الحدث - فكر ونقد
الرثاء فعل باهت: يجامل الموت، ويتواطأ معه علانيةً، ويطبِّع علاقته مع الحياة بإدخاله حيِّز التذكُّر بالمجَّان. يتحدد الرثاءُ مرَّةً وينطفئ، ويكتفي بتعقيبيَّة البلاغة التي توالف الموت ولا تواجهه... لكنَّ الرثاء، في فلسطين، فاتحة اقتصاد سياسي للموت يزدهر مع رحيل من لم يمتلك حق تقرير مصيره حيَّاً ولا ميِّتاً، وكأنه منذور لخسارة زمان المصير بعد أن خسر مكانه. وإذا كان حسين البرغوثي قد قال ساخراً، قبل لحظات من مواجهة موتٍ لا يحسن الانتظار ولا السخرية، إن: "أسوأ ما في الموت توقيتُه"، فإن هشام أحمد فرارجة، وقد رحل بعيداً عن فلسطين، يعلِّمنا أن "أسوأ ما في توقيت الموت" حدوثُه في المنفى، وأن نصيبه من الحياة (1963-2019) كان مناورة للموت بسلاح فلسطيني بدائي، يُدعى الإرادة، ومساورة للمستحيل بحصاة ستهدم جداراً.
قبل عام من انفراج تيه النكبة بولادة منظمة التحرير الفلسطينية، ولد هشام في مخيم الدهيشة في بيت لحم لحسين وحليمة-اللاجئين من قرية زكريا المطهرة عرقياً من قبل القوات الصهيونية في أواخر تشرين الأول 1948. وفيما أودت ظروف المعيشة القاسية للعائلة المنكوبة بحياة خمسة صِِبية وصبيَّة، حالفت المقادير أختين، وأخوين ولدا مكفوفي البصر. لم يستسلم الوالد لقسوة العيش بين الخيمة وبيت الصفيح، بل اصطحب هشام، ابن الرابعة، إلى القاهرة، حيث عاينه طبيب ذائع الصيت، وحين لم يجد لفقدان بصره علاجاً، واسى الوالدَ، وأوصاه أن يستثمر في تعليم الصبي لتتسع البصيرة. تلقَّى هشام تعليمه الأساسي في مدرسة للمكفوفين، وتحدَّى مصاعب الدراسة الثانوية بتفوُّق في امتحانها محرزاً المرتبة الثالثة على مستوى فلسطين. التحق بجامعة بيرزيت التي تبلور فيها تكوينه الوطني، وفيها التقى مروان البرغوثي، أيقونة حركة الشبيبة الطلابية. درس الأدب الإنجليزي، لكن اعتداءات القوات الصهيونية على الجامعة، والتي زاملتها إغلاقات متتالية بلغت ذروتها في العامين 1982-1983 بعد اجتياح جيش الاحتلال الصهيوني للبنان ورحيل منظمة التحرير الفلسطينية إلى تونس... جعلت أكمال الدراسة حلماً عصياً على التحقق.
في التاسع من آب 1983، ووسط قلق بالغ من والدته وعائلته، سافر هشام إلى أمريكا لدراسة العلوم السياسية، حيث حصل على درجة البكالوريوس من جامعة إلينوي-نورمال في العام 1985، وعلى درجتي الماجستير والدكتوراه من جامعة كاليفورنيا-سانتا باربرا في العامين 1986 و1988، ما أهَّله للتدريس في جامعته مباشرة، ومن ثم في جامعتَي ميامي في فلوريدا، وداكوتا الشمالية في غراند فوركس حتى العام 1993. لم يكن إنجازه الأكاديمي لثلاث درجات علمية في زمن قياسي شارة اعتكاف وعزلة، بل كان نشاطه السياسي في رابطة الخريجين العرب من الجامعات الأمريكية ملفتاً حدَّ تبوئه منصب نائب رئيسها، بالإضافة إلى عضوية أرفع الجمعيات الأكاديمية العالمية في السياسة، والعلاقات الدولية، والدراسات الشرق-أوسطية.
حين سقط جدار برلين في التاسع من تشرين الثاني 1989، مؤْذناً بنهاية حقبة من ظلم السياسية وحمق السياسيين، أحضر صديق لهشام حصاةً من الجدار، "حجراً"، احتفظ به أنَّى كان. وفي ربيع العام 1993، عاد هشام إلى فلسطين في أوج التحوُّل التاريخي الهائل على القضية الفلسطينية: توقيع اتفاقية أوسلو، وتأسيس السلطة الفلسطينية في العام 1994، و"إعادة انتشار" قوات الاحتلال الصهيوني في المدن الفلسطينية، ومنها مدينة بيت لحم قبيل عيد الميلاد في العام 1995. كان الفلسطينيون على أهبة الفجر، أو هكذا ظنوا، فاحتشدوا في ساحة المهد للاحتفال... أما هشام، فكانت تراوده أفكار أخرى ضاقت بها رمزية الحجر-التذكار من جدار برلين.
فقد خنقت سلطات الاحتلال الصهيوني مخيم الدهيشة منذ العام 1980 بجدار كابوسي أحال حياة لاجئيه إلى ما يشبه حديقة حيوانات. لم يكن بوسع هشام أن يرى الجدار... كان يلمسه، ويتذهَّنه: وحش إسمنتي بشع، ارتفاعه ستة أمتار، مدعَّم بالحجارة، ومسيَّج بالأسلاك الشائكة، ومزروع بالدشم العسكرية المعدَّة كنقاط للقنص، عازلاً "مخيم النكبة" عن "مدينة السلام"... لم يتردد هشام في التواصل مع أحد المتعهدين، وما لبث أن أقنعه بإخراج جرَّافتيه، واعتلى إحداهما إلى جانب السائق، لممارسة هدم الجدار فعلياً. حينها، انتشر الخبر كالنار في الهشيم، في تحقُّق عزَّ مثيله للفأل الحسن لحجر جدار برلين، ولم يهدأ هدير الجرَّافتين إلا بعد الساعة الثانية من صباح الثاني والعشرين من كانون الأول 1995، حيث كان الجدار قد سوي بالأرض، وأشرقت شمس المخيم، وانفتح القفص على ميلاد جديد.
لم يكن اشتغاله بالسياسة، حدَّ الترشح للانتخابات التشريعية في العام 1996، ليحجب عنه رداءة الواقع السياسي الفلسطيني في ظل النظامين الإقليمي والعالمي، بل كان الواقع لديه درساً من دروس النظرية السياسية، إذ لا دروس في النظرية إلا لمحترفي الأمل... كان متشائماً من نوع خاص، يَحُوْل ما لديه من معلومات دون الإفصاح عن تفاؤله. وفي الوقت الذي وظَّف فيه مثقَّفيَّته لاستدراج معرفة أصلانية المستوى القاعدي، عبر تدشين أرشيفه الخاص من التاريخ الشفوي بين عمان والقدس وبيت لحم، لم ينحصر فعله الثقافي على النشاط السياسي الميداني في المخيم والجامعة، بل كرَّس معرفته ليحرر الرسمية الفلسطينية من تلعثمها الدبلوماسي، وقد أعطت للثورة إجازة أمومة عابرة.
كان هشام واقعياً وسياسياً، لكنه لم يكن واقعياً-سياسياً. ولذا، فقد آثر في العام 1997 أن يكثِّف خلاصة أطروحته للدكتوراه في كتيِّب طبعه على نفقته الخاصة، بعنوان: "أفي أمريكا يكمن الحل؟ انتهاكات الولايات المتحدة لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير قبل نكبة 1948"، وحرص على تسليمه باليد للرئيس ياسر عرفات الذي لم يكن لديه أية أوهام حول وفاء الأمريكيين لمشروعهم الصهيوني... كان يعرف بيدرهم جيداً، ويعرف أن "سلامهم" زوان انتحل صفات الحنطة في كرنفال بائس لم تتغير فيه سياسات الصداقة والعداء.
فلسطين كانت سرَّ منظومته المعرفية وسُرَّتها، أما العلاقات الدولية والسياسة المقارنة والنظرية السياسية والحكومة الأمريكية... فكانت محض أطرٍ مكَّنت الاختصاص من "خدمة السيِّدة"، وأتاحت للمثقَّفيَّته الكونية شرف خدمة الفعل الثقافي الأصلاني. عاش هشام بين عالمين، شرق وغرب، ولابس مناهج الكبار في سبرهما: فاستعار من إدوارد سعيد جذريَّة الفكرة ونبل البلاغة، وأخذ عن إبراهيم أبو لغد عناد الحلم ودهاء السياسة، وجمع محاوراتهما في كتاب: "إبراهيم أبو لغد: مقاومة، منفى، وعودة" الذي نشرته جامعة بيرزيت، بأصل إنجليزي وترجمة عربية في العامين 2003 و2011 صدرا عن المعهد الذي صار يحمل اسم أبو لغد، الذي دشَّن مدرسة في "فن العودة"، حياً وميتاً، فابتسمت له يافا بعد طول غياب. وفي تمرء آخر لهذا النهج، استثمر هشام في الأكاديميا البينيَّة في جامعة بيرزيت، فكان أستاذاً لامعاً في برنامجي الدراسات الدولية والدراسات العربية المعاصرة، ينقِّل قدميه في معارفهما أنَّى شاء، ويتعهَّد رفاق دربه من "شبيبة الثمانينيات" الذين صاروا قادة وطنيين لإنتاج أطروحات في المعرفة النقدية: فيكتب مروان البرغوثي عن "العلاقات الفرنسية الفلسطينية 1967-1997"، ويكتب عيسى قراقع عن "الأسرى الفلسطينيون في السجون الإسرائيلية بعد أوسلو: 1993-1999".
كان هشام وطنياً نادراً لأنه كان فتحاوياً نادراً، وقد أمَّنت له سماحته العلمانية إدراكاً مبكراً بأن الاختلاف ينبغي أن يكون درساً في الحرية وتمريناً في احتيازها، لا وسيلة لوأدها وثغرة للانقلاب عليها... كان فناناً في تخليص المقولات من عبودية الثنائيات الشعبوية بسخرية نخبوية مفردة. تسامح مع مقولة أن "الدين لله"، لكنَّه أصرَّ على أن "الوطن" لا تمثِّله إلا منظمة التحرير الفلسطينية". ولذا، فقد كرَّس من عمره ما كفى لتدشين معايير "تنماز فيها الخراف من الجداء"، على مستوى الحركات الإسلامية، حدَّ أنه قضى سنتين كاملتين، خلال عمله أستاذاً زائراً في جامعتي بيت لحم والقدس في منتصف التسعينيات، متفرغاً لإنجاز بحثه الحائز على منحتَي فولبرايت ومؤسسة شؤون العالم الراهنة، حول: "حماس من الخلاص الديني إلى التحوُّل السياسي: صعود حماس في المجتمع الفلسطيني" الذي نشرته الجمعية الفلسطينية الأكاديمية للشؤون الدولية-باسيا في القدس في العام 1994.
عاد هشام، بعدئذ، إلى جامعته الأم-بيرزيت، ولم يتوقف لحظة عن أداء مهمته الوطنية فيها كمثقف عام يضع "الوحدة الوطنية" بين قوسين، ومثلها "التحوُّل الديمقراطي"، ومثلهما "دخول السلطة، ومعارضة أوسلو". تنبأ مبكراً بالصعود الشعبي لحركة المقاومة الإسلامية-حماس، وتوقع فوزها في الانتخابات التشريعية في العام 2006، لكنه بعد انقلابها وما تلاه من انقسام في العام 2007، لم يتردد في نقدها، وذم استغلالها للسلطة، واحتفاظها بها. ميَّز بين الحركات الإسلامية ذات الإهاب الوطني التي انخرطت في مشروع المقاومة والتحرير، وارتضت دخول شراكة وطنية بمسؤولية عالية، في فلسطين ولبنان... وتلك الطفرات الكارثية التي أنتجت الحركات الإرهابية التي سوَّقت الارتزاق، وعقلنت الارتهان بيد العدو. لم تفاجئه الثورات العربية، بل فاجأه تأخرها. وبقدر ما كان قومياً، لم يتوهم يوماً أن الدكتاتوريات العربية ستكون أفضل من الرجعيات التي أجهضت مشروع الحداثة العربي، وقمعت شعوبها، وعادت فلسطين، وحالفت أعداءها.
في العام 2006 غادر هشام فلسطين مرة أخرى، وأخيرة، إلى أمريكا. لم يرقه ما آلت إليه الأحوال بعد استشهاد الرئيس ياسر عرفات، ولم يكن يحسن التصفيق السِّري ولا التشجيع الفرجوي. كان أنيقاً في مظهره، وانسحابه النبيل إلى الأمام. وبالرغم من صرامة تكوينه المعرفي وتدريبه الأكاديمي والتزامه الوطني، إلا إنه، وبعد اثني عشر عاماً من فشل أوسلو وتمثُّلاتها، قرر مغادرة فلسطين، والأكاديميا الفلسطينية، حين كثر المبشرون بشعب بلا دولة، ودولة بلا سيادة، وسلطة بلا سلطة. لم تسعفه مهارات المثقف العام، كما أراد، في سياقه الوطني، فجرَّبها في المنفى: قال الحق في وجه السلطة، وأدرك مكامن الضعف في الخطابات الاستعمارية الموبوءة والمتواطئة مع الصهيونية ودولة مستوطنيها، ولم يكتف بنقد ثنائيات الضحايا-والناجين، بل جاوز ذلك لنقد مقولات التكافؤ الأخلاقي بين الفلسطينيين ومستعمريهم الصهاينة، إذ لا تكافؤ بين الدم والسيف.
حين التقيته في بيركلي في العام 2011، وكان قد استقر في كلية سانت ماري في موراغا ونال أعلى رتب الأستاذية، أبدى رغبة مُرَّةً في العودة إلى البلاد، رفقة آمنة ونور وأحمد. كان مرضه في بدايته، وكان يعزِّي نفسه، بتشخيص نبيل: "حمَّى البعد عن فلسطين". اشتغل على مخطط لامع لإنشاء "المركز الفلسطيني للدراسات والأبحاث والتخطيط الاستراتيجي" في إحدى الجامعات الفلسطينية، لكن المشروع علق في دُرج بيروقراطي أفقده طاقة وضعه! في العام 2016، كان المرض قد نال منه، ولا زالت رغبته عاليةً أن يكون قريباً من فلسطين، إن لم يكن فيها: كان يعتقد أن كرسي إدوارد سعيد للدراسات الأمريكية في بيروت يليق به... ربما تأخر علينا، ربما تأخرنا عليه. عاش وفي يده عصا. رحل وفي يده حجر.