الجمعة  22 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

متحف تحرسه دبابة

2019-07-17 07:58:19 AM
متحف تحرسه دبابة
رولا سرحان

 

تُثير وثائق النكبة، التي يمنع جيش الاحتلال الإسرائيلي، جمهور الباحثين الإسرائيليين من الاطلاع عليها، زوبعةً داخل دولة الاحتلال، دفعت بالمؤرخ الإسرائيلي، بني موريس، والذي كان من أوائل "المؤرخين الجدد" الذين أعادوا كتابة تاريخ "إسرائيل الحديث" القائم على الطرد والتطهير العرقي للفلسطينيين من بيوتهم، وكاشفاً الكذب الصهيوني للمؤسسين الأوائل لـ "دولة إسرائيل"، ... دفعته لكتابة مقال نشر في صحيفة هآرتس يقول فيه، إن إعادة إخفاء وثائق كان قد اطلع عليها من قبل ونشر تأريخاً عنها في كتاب سابق له، يُشكل عملاً نموذجياً تقوم به الأنظمة الشمولية.

بني موريس، المتناقض مع نفسه أساساً، على الأقل من الناحية الأخلاقية، وفي ظل نقده الموجه لنظامه الشمولي، لا يفوِّتُ مقاماً إلا ويُدافع فيه عن دولته الإحلالية، فهو صهيوني مؤمن بأنه لولا المذابح التي قامت بها العصابات الصهيونية في عام 1948 لما قامت دولة "إسرائيل"، وأنه "حتى تعمل عجَّة، يجب أن تكسر البيض."

الإنكارُ، الذي يمارسه المؤرخون الإسرائيليون، "جُدُداً" كانوا أم "قُدامى"، واليساريون وإن أضاعوا تعريف أنفسهم، والأدباء من الداعيين لحل الدولتين مثل عاموس عوز الذي عزَّى فيه فلسطينيون رسميُّون عندما بدأ رحلته إلى العالم الآخر، مثله تماماً مثل الصحفي أوري أفينيري-مؤسس وحدة "ثعالب شمشون"... لهم نظرتهم المتشابهة، إن لم تكن المتطابقة، مع تلك النظرة التبريرية العاطفية المؤدية إلى القناعة العقلية المؤسسة دينياً، بأنهم أحفاد يوشع بن نون، وبأن الفلسطينيين هم العماليق أو أحفاد الأمم السبعة التي أمرت التوراة بإبادتهم.

لذلك، فالإبادةُ، فعلُ محوٍ، وإمِّحاء، في سبيل الإحلال. محوٍ لهوية الفلسطيني بالكامل، وإبادةٍ لتاريخه ولهوية المكان، وفعل إمحاء للذاكرة الجمعية لـ "الإسرائيلي" والمتعلقة بكونه فرداً من مجموعات بشرية تنتمي لقوميات الدول التي عاش فيها ما قبل تأسيس "دولة"، يطلق عليه دارسو الصهيونية "نفي وعي المنفى". والإحلال، لا ينطبقُ هنا على الفلسطيني الأصلاني فقط، وإنما ينطبق أيضاً على اليهودي الأول ما قبل الصهيونية، بافتراض أنه يُعرّفُ شأنه شأن المسيحي الأوروبي والمسلم الأمريكي،  اللذين تشكل الديانة جزءا من عامل التوحيد القومي الهووي.

وُضعَ اليهودي، أمام مرآةٍ بناها لنفسه أو بُنيت له، ليكون "إنساناً مرآوياً" كما يقول ريتشارد رورتي، لأنه في تلك المرآة الكبيرة، بنى أيضاً تصوره وتمثُّله عن نفسه، وعن مقاييسه للانتماء، لذلك تصبح عملية المُقايسة هنا، عملية إحلال وإقصاء، وتجميع للسمات الهووية في سمةٍ مختزلةٍ واحدة هي الديانة.

لذا، لا يستطيع "اليهود" ممن يدّعون اليسارية أو تبني مبادئ حقوقية، النظر إلى دولتهم إلا بعين واحدة، كعين لصٍ تُشبه عين موشيه دايان، الذي كان يسرق الآثار من أرض فلسطين ومن منازل أبنائها ويقدمها كهدايا لأصدقائه ومعارفه، فما للفلسطيني، من أرضٍ وإرثٍ وعملٍ هو لليهودي وفق القاعدة الفقهية "أنت ومالك لأبيك"،  والأبُ هنا هو المستخلفُ في الأرض، لأنه من أبناء شعب الله المختار، المنتخب دينياً فوق البشر، لافتراض المعصومية، التي ترفعُ من كلامه اللحن وعن فعله الغبن.

ورغم كل الفلسفة، والتأريخ، والدين، والواقع وما فوقه وما تحته، لا نستطيع النظر إلى دولة الاحتلال، إلا كأنموذج لمتحف مبني حديثاً على أرض مسروقة وتحرسه دبابة، يتم فيه تجميع كل التاريخ كقطع من لعبة puzzle  تُفرش على أرض المتحف، فيتم قصقصة أجزاء كل قطعة من قطعها كي تتلاءم مداخلها الواحد مع الآخر، بنتيجة تكوين صورة واحدة، لكنها بلا مدلول، وبلا دلالة متناغمة ومتجانسة، صورة منفصلة عن الحقيقة، أو ما فوق-حقيقية، لأنها حقيقة بدرجةٍ سالبة تخفي حقيقةً أخرى.