قبل أيام احتفل الفلسطينيون في كل بيت وشارع ومدينة ومخيم وقرية بفوز الجزائر في كأس أمم أفريقيا، وكأن أحدا لا يحب الجزائر كما الفلسطينيين، لتثار أسئلة إيجابية حول طبيعة العلاقة بين الفلسطينيين والجزائريين، فهل هو التاريخ شبه المشترك المثقل بالاستعمار أم أن هناك تفاصيل أخرى. في رحلة البحث عن التفاصيل، لا بدّ وأن تقف أمام اسم وتفصيل بحجم الحب المشترك والقضية الفلسطينية، محمد بودية.
ولد بودية في أحد أحياء العاصمة الجزائر عام 1932، وتأثر بالتيار الوطني الاستقلالي، وعلى الرغم من ذلك إلا أنه صب جل اهتمامه بالمسرح، وهاجر بعد اندلاع الثورة إلى فرنسا حيث انضم إلى فيدرالية جبهة التحرير، وشارك هناك في عدة عمليات فدائية كان أبرزها عملية تفجير أنابيب النفط في مارسيليا بفرنسا عام 1958، والتي اعتقل وحكم على إثرها لمدة 20 عاما، ليهرب من السجن عام 1961 وتكون تونس الملجأ.
بعد لجوئه إلى تونس، عمل في فرقة مسرحية، وما لبث طويلا حتى أصبح مديرا لأول مسرح أقيم في الجزائر بعد الاستقلال "المسرح الوطني".
بدأت علاقته مع الفلسطينيين، بلقائاته المتكررة مع ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في الجزائر سعيد السبع، ثم التقى بالقيادي في الجبهة الشعبية ومسؤول عملياتها في الخارج وديع حداد، خلال زيارة له إلى كوبا. وعمل على تجنيد الشبان في الخارج من أجل العمل لصالح القضية الفلسطينية، وعاد مطلع السبعينات إلى باريس بوصفه قائد العمليات الخاصة للجبهة الشعبية في أوروبا، ولقب حينها بـ"أبو ضياء".
كان أول عمل له هو التنسيق مع الجماعات اليسارية الأوروبية، وكان المدبر الرئيسي لجميع عمليات الجبهة الشعبية في أوروبا، بحسب تقارير المخابرات الفرنسية والبريطانية والموساد والسي آي إيه، ومع ذلك لم يثبت ضده أي دليل يمكنه إدانته، خاصة وأنه كان يخصص معظم وقته للمسرح في الليل وفي النهار يمارس نشاطا عاديا، لكن ما لم تكن تعلمه الأجهزة الاستخباراتية هو أنه كان يعمل آخر الليل في العمل الذي تخشاه.
من أبرز عملياته، التخطيط لإرسال ثلاث فتيات ألمانيات إلى القدس لتفجير عدة أهداف تابعة للاحتلال، وتفجير مركز تجمع يهود الاتحاد السوفيتي في النمسا، وكذلك تفجير مخازن صهيونية ومصفاة بترول في هولاندا، وتفجير خط أنبوب بترولي بين إيطاليا والنمسا عام 1972 مخلفا 2.5 مليار دولار خسائر وضياع 250 ألف طن من النفط.
رفض بودية، عدة عروض للعمل مع المخابرات الجزائرية، واستمر بالعمل مع الفلسطينيين، وقدم العون لمنظمة أيلول الأسود التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية الذي كانت نتيجته عملية ميونخ عام 1972، وكان دوره يتمثل باستضافة أفراد الكوماندوز الفلسطينيين قبل العملية وتهريبهم وإخفائهم.
ظل بودية، الرجل الذي طالما حاول الموساد اغتياله لكن محاولات عديدة باءت بالفشل إلى أن تم اغتياله في أعقاب عملية ميونخ، حيث أمرت جولدا مائير رئيسة وزراء حكومة الاحتلال حينها، الموساد، بتنظيم عمليات لاغتيال القادة الفلسطينيين في جميع أنحاء العالم اطلق عليها اسم "غضب الرب"، واستشهد على خلفية ذلك محمود الهمشري ووائل زعيتر وباسل الكبيسي وغيرهم، وكان رد بودية على هذه الاغتيالات أن قام بنشر إعلانات ممولة من جيبه نشرت في صحيفة اللوموند الفرنسية وجمع تواقيع لشخصيات مختلفة من بينها يهود ضد عمليات الاغتيال.
بعد ذلك خطط الموساد لاغتياله بتجنيد عملاء فرنسيين قاموا بزرع لغم ضغط تحت مقعد سيارته صباح 28 من حزيران عام 1973 في باريس، ودفنت جثمانه في مقبرة القطار بالعاصمة الجزائر.
يقول محمد تامالت، في كتابه العلاقات الجزائرية الإسرائيلية، إن بودية رجل جاهد مرتين في بلدين مختلفين لكنه اعتبر مسيرته واحدة وختم حياته شهيدا من أجل قضية ما زالت مستمرة إلى اليوم.
ووفقا لتامالت، فإن أحد الشبان الذين جندهم بودية لصالح القضية الفلسطينية خلال دراسته في روسيا "إلييتش راميريز سانشيز" ذو الأصول الفنزويلية، والذي أطلقت عليه أجهزة الأمن والاستخبارات "كارلوس الثعلب"؛ خلف بودية في منصبه، وأسمى عمليته ضد طائرات "العال" الإسرائيلية عام 1975 باسم "عملية الشهيد بودية" انتقاما له.
يشار، أن محمد بودية، كان صاحب فكر ثوري قبل انضمامه للعمل مع الفلسطينيين ضد الاحتلال الإسرائيلي والصهيونية، حيث أرسل العديد من رسائل التأييد خلال دراسته المسرح إلى حركات التحرر حول العالم، وخلال عمله في المسرح؛ خصص الموسم الصيفي عام 1964 دعما لكفاح الشعب الفلسطيني.