الحدث - رولا حسنين
لا شك أن العقل البشري يعمل وفق منظومة الاعتياد بطبيعة الحال، ومرور حدث ما عليه بشكل مستمر ومتكرر يصبح الأمر مألوفاً لديه، كما أن عنصر المفاجأة تجاهه يصبح بنسبة أخفّ مما كانت عليه في المرة الأولى.
هل سألنا أنفسنا مرة: لماذا اعتدنا المرور على الحواجز العسكرية وكأنها شيئاً طبيعياً في زمن طبيعي؟ لماذا إذا مرنا بالحاجز العسكري ولم نجد جندياً نتفاجأ ونسأل: "غريب.. أين الجنود"، بينما لا نسأل: "لماذا هذه الحواجز أصلاً؟ ومن أين تأتي مشروعيتها في عرقلة حركة التنقل للمواطن، علماً أنه حق كفله القانون العالمي؟.
قِس على ذلك حالة المرور اليومية بجانب جدار الفصل العنصري الذي أقامه الاحتلال في الانتفاضة الثانية، الذي أدى لتقسيم الأراضي الفلسطينية، رغم أن الأمم المتحدة أصدرت قراراً بعدم مشروعيته، ولكنه ما زال قائماً، إنما نمرّ عليه وكأنه عنصر طبيعي، وإذا وجدنا إحدى أعمدته قد هوت، يلفت انتباهنا هذا الأمر وبشدة، لأن الحالة ليست اعتيادية، ومع المرور أكثر من مرة على هذه الفتحة في الجدار سيصبح أمرها عادياً وتفقد عنصر المفاجأة في عقولنا.
مع اعتيادية مرورنا على حاجز بيت إيل وزعترة وحوارة وقلنديا وجبع وحزما وعشرات الحواجز العسكرية "الدائمة والطيارة" التي ينصبها الاحتلال في مختلف محافظات الضفة، ربما أصبح الأمرُ عادياً في العقل البشري، وهنا تكمن خطورة أدوات الاستعمار، مقابل عدم وجود أدوات للتحرر من هذا الاستعمار الذي يحاربنا بالعقل أيضاً ليس فقط بالأرض والمادة!.
أدوات الاستعمار التي يستخدمها الاحتلال الاستعماري الاستيطاني لفرض سيطرته على الفلسطينيين، لا تظهر على ذات الشاكلة للمستعمِر، خُذ مثالاً على جدار الفصل العنصري الذي يقيمه الاحتلال على أراضي قرية دورا وسردا بحجة حماية مستوطنة "بيت ايل" شمال البيرة، نلحظ أن اسمنتاً سكنيّ اللون في الجهة المقابلة للفضاء الفلسطيني الضيّق، بينما على الواجهة الثانية المقابِلة للمستوطنة فإن الجدران ملوّنة ومتعددة الرسومات، حتى لا تشكل عاملاً نفسياً سلبياً على المستوطنين. هذا الجدار بات أمراً عادياً في أذهان الفلسطينيين الذين يمرون يومياً من الشارع المقابل له، لم يكن أمراً ليرفضوه حتى، رغم أن أي تغيير يحدث عليه يذكرهم أنه جدار فصل عنصري لا يجب إقامته، ولكن عدم امتلاك إرادة رفضه وتفكيكه هي التي تعطيه ما يمكن تسميته استمرار الوجود.
عباس العلي في مقالة له بعنوان "العقل الإنساني بين المتخيل والواقع" يقول: الثابت أن العقل البشري حينما يتعامل مع المعرفة والعالم كمعطى تحصيلي أو كتجربة أو تفاعل مع الما حول، إنما يمارس بشكل أولي عملية جمع وتخزين لهذه المعرفة وحفظها بشكل مصفوفات مرمزة في وعيه القريب، هذا في الغالب عند العقول التي تعمل وفق نظام مبسط اعتيادي يحمل الصفة الطبيعية لغالبية الناس، في مراحل تالية وليس كقانون عام، هناك بعض العقول التي ترتقي في هضم المعرفة واستهلاكها وإعادة تدويرها في منطقة أو دائرة الفهم، تخضع هذه المعرفة لسلسلة من المقاربات والمقارنات والتعيير والتمييز كي تستخرج منها القدر الذي يمكن أن يتحول لقناعات أو متبنيات في دائرة القبول.
وهو ما يمكن الإشارة به إلى العقول التي باتت ترى أدوات الاستعمار أمراً مسلماً به، وعقول أخرى تعمل على تفكيك هذه الأدوات وترفضها، وإن كانت الفئة الثانية قليلة مقارنة بالأولى، أو ربما تُتهم بالجنون أيضاً، مع شيوع ثقافة الاستسلام للمستعمر وأدواته على اعتبارها أمراً قسرياً لا يمكن مجابهته.
وفي محاولة تفكيك هذه الأدوات، نجد أنها لا تخدم الاحتلال من الناحية الأمنية أيضاً، إنما من الناحية الفكرية من خلال اعتياد العقل الفلسطيني حدّ الإنكار لوجود الاحتلال، وكذلك من خلال الهدم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والتاريخي والتراثي للموروث الفلسطيني.
هكذا فرض الاحتلال وجوده في عقولنا ورؤيتنا اليومية، لهذا فإن نسبة مقاومة هذا الاستعمار باتت أقل مما كانت عليه في السابق؛ لأن العقل بات مستوعباً لممارسات المستعمر المتكررة، وبات رفض أدوات الاستعمار لا يتعدى أكثر من ضجر لحظي ينتهي بانتهاء أزمة الحواجز، ما يعني أن الخطورة الحقيقية تكمن في اعتياديتنا على تقبل الاستعمار وأدوات المستعمِر دون امتلاك التفكير أو الوعي أو حتى الإرادة لتفكيك هذه الأدوات ورفضها وإزالتها.