قبل النشر الرسمي للقرارين المعدلين لقانون السلطة القضائية؛ كان هناك تسريبات عن فحوى التعديل على القانون. هذا التعديل، وما يماثله من تعديلات على النظام الدستوري الفلسطيني، من خلال القرار بقانون، والصلاحية التشريعية الاستثنائية للسلطة التنفيذية؛ أصبحت تعرف بتشريعات المباغتة، أي التي تأتي بصورة مفاجئة، وتتسم بالسرية المطلقة، ومحاسبة مسربيها أحيانا، وذلك حتى لا يتم تعطيلها بأي نقاش قانوني وحقوقي وعقلاني، أو تجنب تكوين رأي مجتمعي ضاغط ضدها، أو نقاش مجموعة المصالح التي تقف خلفها.
الأمثلة على هذه التشريعات كثيرة، على سبيل المثال، القانون المعدل لقانون المحكمة الدستورية، وقانون محكمة الجنايات الكبرى، وقانون الجرائم الإلكترونية. علما أن إطلاق لفظ (قانون) عليها في هذا المقال مقصود، لأنها في ظاهرها غصب لصلاحية المشرع العادي، وفي بعض الأحيان المشرع الدستوري. لكن صدورها من السلطة التنفيذية منفردة، ودون تحقق شروط التشريع الاستثنائي، والإسراف فيها بتشريعات تعالج مواضيع تتعلق بنظام الفصل بين السلطات، وفي غالبها لمصلحة السلطة التنفيذية، تؤدي بالضرورة إلى الانحراف عن الغاية الأساسية من التشريع وهي تنظيم مجتمع ديمقراطي وحماية حقوق أفراده فيما بينهم من جهة، وفي مواجهة السلطات العامة من جهة أخرى، ويمكن مراجعة نظرية الانحراف التشريعي التي وضع تصور عربي لها الفقيه السنهوري في خمسينات القرن الماضي في هذا الخصوص. وإن القول أن صلاحية الرئيس مطلقة في التشريع الاستثنائي يعني أن القرار بقانون أعلى مرتبة من الدستور الذي يضع أسس الفصل المتوازن بين السلطات ويضمن الحقوق والحريات للأفراد، بموجب قيود أساسية يضعها على المشرع العادي ومن باب أولى الاستثنائي، والقول بخلاف ذلك هو تناقض لا يقوله عارف في القانون.
التسريبات التي تم تداولها، وثبت لاحقا صدقها بعد نشر التعديلات في الوقائع الرسمية، تتعلق بإحالة جماعية لقضاة المحاكم النظامية على التقاعد، وإذا تم التدقيق بنتيجة هذه الإحالة الجماعية يظهر جليا أنها تستهدف قضاة المحكمة العليا تحديدا بشقيها النقض والعدل العليا، وهي بالضرورة تطال قضاة مجلس القضاء الأعلى كون معظم أعضائه من قضاة هذه المحكمة، وإن كان تم استثناء بعضهم كما سيشار لذلك لاحقا.
هذه الإحالة الجماعية إلى التقاعد؛ هي في حقيقتها عزل جماعي للقضاة، بالرغم من ظاهر النص المحايد، إلا أن هذا الظاهر المحايد يخفي وراءه نية أخرى، وهي بالمناسبة علنية، عبرت عنها الجهات الرسمية، كما عبرت عنها نخب من الجهات المجتمعية في مقابلات عامة يمكن الرجوع لها.
هذا المقال يفحص مدى توافق هذه الإحالة للتقاعد مع المبادئ العامة للقانون، وبالنتيجة يمكن الحكم بصورة عقلانية ومنهجية، على هذه الإحالة وتحديدا مشروعيتها، أي بمعنى توافقها مع النصوص والمبادئ الدستورية. هذه المبادئ هي، أولا: مبدأ عدم جواز سريان القانون بأثر رجعي ضمانا لعدم المساس بالمراكز القانونية والحقوق القائمة، وثانيا: الحق في الدفاع، كأحد أهم ضمانات العقوبة التأديبية، وثالثا: مبدأ عدم جواز إيقاع العقوبات الجماعية، وأخيرا مدى تجاوز هذه الإحالة لمبدأ المساواة وتمييزها بين الأفراد على أساس اعتباطي مخالف للقانون.
في حال توافرت هذه العيوب في هذه الإحالة، يمكن وصف هذا الإجراء بالضرورة بأنه إجراء غير دستوري. ولا بد من الإشارة إلى أن المبادئ الدستورية التي سيتم فحص هذا الإجراء استنادا لها هي مبادئ دستورية عالمية، ترقى لمرتبة المعايير الدولية، وتسمى بمبادئ القانون التي أقرتها الأمم المتحضرة، هذه الأمم بالضرورة نحن جزء منها، حتى لو انحرف مسارنا بين حين وآخر.
أولا: هل تتعارض الإحالة إلى التقاعد مع المبدأ الدستوري، الذي يقرر سريان القانون بأثر فوري؟
حسب القانون الأساسي الفلسطيني، فإن القانون يسري بأثر فوري، ويجوز عند الاقتضاء، في غير المواد الجزائية، النص على خلاف ذلك. وهذا ببساطة يعني أن هذا النص يفترض أن يسري على القضاة الذين يتم تعيينهم بعد صدور هذا القانون، وبخلاف ذلك فإن سريانه على القضاة الحاليين فإنه، أولا يخالف النص الدستوري، وثانيا يخالف العلاقة التقاعدية والحقوق المكتسبة التي ترتبت عليها، وإذا أرادت السلطة التنفيذية هذه المخالفة وقصدتها، فإن ذلك يرتب للمتضرر تعويضا كحق دستوري، وهو هنا إما إلغاء السريان بأثر رجعي أو التعويض المالي المتناسب مع حجم الضرر الذي أصاب المحال إلى التقاعد.
ثانيا: هل ترقى هذه الإحالة إلى التقاعد للعزل من الوظيفة العامة دون ضمانات الحق بالدفاع؟
طالما أن غاية هذا التشريع، كما هو معلن، الإصلاح بما يوحي أن هناك تهمة موجهة ضمنا لكل من شمله القانون بأنه يخل بموجبات وظيفته بالضرورة، وعليه تكون الإحالة إلى التقاعد عقوبة لهذا الإخلال. هذا يتطلب وجود ضمانة حق الدفاع كحق طبيعي ودستوري للشخص الذي توجه له مثل هذه الادعاءات. الملاحظ هو الحديث عن إصلاح القضاء، ثم اعتبار إحالة القضاة للتقاعد كأحد أوجه هذا الإصلاح، والربط بين عملية الإصلاح وما تم اتخاذه من إجراءات تمثلت أساسا بالإحالة للتقاعد كعلاج، يعني أن من تمت إحالتهم للتقاعد في حقيقة الأمر تم عزلهم، دون تمكينهم من ضمانة الحق في الدفاع.
وبالرجوع لقانون السلطة القضائية، يمكن إيقاع عقوبات التنبيه أو اللوم أو العزل، بعد اتباع الإجراءات القانونية التي نص عليها قانون السلطة القضائية، وهذه الضمانات توازن بين حق القاضي ومصلحة المجتمع، وهي تطبيق مباشر لمبدأ عدم قابلية القضاة للعزل، وفقا للقانون الأساسي والمبادئ الدستورية العامة. وهذا يعني أن لجوء السلطة التنفيذية لإحالة القضاة للتقاعد المبكر بدون وجود صلاحية في القانون الساري، هدفها العزل من الوظيفة، علما أن العزل وفقا لقانون السلطة القضائية ومبادئ القانون لا يكون إلا بعد اتباع إجراءات عادلة ضمانا لحق الدفاع المقدس والحق في محاكمة عادلة، كأحد الحقوق التي لا يرد عليها الاستثناء، حتى في حالات الطوارئ أو الظروف الاستثنائية.
ثالثا: هل تعتبر الإحالة إلى التقاعد عقوبة جماعية لقضاة المحكمة العليا؟
وفقا لما تم بيانه سابقا، فإن الإحالة وفقا للتعديل هي في حقيقتها عزل من الوظيفة العامة، والعزل هو أحد العقوبات التي يقرها قانون السلطة القضائية، وفي تعديل قانون السلطة القضائية فإن العزل كان جماعيا، وهذا يعني اللجوء إلى العقوبة الجماعية المحظورة دستوريا ودوليا؛ فمبادئ القانون تقرر أن العقوبة شخصية، وتمنع العقوبات الجماعية، علما أن الحق في محاكمة عادلة وحق الدفاع هو من الحقوق المتعلقة مباشرة بكرامة الإنسان، ونزع هذه الحقوق يعني تجريد الإنسان من آدميته، وتحويله لشيء مادي يمكن التعامل به أو استعماله وتقرير مصيره دون سماع قوله أو دفاعه، والعقوبات الجماعية بطبيعتها تنتهك هذه الحقوق.
أخيرا: هل الإحالة إلى التقاعد تخالف مبدأ المساواة أمام القانون؟
مبدأ المساواة يعني معاملة الحالات أو المراكز القانونية المتماثلة بصورة متماثلة، وواضح من التعديل أن نصوصه تتناقض مع بعضها، ومع النصوص والمبادئ التي تسمو عليها، وتحديدا مبدأ المساواة؛ فالقانون يميز بين القضاة رغم تساوي مراكزهم القانونية. فمثلا، المجلس الانتقالي مشكل من قضاة تجاوزوا الـ 60 من عمرهم، وتم استثناؤهم من الإحالة إلى التقاعد، ولا يوجد معيار أو سبب أو مصلحة معلنة من هذا الاستثناء، خاصة إذا ما أخذنا بالاعتبار أن طبيعة عمل غالبية أعضاء المجلس هي قضائية.
كما أن هذه الإحالة تستهدف قضاة محكمة معينة، وهي تحديدا المحكمة العليا، حتى لو طال النص عرضا قضاة محاكم نظامية أخرى أدنى درجة، وهو لا يشمل قضاة المحاكم العسكرية التي تم تعديل قانونها مؤخرا برفع سن تقاعد القضاة فيها إلى 65 عاما بقانون صادر عن السلطة التنفيذية، ولا يشمل أيضا قضاة المحكمة الدستورية، حيث تمت إزالة حكم التقاعد بوصول سن معين لقضاتها بقانون صادر عن السلطة التنفيذية. وهذا يعني أن نص الإحالة إلى التقاعد لا يساوى بين القضاة في فلسطين وفقا لمعيار معين، وتم استعمال العمر فيه كوسيلة لاستهداف قضاة بعينهم، وطالما أن هذا الاستهداف يقوم على أسس اعتباطية، وهو مثبت بالتصريحات العلنية للمؤسسة الرسمية وغير الرسمية (الحقوقية)، فإنه يعتبر من أوجه التمييز المحظور بين الأفراد في المبادئ العامة للقانون.
بالنتيجة، هذه الإحالة (الجماعية) إلى التقاعد، تخالف العديد من المبادئ الدستورية أهمها، مبدأ عدم جواز سريان القانون بأثر رجعي، والحق في الدفاع، والعقوبة الجماعية المحظورة دستوريا، وأخيرا التمييز بين القضاة على أساس اعتباطي واستخدام السن كوسيلة لهذا التمييز دون تطبيقها بشكل عام ومجرد، وهذا كله يؤسس للحكم بعدم دستورية الإحالة (الجماعية) للتقاعد، واعتبارها غزلا اعتباطيا محظورا في القانون، وهناك العديد من القرارات للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان تدعم هذا التوجه. ويكون السؤال، هل هذا إصلاح للسلطة القضائية أم أنه انتقام من مجموعة أو فئة معينة من القضاة بادعاء الإصلاح؟ والشيء بالشيء يذكر، هناك توجه دستوري حديث في الأنظمة شبه الرئاسية على منح الرئيس صلاحية حل البرلمان. لكن هذه الصلاحية إذا تمت ممارستها من قبل الرئيس تعني بحكم القانون الدعوة لانتخابات عامة رئاسية وبرلمانية، وهذا الربط يحقق مبدأ الفصل المتوازن بين السلطات ويفعل مبدأ الشعب مصدر السلطات ويضمن المساواة أمام القانون، وقياسا عليه، فإن مقترحا مثل، النص دستوريا على أن، يعتبر كل شخص يشغل وظيفة عامة أو يتلقى مالا من الخزينة العامة محال إلى التقاعد حكما بإتمام الستين عاما، دون استثناء، هو نص يتوافق مع المبادئ العامة للقانون، ويساعد في ضخ دماء جديدة، وفي كل السلطات، وليس قصر (الإصلاح) على السلطة القضائية النظامية، وتحديدا قضاة المحكمة العليا.