الأحد  24 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

الرجل ذو القناع الحديدي/ بقلم: د. سامر العاصي

2019-07-24 11:18:37 AM
الرجل ذو القناع الحديدي/ بقلم: د. سامر العاصي
د. سامر العاصي

بعد مرور أكثر من 300 عام، إلا أن عدداً قليلاً فقط من الفرنسيين، الذين عاشوا في القرن السابع عشر، كان يعرف هوية وحكاية السجين ذو القناع الحديدي، رقم 64489001، الذي قضى آخر 34 عاما من عمره، في غياهب سجون سليل أسرة البوربون، "ملك الشمس"، لويس الرابع عشر 1638- 1715، أو الملك المستبد، صاحب المقولة الشهيرة "الدولة أنا، وأنا الدولة". أما أخلاقيات البلاط الملكي في عصره؛ فكانت بناء القصور، قصر فرساي، والإسراف في اللباس والقمار والزنا الفاحش، ومن المؤكد أن الرجل كان "زيرا للنساء"، حتى قيل بأنه أنجب 22 طفلا، ما بين شرعي وغير شرعي. 

وكان أول من كتب عن السجين، ذو القناع الحديدي، الذي استمرت مسيرة حزنه وآلامه من سجن إلى آخر، طيلة 34 عاما، هو الكاتب والفيلسوف الفرنسي فولتير (1694 ـ 1778)، الذي ادعى أن قناع السجين هذا، لم يكن من القماش المخملي، بل من الحديد، وإن كانت "مفاصله" عند الذقن، تمكن صاحبه من الأكل. وادعى "فولتير" عام 1751، بأن السجين ما هو إلا شقيق "لويس 14"، مضيفا بأنه كان رجلا رفيع المقام، إذ كانت إدارة السجن تقوم بتزويده يوميا، بأفضل أنواع الطعام والشراب. أما طبيبه الخاص؛ فلم يكن يستطيع رؤية وجهه، بل إن مدير السجن ظل هو الشخص الوحيد الذي كان يزوره ويعرف هويته الحقيقية!. أما الكاتب الفرنسي الكبير الكسندر دوما 1802-1870، الذي أكد في نهاية روايته "الفرسان الثلاثة"، أن الرجل ذو القناع الحديدي، هو الشقيق التوأم للويس 14. 

وتبدأ أحداث الرواية الشهيرة، التي ترجمت إلى مئات اللغات، أن "لويس 14" قرر وضع شقيقه التوأم، الذي ولد قبله بدقائق (أي أن الأخ "المقنع"، هو الوريث الشرعي للعرش الفرنسي وليس لويس 14، لكونه أول الأبناء ولادة) في السجون الفرنسية، التي كانت بروتوكولاتها تضع السجناء في زنازين منفردة وتمنع الزيارات عنهم بعد استبدال أسمائهم الحقيقية بأرقام، وتركهم حتى الموت أو الجنون، دون أن يشعر بهم أحد!. ولأن القانون الفرنسي آنذاك، كان يمنع إعدام أي من أفراد العائلة المالكة، لذا، اختار "لويس 14" لشقيقه، السجن الانفرادي،حتى الموت، بعد أن تم وضع قناع حديدي على وجهه، كي لا يراه أو يميزه أحد. 

 في البداية، تم وضع السجين أول مرة، عام 1669، في سجن مدينة "بينيرولو" وهي قلعة كانت ضمن جبال الألب الفرنسية (حاليآ إيطاليا)، المخصص للسجناء السياسيين الكبار، وذلك عندما أبلغ رئيس الوزراء الفرنسي الماركيز "دي لوفوا"، الضابط السابق في الحرس الملكي، مدير سجن "بينيرولو"،  "المسيو " بنين سان مارس، بأنه سيتسلم سجينا مهما يدعى "يوتاش دوغر"، يرتدي على وجهه قناعا حديديا، على أن يوضع فورا، في سجن انفرادي لمنع السجناء الآخرين من الاختلاط به. ولم يكن السجين "المهم"، قادرا،  أو حتى مسموح له بالتواصل مع أحد، سواء عن طريق الكتابة أو الكلام باستثناء مدير السجن، الذي كان عليه تزويده بالطعام، واحتياجاته الشخصية، بعد إنذاره "دائما"! بأنه سيقتل في حال قيامه إبلاغ أي كان عن هويته الحقيقية.

في العام 1681، نقل السجين إلى سجن أكسلس الذي يقع بالقرب من "بينيرولو"، ثم إلى جزر"الليرن"، عند شاطئ الريفيرا الجنوبي. وبعد أحد عشر عاما؛ نقل السجين للمرة الأخيرة إلى سجن الباستيل في باريس، وتوفي هناك عام 1703. ويعتقد كثيرون،  أن قصة القناع بدأت عندما كان مدير السجن، المسيو "سان مارس"، ينتقل من سجن إلى آخر، مصطحبا معه السجين، الذي كان يرتدي قناعا حديديا. ويعتقد البعض أيضا، أن القناع لم يكن من الحديد، بل من القماش المخملي.       

وانتشرت الشائعات في باريس، عن وجود سجين يرتدي قناعا مخمليا، يحمل معه سرا ملكيا، سرعان ما أخذت قصته منحى قصصي وسياسي. 

وقال الناس، إن السجين، ما هو إلا "ابن غير شرعي" للويس 14، تم سجنه في قناع حديدي بعد أن صار يطالب بولاية العهد!. وجاءت إشاعة من بلاد الضباب تقول، إن جيمس سكوت، أو دوق مونموث، البروتستانتي (والابن غير الشرعي لملك بريطانيا، تشارلز الثاني)؛  قاد حركة تمردية، ضد ولاية أخيه "الكاثوليكي"، الملك "جيمس الثاني"، والتي تمكن من إخماد التمرد، واعتقال أخيره غير الشقيق. وقيل بأن "جيمس 2" كان قد تعهد لوالده، بأن لا يقتل أي من اخوته غير الشرعيين، مهما كان السبب. وبدأ البحث عن رجل يُشبه "دوق مونموت"، لينال القصاص الملكي "علانية"، لإرهاب العامة، ليعدم بدلًا من "الأخ المتمرد". وتم إيجاد الضحية "الشبيه"، لتُقطَع رأسه علانية أمام الجماهير، ويكون عبرة لكل البريطانيين، ليرسل بعدها "الأخ المتمرد"، خفية إلى باريس، بعد موافقة لويس 14، بحفظ السر الملكي البريطاني. 

وقيل أيضا، إن الرجل ذو القناع الحديدي، كان طبيب العائلة الملكية، وعشيق زوجة "أم لويس 14"! أي أن الطبيب هو الوالد الحقيقي، للملك!. وهو ما يهدد شرعية "لويس 14"، في البقاء ملكا. ولما كان الملك غير قادر على قتل والده؛ فقد قام بنفيه إلى غياهب السجون، ليقضي بقية حياته، دون أن يراه، ودون أن يهدد شرعية ابنه "ملك الشمس". ومن الجدير ذكره، أنه في أثناء حرب السنوات التسع (1688 ـ 1697)، التي نشبت بين فرنسا من جهة، وتحالف هولندا والنمسا من جهة أُخرى، حيث قام الهولنديون بنشر هذه الإشاعة، في محاولة لخلق بلبلة في المجتمع والجيش الفرنسي.

طوال حياة "الرجل ذو القناع الحديدي"؛ كانت هناك حالتان فقط وردت من شهود العيان، عن رؤية السجين، مرتديا القناع الحديدي، الأولى كانت عند نقله من سجن أكسلس إلى جزيرة سانت مارغريت (جزر الليرن)، أما المشهد الثاني، فكان عندما نقل السجين إلى سجن الباستيل، وقد استبدل القناع الحديدي، بقناع من المخمل الأسود، إذ أنه من المستحيل أن يعيش أحد بقناع طيلة حياته، لأن الوجه في تلك الحالة يكون بيئة مناسبة لنمو البكتريا والفطريات، مما يسبب الموت لاحقا. 

ومع مرور مئات السنيين، وعدم الكشف عن صاحب القناع، أصبحت قصة الرجل ذو القناع الحديدي، لغزا يودّ كل شخص، حتى يومنا هذا، أن يَحله. ويقال إن عدد الأفلام السينمائية، المستوحاة من هذه الرواية، وصلت إلى أكثر من 200 فيلم حول العالم.

وفي العام 1703، توفى السجين، ذو القناع الحديدي، بعد أن قضى 34 عاماً، وحيدا في سجون "لويس 14". وعند جنازته، اتخذت إجراءات أمنية غير عادية؛ إذ تم إحراق كل الأدوات التي كان يستعملها في السجن، وتم تنظيف ودهن جدران الزنزانة، التي كان يقيم فيها، للتأكد من أنه لم يترك عليها أي رسالة. وعند نقله من زنزانته إلى قبره، حضرت عربة ملكية خاصة، حملته، إلى قبر فاخر جدا، صنع من الرخام، وقام كاهن مجهول، بتغيير القناع الحديدي بآخر مخملي أسود اللون.

ودفن السجين المقنع، بعد أن أُحيط قبره بحراسه مشددة، استمرت شهرا كاملا، وتم دفنه تحت اسم مستعار، هو "م. دي. مارشيولي".