الجمعة  22 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

شارل بودلير.. وجوهر شخصيته: حوار مع كريستين ناتا*

ترجمة: سعيد بوخليط

2019-07-17 08:50:20 AM
شارل بودلير.. وجوهر شخصيته: حوار مع كريستين ناتا*
الشاعر والناقد الفني الفرنسي، شارل بودلير

 تقديم:

 ماري كريستين ناتا، مؤرخة ومتخصصة في التأنّق، أنجزت عملا بيوغرافيا حول بودلير (منشورات بيران،2017)، تناقش في هذا الحوار كيف عمل بودلير على إخفاء تصدعه وراء أناقة مفتعلة.

س- انطلاقا من أي مصدر يمكننا اليوم كتابة سيرة عن بودلير؟

ج- بالاستناد إلى شهادات حول حياته، وهي بالمناسبة عديدة، سير ذاتية كتبت مبكرا جدا بعد موته من طرف صديقه شارل أسيلينو وكذلك الناشر أوجين كريبي، لكن خاصة باستحضار كتابات بودلير نفسه: إنتاجه الذي تغذى من وقائع حياته، والإشارات التي تضمنها عمله قلبي عاريا أو شهب نارية، حيث انقاد خلف مشاعره وبالتأكيد رسائله الغنية بوجه خاص. لقد راسل بودلير أفرادا كثر، في طليعتهم أمه، برسائل موجعة في الغالب يستسلم لفحواها تماما، لكن أيضا تلك الموجهة إلى أصدقائه ثم الذين نسج معهم علاقات مهنية مثل مدراء الجرائد.

س- أي موقع تحديدا شغلته الحقيقة بين فقرات تلك النصوص؟ بحيث كان بودلير مخادعا كبيرا!

ج- صحيح، كان بودلير يكذب باستمرار، فإحدى الحكايات الأكثر حضورا والتي ساهم في إشاعتها تلك المتعلقة بسفره إلى الهند، حيث ادعى باستمرار زيارته لذلك البلد في هذا الإطار، وحينما أراد أحد أصدقاء بودلير إدراجه ضمن فهرس معجم بيوغرافي، أكد له بودلير: "أسفاره العديدة إلى بحار الهند، حينما كان في ريعان شبابه"، وبعد مرور تسع سنوات على هذه اللحظة؛ أعاد تأكيده ثانية إلى ألفريد فيني، بأنه: "رأى الهند الكبيرة وأقام هناك إبان سن السابعة عشر" ولم يكن ذلك صحيحا، بل مجرد اختلاق. وقدم أيضا فكرة لا تمت للحقيقة بأي صلة بخصوص طبيعة علاقته مع زوج أمه الجنرال أوبيك Aupick، من الثابت أنه خلال نهاية مراهقته، اصطدم معه بقوة، ثم انتهت علاقتهما، لكن أحبه عندما كان طفلا، وعبر له عن شعوره ذلك، ورسائله توثق هذا الأمر. مع ذلك، فالحياة المتناغمة التي عاشها الشاب شارل تحت كنف زوج أمه تخفي تصدعا عميقا؛ ففي عمر السادسة، توفي والده، ومضت بالكاد سنة ونصف على ذلك، حينما تزوجت أمه بالجنرال أوبيك، هذا الانفصام لا يتكلم عنه بودلير قط، أو بكيفية تلميحية أو استفزازية. 

س- لم يكن سعيدا؟

ج- ارتدى بودلير قناعا، والقناع سمة للمتأنِّق، والحال أنه ادعى ذلك. أسلوب حياة من هذا القبيل؛ مَثّلَ لديه القاعدة الوحيدة المقبولة، كما الشأن مع باربي دوريفيلي، الذي وضع نظرية لفلسفة كهذه، ترتكز على تأطير الشخصية ضمن مرتكزات صورة تجعلها تبدو كما لو تعلق الأمر بعمل فني، من خلال الحاجة إلى التميز وإثارة الانتباه. سنة 1863؛ أضفى بودلير في كتابه رسام الحياة المعاصرة، على شكل المظهر تبريرا فلسفيا. فبالنسبة إليه، ليست الطبيعة: ''مصدر كل شيء جيد"؛.بل على العكس، تعتبر "مرشدا سيئا فيما يتعلق بالمرجعية الأخلاقية''، ولا تجعلنا نصغي سوى لـ"لصوت مصلحتنا". بهذا المعنى، الفضيلة مصطنعة. ويضيف بأنها "فوق طبيعية، ما دام يلزم، عبر مختلف الأزمنة وعند كل الأوطان، وجود آلهة وأنبياء يخرجون البشرية من حيوانيتها، ما دام الإنسان وحده، يبقى عاجزا عن إدراك هذا الأفق. يتبلور الشر دون مجهود، بكيفية طبيعية، بينما يعتبر الخير نتاجا دائما للفن". هكذا سعى بودلير على امتداد حياته، إلى تفعيل مضمون هذه الرؤية للوجود.  

س- هل نجح في إخفاء طبيعته الحقيقية؟

ج- لقد وظف بودلير دوما الأقنعة، بقصد توضيب انتحال وأحيانا استنساخ أو العمل على توقيع مؤلفاته بأسماء مستعارة، لا سيما اسم صديقه ألكسندر بريفا دونجليمون .بالتأكيد، راهن على مظهره الفيزيائي، يخبرنا صديقه غوستاف لوفافاسور، أن بودلير، يعكس لديه شخصية "جورج برايان مكتسيا بروميل". وهو مديح جميل بالنسبة لمتأنِّق.

س- هذا يفسر إعجابه المفرط بالملابس؟

ج- كان بودلير متذوقا للجمال، من هنا ارتباطه الخاص جدا بالمال، الذي لم يكن سوى وسيلة للتعبير عن الجميل تبعا لجميع مستويات حياته المادية. هكذا أنفق مبالغ مفرطة لاقتناء أثاث باهظة، ولوحات أعظم الفنانين، ثم طبعا، شراء الثياب والقبعات. ولحظة إفلاسه، يحتفظ مع ذلك بنقطة مجد تمثلت في اعتنائه الدائم بمظهره. دأب على لباس قميص أبيض، وحينما يصير رثّا، يلتجئ إلى ارتداء صدرية بأزرار غاية العنق سعيا منه لإخفاء حالة البؤس تلك. كذلك ما يتعلق بأحذيته؛ فقد كانت مهترئة، لكنه لا يتردد في تلميعها، مثلما اعتنى دائما كثيرا بنضارة بشرة يديه.

س- تمتع بودلير بذوق عصري جدا!

ج- نعم، وكل الوقائع أظهرت ذلك، بحيث جسدت شقته داخل فندق بيمودان ذوقا واضحا جدا، وخاصة أصيلا، لقد تمتع بموهبة حقيقية فيما يتعلق بالديكور، وكان بوسعه حسب تصوري، أن يصبح مختصا جيدا في مجال هندسة الديكور. هكذا، اختار بالنسبة لكتبه أغلفة رصينة جدا من جلد الماعز، الأكثر تميزا، لكن حينما ينتقل إلى داخل غرفته، بسريرها المصنوع من خشب الأكاجو كما الحال مع البيوت البورجوازية، فقد فضل سريرا حديديا بسيطا جدا، شبيها بأسِرَّة المستشفيات.

س- لكن هل كان بودلير ''مدعيا" احتاج إلى إثارة الإعجاب، أو أنانيا هائما بذاته؟

ج- لايبدو بأن ''عاداته في التأنُّق" وجهت إلى المتفرجين، بل قصد منها بالأحرى "إشباعا شخصيا'' يتجاوز مجرد المتعة النرجيسية، ولم يكن فضلا عن ذلك ''اجتماعيا''، بالرغم من حياته المجتمعية النشيطة. 

س- أليس إذن الخجل، بدل التأنُّق، ما يفسر نزوعه نحو الاختلاق وكذا إحداث الإثارة؟

ج- صحيح، كان خجولا، يروي صديقه شارل أسيلينو في السيرة الذاتية التي أنجزها حوله كيف يتجه اهتمام بودلير إلى البحث عن القطط عندما يجد نفسه في مكان ما؛ بحيث يركز اهتمامه على الحيوان أكثر من الأفراد الحاضرين، ويشكل ذلك عَرْضا يحاول في إطاره أخذ متسع من الوقت قبل انضمامه إلى الجماعة. بودلير شخص كتوم، منغلق جدا على نفسه، يحجب ما يعيشه داخليا، لكن خارجيا يسهل عليه الظهور بمظهر جريء للغاية. فيما يتعلق بميله إلى الاستفزاز؛ فعلا، تأكد ذلك مع جل وقائع حياته، امتلك موهبة الإزعاج متسيدا على مختلف البراهين المخالفة ويسوق محاوره غاية منتهاه، وأحيانا، يستفز بطريقة سيئة، انتقاداته الفنية، لا سيما تلك التي حاول بها إفحام هوراس فيرني Vernet، اتسمت بعنف كبير. 

س- فظاظة لو جاءت في سياق واقعنا المعاصر لأحدثت له سلسلة محاكمات تهم جرائم القذف! لكن أحقا كان بودلير شريرا؟

ج- بل يمكننا القول، بودلير بمثابة شخص لم يكن يقبل التنازل، وأحبَّ دائما في إطار نزوعه إلى الاستفزاز القيام بذلك كثيرا، حتى يشعر بمزيد من الانتشاء، وهي سمة أيضا للتأنّق، فضلا عن ذلك، إذا أحس أسيلينو بالحاجة كي يبادر سريعا جدا نحو كتابة سيرة بودلير بعد موت الأخير؛ فلأنه توخى مقاومة تلك الأسطورة السوداء الشيطانية، التي أحاطت ببودلير ونتاجه، لا سيما منذ محاكمة نصوصه الشعرية أزهار الشر سنة 1857، لكن إنصافا للحقيقة؛ فهذه السمعة الشاذة التي تكرست غاية لحظتنا الحالية حول شخصية بودلير يعتبر أول من وضع أسسها.

س- الطريقة التي تكلم بها عن المدينة والتصوير الفوتوغرافي والشعب، ميزها التناقض دائما. حداثي، غير حداثي؟ فمن هو بودلير حقا؟

ج- بودلير حفنة من التناقضات، صحيح أنه تفوه بكلمات قاسية جدا في حق الشعب؛ لكن في ذات الوقت أظهر تعاطفا مع المقهورين والمهمشين، سواء تعلق الأمر بعامل القمامة أو امرأة كهلة. كان يكره باريس جورج أوجين هوسمان، في المقابل، حينما كتب عن الرسام كونسطنطان غيس- الذي رسم لوحة مذهلة عن العاصمة باريس من خلال موضوعاته وكذا أسلوبه الفني– سيبدو بودلير كأحد الأوائل الذين اهتموا حقا بالمدينة الحديثة. أكد امتعاضه من التصوير الفوتوغرافي مع ذلك قضى وقته في التقاط صور فوتوغرافية، لا سيما من طرف صديقه نادار. أيضا، ناشد الانضباط في حين ظل الفوضى وأكد مناهضته للحداثة، لكنه في كل الأحوال أعطى لكلمة ''حداثة" مختلف تجليات معناها. إذن،حتما، بودلير ليس واضحا، لكن من خلال تناقضاته المؤلمة تلك، في اعتقادي، يكمن سر ثراء شخصيته وإبداعه، إبداع يتحدث بلسان كل واحد منا.

*مرجع الحوار :

Hors-série : Le point ;Grandes biographies ;2017.PP/8-9.