روىّ في السياسة والفكر
الحدث.
تَتَوزَّعُ ظواهر الفكر والسلوك السياسي – في جانبها السَّلبي على الأقل - بين عدَّةِ أنماطٍ نَذْكُرُ منها: (الدُّوغماتيَّة) العقائديَّة؛ والمِيكَافيليَّة؛ والتَّسَلُّطيَّة أو السُلْطَوِيَّة؛ والبريغماتيَّة؛ والتَّوجُّه البيروقراطي على الصَّعيد الشخصي والمنهجي.
تعني الدوغماتيَّة أو العقائديَّة: الجمود في نظام معتقدات الفرد أو الجماعة؛ وعدم قابلية تلك المعتقدات للتأثُّر بالحقائق والوقائع الجديدة؛ وتميلُ الشخصيَّة العقائديَّة الى قبول أو رفض الآخرين على أساسِ درجة موافقتهم أو معارضتهم لإفكارها ومعتقداتها؛ والحقائق – في نظر العقائدي الدُّوغماتي – ليس لها معنىً إلَّا من خلال منظوره العقائدي. هذا النَّمط من الشخصيَّة يتعاطى مع التفكير والفكر والسلوك السياسي على ذات القاعدة الَّتي صاغت شخصيَّته العقائديَّة في جانبها الإدراكي والفكري والإجتماعي.
فيما تعني الميكافيليَّة: ذلك السُّلوك الإنتهازي المجرَّد من القيَم؛ والمُستَنِد الى تحقيق الأهداف الشخصيَّة بغض النَّظر عن مدى أخلاقيَّة الوسيلة المتَّبعة للوصول الى تحقيق المصالح الذَّاتيَّة.
أمَّا التسَلُّطيَّة أو السلطوِيَّة فتعني: الإيمان بضرورة التحديدات الواضحة لمراكز القدرة والمكانة والإلتزام بالولاء لتلك المراكز في أوساط المجتمع أو الجماعات أو المنظمات أو الدُّول.
وهي تعني فيما تعني: الإستعداد لتقَبُّل فكرة القيادة الفرديَّة المُطْلَقة؛ أو الإستعداد لتقبُّل منهج التوجيه الفردي المركزي؛ والإيمان بضرورة الطَّاعة العمياء للسلطة الرَّسميَّة بكافَّة أشكالها؛ وأنَّ القرارت يجب أنْ تُبنى على قاعدة رغبات وضرورات القيادات العليا قبل أيّ شيءٍ آخر.
وتعني البريغماتيَّة: مرونة الأفكار والسُّلوك وعدم تحديد معايير نظريَّة أو أخلاقيَّة للصِّحة المطلقة او الخطأ المطلق للأفكار بالإستناد الى أنَّ قيمة الأفكار وأهميَّتها تنبع من عملِيَّتها وديناميكيَّتها لِجِهَةِ الوصول الى الأهداف الَّتي تحقق المصلحة؛ وبمعنى آخر هي: الإيمان بصحَّةِ الأفكار على قاعدة عمليَّتها وليس أخلاقيَّتها.
فيما يعني التَّوجُّه البيروقراطي لدى الجماعات والأفراد: الإيمان بضرورةِ الخضوع الذَّاتي لسلطَةِ المستويات الأعلى في القيادة أو السلطة الإجتماعيَّة أو الإداريَّة أو الدِّينيَّة أو السِّياسيَّة أو التنظيميَّة بوجهٍ عام.
وعند محاولة تفسير هذه الظَّواهر والأنماط من الأفكار والشخصيَّات والتَّوجهات والسُّلوك؛ لا بدَّ من العودة الى التحليل المنهجي والعلمي للبناءِ السَّيكولوجي لتلك الظَّواهر والأفكار والتَّوجهات وأنماط السُّلوك.
وإذْ ذاك فإنَّهُ لا يمكننا عزل نوع وطبيعة الإدراك والتفكير والسلوك لدى الأفراد والجماعات عن جملة العوامل والسِّمات النفسيَّة (السيكولوجيَّة) الخاصَّة بهم؛ وعن الخصائص الإدراكيَّة لديهم؛ وعن ما يُسمَّى بالمصافي النَّفسيَّة أو عوامل التشويه الإدراكي للواقع؛ وعن منظومات القِيَم الَّتي لها صفة الإستقرار في النَّفس.
جُملة هذه العوامل؛ مُضافاً إليها جُملةُ العوامل المتَّصلة بدرجة ونوعيَّة وجودة المعرفة والمستوى الثَّقافي هي - غالباً - مَنْ تَصُوغُ نَمَطَ الشَّخْصِيَّةِ لدى الإفراد وتحددُ اتِّجاهاتهم؛ وهي في المحصِّلة من تحدد السِّمات المشتركة بين مجموعةٍ مُعيَّنةٍ من الأفرادِ؛ بحيث يمكنُ تصنيفهم ضمن مجموعة لها سماتها الخاصَّة؛ ذات العلامات الفارقة أو المُمَيِّزة؛ وهي في المحصِّلة من تحدد أنماط التفكير والسلوك.
وبما أنَّ التفكير والسلوك السياسي هو أحد جوانب النَّشاط الإنساني بما هو عام – على المستوى الفردي والجماعي على حدٍّ سواء – فإنَّ جملة تلك القواعد تنطبقُ عليه كما تنطبق على مختلف جوانب السلوك الإنساني بشكلٍ عام.
هذا يَنْقُلُنا الى مناقشةِ جُمْلَةٍ من الأفكار الأساسيَّة ذات الصِّلة بعلم السُّلوك؛ وعلم السُّلوك التَّنظيمي تحديداً – ذلك العلم الَّذي يُحاول تفسير سلوك الإنسان وتحليل دوافع وحوافز السُّلوك الإنساني وتحديد اتِّجاهاته على أساس النَّظريات التي تتناول موضوع الإدراك والتفكير وأنماط الشَّخصيَّة واتِّجاهاتها؛ وتتناول دور منظومات وطبيعة القيم والأخلاق المستقرَّة في الشَّخصيَّة أو في الجماعة؛ وأهميَّة دور الدَّوافع والحوافز في تحديد اتِّجاهات السلوك؛ ضمن المناخ الإنساني العام؛ أو البيئة الإجتماعيَّة الخاصَّة؛ أو ضمن منظومة وبيئة العمل في المنظَّمات ذات الصِّبغة الإداريَّة – وهي تلك الَّتي تخضع في نشاطها لأنظمة إداريَّة أو بيروقراطيَّة مخصوصة ومحدَّدة – أو تلك البُنى الإجتماعيَّة الَّتي تحكمها منظومة من القيم الثَّقافيَّة والأخلاقيَّة أوالإجتماعيَّة الخاصَّة؛ أو تلك المجموعات والبُنى السِّياسيَّة الَّتي تنتظم وفق قواعد فكريَّة محدَّدة؛ وتسعى وراء تحقيق أهداف مشتركة لمجموعِ الأفراد الَّذين يُشَكِّلون جسمها التَّنظيمي ورافعة أدائها الفعلي.
وتلك الأفكار هي:
طبيعة ونوع الإدراك وآلِيَّاته؛ وعلاقته بالمُثيرات والمؤثِّرات الحسيَّة وغير الحسيَّة؛ ومحدِّداته واتِّجاهاته ونقاطه المرجعيَّة الأساسيَّة؛ وضرورة تمييزه عن عمليَّة التفكير؛ وعوامل التشويه الإدراكي؛ وأحد أهم مظاهرها(الإدراك الإنتقائي للواقع)؛ وكذلك أنماط الشَّخصيَّة واتِّجاهاتها؛ وطبيعة الأفكار ودرجة التَّمسك بها وموافقتها للواقع موضوعيَّاً؛ دون تلوينٍ بحسب الرَّغبات أو المصالح الأنانيَّة الخاصَّة الضَّيِّقة.
وبالمناسبة فإنَّ آلية الإستجابة الحسيَّة والعاطفيَّة والإدراكيَّة للمُثيرات وللمؤثِّرات؛ وكذلك جُمْلَة القواعد الفكريَّة والقِيَميَّة والأخلاقيَّة المرجعيَّة المتَّفق عليها بين الأفراد؛ كما جملة الأهداف المشتركة؛ هي في الحقيقة من يخلق – وفي العادة – منظومة الدَّوافع والحوافز المُتجانسة لدى الأفراد في بيئة العمل الجماعي؛ وتحديداً لدى المجموعات السِّياسيَّة؛ أو لدى ما يُصْطَلَحُ عليه بمجموعات المصالح المُشْتَرَكة أيَّاً كانت طبيعة أعمالِها أو أنْشِطَتِها أو غاياتها؛ بل هي الَّتي تخلِقُها وتبرر وجودها الواقعي.