائم الدولية الخطيرة التي ارتكبها قادة الاحتلال على الأرض الفلسطينية تبقى قائمة في أية مرحلة هي عليها تحقيقاً أو مقاضاة، وهي لا تسقط بالتقادم بتأكيد المادة (29) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
وبذلك تبقى إمكانية استئناف الملاحقة الجزائية قائمة مع أي فشل باتخاذ القرار بالتأجيل من مجلس الأمن وفق الفصل السابع من الميثاق، ويبقى سيف الملاحقة القضائية الجزائية مسلطاً على قادة ومسؤولي الاحتلال على الجرائم الدولية التي ارتكبت، وهذا الوضع إنْ حصل سيشكل إحراجاً كبيراً لمجلس الأمن كونه سيظهر عندئذ بمظهر الحامي أو المتواطىء مع متهمين متورطين بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بعرقلته للعدالة القضائية الدولية، مع ضربات سياسية ودبلوماسية ونفسية موجعة لقادة الاحتلال تحت هاجس استئناف الملاحقة القضائية مع أي إخفاق من مجلس الأمن.
وماذا عن الدعاوى التي قيل أنها رفعت أمام المحكمة ضد الرئيس ومن قبله السيد مشعل؟
تستند المعلومات المرفوعة للمدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية ضد الرئيس الفلسطيني ومن قبله السيد خالد مشعل، بحسب التصريحات الإعلامية التي نقلت تلك الأنباء، إلى أن السيد الرئيس وكذلك السيد مشعل يحملان الجنسية الأردنية، والأردن هو دولة عضو في نظام المحكمة (لم تكن فلسطين دولة عضو في ذلك الوقت) وتزعم تلك الادعاءات بأن كل من الرئيس الفلسطيني والسيد مشعل قد ارتكبا جرائم دولية ينعقد لها اختصاص المحكمة الجنائية الدولية تحقيقاً ومقاضاة.
وبمعزل عن الخوض تفاصيل ما نشر بهذا الخصوص، فإن تلك المعلومات مصيرها إنْ رفعت أن تؤول إلى عدم قبولها من المدعية العامة، قبل السير في إجراءات التحقيق الأولي بشأنها، حيث أنه عندما تتسلم المدعية العامة للمحكمة تلك المعلومات، وقبل السير في إجراءات التحقيق بموضوعها، عليها أن تفحص الشروط المسبقة للاختصاص ومقبولية الدعوى أمام المحكمة، وبالتالي الوقوف عند مسائل أساسية تتعلق بوجود الجنسية الأردنية فعلا؟ وإثبات المسؤولية الجنائية أو بالاشتراك الفعّال والمباشر بجرائم تدخل في اختصاص المحكمة من خلال إصدار الأوامر أو التعليمات بارتكابها؟ ووجود أدلة قوية تثبت ذلك؟ وأنها على درجة كافية من الخطورة بما يبرر السير في إجراءات التحقيق الأولي بشأنها من قبل المدعية العامة حسبما تقتضيه المادة (17) من النظام الأساسي للمحكمة؟ وأن هنالك أسباباً جوهرية تدعو المدعية العامة للاعتقاد بأن الشروع بالتحقيق فيها سيخدم مصالح العدالة حسبما تقتضيه المادة (53) من النظام الأساسي للمحكمة؟
وفي حال تقديم ذات المعلومات للمدعية العامة لفتح تحقيق من تلقاء نفسها بعد انضمام دولة فلسطين للنظام الأساسي للمحكمة على اعتبار أنه لا حصانة لرؤساء الدول بموجب النظام الأساسي للمحكمة، وأن الاتهام يتناول مواطني دولة فلسطين باعتبارها طرفاً في النظام الأساسي للمحكمة، فإنّ تعذر إثبات المسؤولية الجزائية وما قيل أعلاه كفيل بأن يؤول إلى عدم قبول المدعية العامة للمعلومات المقدمة قبل السير في إجراءات التحقيق الأولي بشأنها أو عدم إعطاء الدائرة التمهيدية بالمحكمة الإذن للمدعية العامة للسير بإجراءات التحقيق الرسمي لعدم مقبولية الدعوى أمام المحكمة.
وهذا سينطبق على العديد من المعلومات التي من المتوقع رفعها من قبل الجانب الإسرائيلي للمدعية العامة للمحكمة، مطالبة إياها بفتح تحقيقات بشأنها من تلقاء نفسها، وذلك لافتقارها للجدية والموثوقية اللازمة ومقبولية الدعوى أمام المحكمة، فهي لا تعدو كونها انعكاس لحالة من الصدمة والارتباك التي يعيشها قادة الاحتلال من وقع الانضمام الفلسطيني للنظام الأساسي المحكمة.