غزة- محاسن أُصرف
حالة من البلبلة أثيرت في قطاع غزة بُعيد وفاة الشاب "أحمد عبد المجيد جاسر الفرا" 36 عاماً داخل قسم العناية المكثفة بمجمع ناصر الطبي في مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة، خاصة بعد إعلان عدد من وسائل الإعلام المحلية أن سبب الوفاة إصابته بإنفلونزا الخنازير “H1N1”، غير أن التقارير الطبية وبلاغ الوفاة نفى ذلك مؤكداً أن السبب فشل كلوي، فيما شددت أسرته على أن السبب الرئيس لوفاة ابنهم "أحمد" فايروس انتقل إليه داخل وحدة العناية المركزة في المستشفى المذكور أدى إلى تلوث الدم وأثر على وظائف أعضاء جسده جميعها حتى توفي.
الشقيق الأكبر لـ الضحية "أشرف عبد المجيد الفرا" 42 عاماً ، قرر الخروج عن صمته وخص "الحدث" بتفاصيل مرض شقيقه "أحمد" بدءاً من التشخيص العفوي من طبيب قسم الاستقبال في مستشفى ناصر، مروراً بالاشتباه بإصابته بفايروس “H1N1” دون إجراء التحاليل اللازمة للتأكد من الإصابة أو عدمها، وصولاً إلى دخوله غرفة العناية المكثفة وتدهور عمل الجهاز التنفسي لديه بشكل غير مسبوق كنتيجة لإصابته بفايروس شرس أدى إلى تلوث دمه وخفض نسبة الأكسجين فيه وإتلاف خلايا وأعضاء جسده سريعاً حتى توفي ظهر الجمعة 5/12/2014.
نبرة صوت "أشرف" تراوحت بين ألم الفقد، وغضب الاتهام للأطباء بإهمال حالة شقيقه الصحية منذ اللحظة الأولى التي ولج فيها إليهم يشكو آلام إنفلونزا عادية وارتفاعاً في درجة الحرارة لم تتجاوز 39 درجة، يقول لـ"الحدث": "الطاقم الطبي في قسم الاستقبال بمجمع ناصر، تعامل بعدم مسئولية حيال شقيقي الذي ذهب إليهم في 24/11/2014 يشكو من آلام في صدره وسعال مستمر وارتفاع درجة الحرارة"، وتابع: "أنهم رفضوا إخضاعه للفحص السريري واكتفوا بالمعاينة النظرية ووصف نوع من المضاد الحيوي ليُعالج حساسية الصدر"، متهماً إياهم بالتعامل مع شقيقه والمرضى عموماً "بأدنى مستويات المهنية والإنسانية"، وفق تعبيره.
لم تتحسن حالة "أحمد" كثيراً حتى يوم الجمعة 28/11/2014 حيث طلب إلى أشقائه أن يُعاود إلى المستشفى مجدداً لعمل صورة أشعة لصدره للاطمئنان، يقول "أشرف": "ذهبنا لكن الطبيب لم يُغير معاينته الشفهية له وأصر عليه أن يستمر على الدواء السابق، الأمر الذي استهجنته على الطبيب وسألته كيف تجدد وصف الدواء دون إخضاعه للتصوير الإشعاعي أو الفحص الدقيق لمعرفة مدى الحساسية لديه؟ وهل المضاد الموصوف كافٍ للشفاء منها أم بحاجة إلى المزيد؟"، لافتاً إلى أن الطبيب لم يكترث لحديثه في البداية ولكن: "بعد جهد وعناء، وأمام إصرارنا منحنا ورقة للتصوير الإشعاعي على غير اقتناع منه وهنا بدأت التجربة الثانية والأكثر خطورة".
التهاب رئوي
كانت نتائج التصوير قد أظهرت وجود التهاب رئوي لدى "أحمد" وما كان من الطبيب الذي صُدم بالنتيجة إلا أن قرر أن يُدخله قسم الصدرية والمبيت في المستشفى لتلقي علاج في الوريد ليُعجل شفاءه ريثما يُعرض صباح اليوم التالي على الطبيب المختص.
بدأ "أحمد" يتلقى علاجه داخل قسم الصدرية بالمستشفى في غرفة عادية، كانت حالته مستقرة، حرارته بدأت بالانخفاض ونسبة الأكسجين في الدم لديه وفق الفحص الأخير للطبيب (ر.أ) أخصائي الأمراض الصدرية بالمستشفى تراوحت 90-95%، وأكد أن تدني النسبة طبيعي نتيجة الالتهاب، وبعلاج لا يستغرق أكثر من 5 أيام تعود إلى 100%.
اطمأنت أسرة "أحمد" قليلاً على حالته وأنها أيام معدودة ويُغادر المستشفى إلى حضنهم، غير أن اطمئنانهم لم يدم، فما أن مرّ الطبيب (ح.س) عليه حتى قرر نقله إلى وحدة العناية المكثفة، بل ووضعه على جهاز التنفس الصناعي دون إبداء أسباب واضحة سوى لزيادة كفاءة الرئتين، وتساءل هنا "أشرف": "هل نقص الأكسجين الدم بنسبة 10% على الأكثر يستدعي ربط جسد المريض بالتنفس الصناعي؟!" لكن أحداً لم يُجبه!!
توجست عائلة المريض وتحركت سريعاً باتجاه الحصول على نموذج لتحويل العلاج بالخارج، خاصة بعدما بدأت نسبة الأكسجين في الدم لدى ابنهم فور وضعه على جهاز التنفس الصناعي في العناية المكثفة إلى 65-75%، يقول "أشرف": "في زمن قياسي تم الحصول على التحويلة التي صدرت إلى مستشفى "رابين بلنسون" داخل الأراضي المحتلة، وتم التنسيق بشكل عاجل على أن يخرج من القطاع، لكن الأطباء فشلوا في إيصاله من سرير العناية المركزة إلى سيارة الإسعاف، ما أدى إلى تدهور حالته بشكل متسارع".
اشتباه بإنفلونزا الخنازير
بعد حصول عائلة "أحمد" على نموذج رقم واحد من أجل التحويل للعلاج بالخارج اكتشفت أن الأطباء يشكون بإصابة ابنهم بـ“H1N1”، يقول "أشرف": "كان التشخيص المرفق مع النموذج التهاب رئوي أدى إلى قصور في عمل الجهاز التنفسي وذُيل بعبارة “H1N1” وعلامات استفهام"، ويُشير أن الفريق الطبي بالعناية عجز عن منحه الدواء اللازم وهو (تاميفلو) نظراً لنفاذه من مخازن وزارة الصحة في قطاع غزة، وما وجد منتهي الصلاحية، يقول: "حاولنا توفيره من الضفة الغربية ولكن للأسف أيضاً لم نجد إلا عبوة واحدة أحضرها طبيب يُدعى "عبد المجيد البشيتي" كان في دورة طبية بالضفة وأحضرها من القدس بمبلغ 150 شيكل"، لافتاً إلى أن صعوبة، بل ندرة وجود ذلك الدواء ينفي تصريحات "د. أسامة النجار" الذي طالما أكد أن العقار متواجد بكثرة في مخازن الوزارة في قطاع غزة.
الفشل في نقله للعلاج بالخارج
تأملت أسرة "أحمد" أن تتحسن حالته قليلاً خاصة وأنه بعد حصولهم على التحويل للعلاج في مستشفى "رابين بلنسون" جرى تواصل بين أحد الأطباء الإسرائيليين الذي من المُقرر أن يُشرف على حالته ويُتابعه فور وصوله وبين الطبيب (ر.أ) في مستشفى ناصر، والذي وصف بدقة حالة "أحمد" لاتخاذ الإجراءات اللازمة، يقول أشرف: "في اليوم التالي كانت الإجراءات مستوفية وكان على الجانب الآخر من معبر بيت حانون "إيرز" سيارة إسعاف من المستشفى الإسرائيلي مزودة بوحدة عناية مركزة لاستقبال شقيقي أحمد، لكن الأطباء في مجمع ناصر فشلوا في نقله من سرير العناية المركزة إلى سرير سيارة الإسعاف".
تحّرق "أشرف" غضباً واستمر يصف رحلة الموت التي عاناها شقيقه في عملية نقل لا تستغرق أكثر من دقيقتين، يقول: "تهاون الأطباء المناوبون في العناية المركزة وقتها بحساسية وضع "أحمد" حتى أن أحد الأطباء المُكلفين بنقله إلى سيارة الإسعاف ومرافقته حتى المعبر، لم يُكلف نفسه أن يتأكد من صلاحية جهاز الأكسجين الذي سيستخدمه أثناء نقل أحمد إلى المستشفى"، ويُشير أنه تم رفع جهاز التنفس الصناعي عن شقيقه في غرفة العناية ووضع له جهاز "الأمبو" اليدوي، وهنا كانت نقطة انطلاق "أحمد" في رحلة الموت، يقول أشرف، ويُتابع أن الطبيب "ر.ع" غير أربعة أجهزة تنفس يدوي "الأمبو" لم يكتشف تعطلها إلا بعد أن جربها على شقيقه الذي فصله عن جهاز التنفس الصناعي الأساسي في غرفة العناية ليتم نقله إلى سيارة الإسعاف، ويؤكد "أشرف" أنه بعد حالة الإرباك في تجربة الأجهزة وعدم ضخها للأكسجين، تدهورت حالة "أحمد" وكاد قلبه أن يتوقف ووصلت نسبة الأكجين إلى 10%، حينها تدارك الطبيب الأمر وأعاده إلى العناية.
تقصير واضح
يتهم أشرف وعائلته الطبيب (ر.ع) و (ن.د) اللذين كانا يُشرفان على نقله من سرير العناية إلى سيارة الإسعاف بالتقصير والإهمال في أداء واجبهما المهني إزاء المريض، وأكدوا أن فشلهم في نقله أدى تالياً إلى تدهور حالته الصحية وعدم النجاح في نقله للعلاج بالخارج حتى توفي، ويتساءل هنا شقيق الضحية عن ضمير الطبيبين، كونهما يعلمان كأطباء بخطورة أن يُفصل جهاز التنفس الصناعي عن شقيقه أحمد الذي كان معدل الأكسجين عنده 65 -75% ، وتابع بمرارة: "لماذا لم يتأكدا من صلاحية جهاز التنفس اليدوي وجعلا شقيقه حقل تجارب لفحص صلاحية أربعة أجهزة تنفس يدوية جميعها لم تضخ أكسجيناً من لحظة خروجه من العناية وحتى وصوله الإسعاف؟! بل لماذا لم يُخرجا جهاز التنفس الثابت من مخزن المستشفى واستخدامه في تسهيل عملية النقل دون تأثر مستوى نسبة الأكسجين في الدم؟!"
فيما تتهم عائلة الضحية إدارة العناية المركزة بالمستشفى جميعها بالإهمال وعدم تأدية واجبها المهني والإنساني، لافتة إلى أن الطبيب الإسرائيلي بعد أن أبلغوه بعدم مقدرتهم على إيصال المريض أشار عليهم بعدة إجراءات للعناية بالمريض كـ"تنويمه على بطنه" لعودة عمل الجهاز التنفسي بشكل أفضل إلا أنهم لم يُنفذوا، ويستكمل: "أيضاً كان يُخبرهم بأنواع علاج من الضروري أن يتناولها المريض، إلا أنهم تذرعوا بعدم وجودها في صيدلية المستشفى وحتى عدم توافرها في القطاع بسبب الحصار وإغلاق المعابر"، ناهيك عن عدم مراعاته لطرق السلامة والوقاية داخل القسم، ولا يستبعدوا أن يكون الفايروس الذي اكتشفه الأطباء قد انتقل إليه داخل العناية التي كانت مفتوحة أمام الجميع تماماً كـ "بازار" و"سوق تجاري" و"مطعم"، ويتساءل هنا "أشرف": "هل يُمكن أن تكون غرفة الأطباء في هذا القسم الحساس عبارة عن مدخنة للأطباء المدخنين ومطعم يتناولون فيه الطعام في وقت يخوض فيه عمال النظافة في كافة مستشفيات القطاع إضراباً كاملاً عن العمل؟"، وهل يُعقل أن تُفتح أبواب القسم للزيارة دون مراعاة إجراءات السلامة الوقائية؟!
نهاية الألم
ستة أيام بقي فيها "أحمد" يُصارع الألم دون إيجاد سبيل لمحاولة إخراجه من العناية المكثفة، والسبب تآكل أعضاء جسده نتيجة المضادات الحيوية التي كان يتلقاها لقتل الفايروس الذي هاجمه داخل العناية المركزة منذ الأيام الأولى لدخوله إليها، يقول "أشرف": "استمر تواصل الطبيب الإسرائيلي مع إدارة العناية المركزة التي يرقد داخلها "أحمد"، وكان يوجه الأطباء فيها لآليات علاج يُمكن أن تُحسن حالته قليلاً ليتمكنوا من توصيله إلى معبر بيت حانون "إيريز"، لكن الأطباء تعاملوا "بتعالٍ وكِبر"، وفق تعبيره، في البداية، ولكن مع تزايد سوء حالة شقيقه لم يجدوا بداً من تنفيذ بعض الاقتراحات كتنويمه على بطنه، يؤكد أن تلك الحركة أعادت نسبة التنفس لديه إلى 97% واستبشر الجميع خيراً لكن الفايروس كان قد قضى على الكليتين عنده، ما أدى إلى وفاته بفشل كلوي ظهر الجمعة 5/12/2014.
يؤكد "أشرف" أن الأطباء لم يتعاملوا مع شقيقه كـ"وحدة متكاملة"، لافتاً أنه لم تكن هناك متابعة وفحص دوري لعمل أجهزة الجسم وهو تحت مؤثر التنويم في وحدة العناية، كما أنهم في وقت اشتباههم بإصابة شقيقه أحمد بـ”H1N1” عالجوه بالعقار المضاد للمرض وكان منتهي الصلاحية.
رحل "أحمد" وترك ألماً لا يغادر قلوب أحبته، زوجته الحامل في أشهرها الأخيرة، أطفاله الثلاثة الذي لم يتجاوز أكبرهم أعوامه الثلاثة، والديه المُسنين وشقيقه الأصغر "علي" من ذوي الاحتياجات الخاصة، جميعهم يُقرون أنهم خسروا بسمة حياتهم "أحمد"، غير أن عزاءهم أنه رحل لمنزلة أبقى، اختارها الله له، يؤمنون ويسلمون لقدر الله وقد احتسبوه عند الله شهيداً، لكنهم يُصرون على أن سبب الوفاة كان إهمالاً بشرياً من صُنع أطباء!!