عتبة.
الحدث.
أدارت وجهها إلى الشباك، راقبت شيئاً ما لا يعنينا ولا يخصنا كلنا، لكن ما يخصنا أن مراقبتها تلك حجبت عنا رؤية وجهها. أنا بالذات أحب رؤية الوجوه، أحب التحديق فيها من باب الفضول، لكن، كان يخيل لي وإذا ما بادرتها بسؤال ومن باب الاحتكاك البريء عن ماذا تراقب؛ تخيلتها ستقول لي:
شو دخلك انت؟
شو دخلني؟
حسناً، هذا رد شرعي طبعاً. رد شرعي لا يزعج أحداً على الاطلاق، لا يرف جفن لجلافته اللطيفة. هي حرة بالأشياء التي تراقبها، إذا كان فأر قد دخل إلى جحره وتنتظره أن يخرج، أو قطة تواعد قطاً ليتحدثا في أمور عائلية. كانت تراقب المشهد باندماج طفولي طويل وممل. هذا طبيعي جداً. طبيعي لدرجة تجبرك على الجلوس في السيارة بصمت كنائسي مهيب.
وفي حركة تعبر عن عنفوان ثوري كبير أزاحت الفتاة وجهها فجأة، أزاحته وبلا طلب من أحد وبطريقة تذكرك بمشهد انفجار نووي على التلفاز، مشهد يحبس الأنفاس والنبضات ويقربك كثيراً من الشيخوخة. تشعر أنك أصبحت كهلاً فجأة، أو صنماً يخجل أن يتنفس، هكذا دفعة واحدة.
كان الوجه صنيعة رومانية فائق الرقة، نُحت وسُكب مثل سيوف المحاربين القدماء، بملامح راسخة مثل آثار قديمة، تفاصيل حادة مثل شِبريّة. كان وجهاً رشيقاً يشي بأن لاعبة يوغا تمارس استرخاءها هناك، وتتمطط استعداداً لشيء ما. أما العنق، فكان ولشدة جماله وبياضه وطوله، يجبرك على قضم مسند الرقبة المخصص لإراحة الركاب أثناء السفر الطويل، أو أن تتحول إلى آكل بلاستيك يقضم كل شيء يبرق أمامه، هكذا ببساطة شديدة. كان عنقاً مثل نخلة باسقة، تتقزم البشرية أمامه وتنبعج أعناقها أمام طوله وتجعلهم في بحث دائم ومستمر عن غابات الموز لإجراء طقوس وعبادات تقدّس الأعناق. كان عنقاً جميلاً بحق.
أزاحت وجهها، فصمت ركاب الحافلة، صمت متعب الصقّار واعتذر عمر العبداللات عن الغناء، وتحولت الأصوات المقززة القادمة من المذياع إلى سيمفونية مذهلة تنساب بعجلة وبتدفق سريعين من زمن جميل، زمن يوحي بالخير والرقة والبياض. صمت الشارع المحاذي للمنطقة الصناعية. توقفت المنطقة الصناعية عن العمل، وساد الهدوء المطبق أرجاء المدينة كلها. تحولت المدينة إلى مدينة ساكنة. دمية نائمة، مدينة مبتسمة، ابتسم أصحاب الشركات والمؤسسات الحكومية ومحلات الجواهر، ابتسم جامعو القمامة، وابتسمتُ أنا أمام هذا الجمال الوافر الذي انهمر مثل فيضان قاسي القلب حين أزاحت الفتاة وجهها على وجه الأرض كمنارة وسط الظلام.
تسرنم الركاب. ساروا نياماً في شوارع المدينة، مشت المدينة كلها نائمة، مشت المدينة وأهلها على أصابع أقدامهم، مثل اجتياح خجول لبقعة مقدسة، كأن مساً من السحر أصاب كل شيء، خشم العقول والأفئدة والعيون، تجولت مظاهرات صامتة ونائمة في الميادين العامة، لم تطالب بشيء، لم تصرخ، لم تبكِ ولم تضحك، سوى انها كانت تناجي قوى الغيب والأرض والسماء والكواكب المجاورة وترجوها كلها أن يستيقظ أمير من أحلامه، ويتوقف عن كل هذا الهراء.