الحدث: الكاتبة عفاف خلف
قال: إذهب في المكان، تجد زمانك عائداً
ذاك ملخص الكبسولة للكاتب كميل أبو حنيش، وكانت تتنازعني الرغبة في أن أكتب حول الرواية أو لا أكتب، فلست ناقدة، بل مجرد قارئة بذائقةٍ - لا أستسيغها أحياناً - صعبة، وستستوقفني صفحة على الفيس بوك لتستفز قلمي ليكتب، نحن أحافير البلاد الحية، وفي لحم عظامنا نحتنا البلاد. نحتها عدنان رحماً في وادٍ كان يرعى فيه أغنامه ليصير " عنقاء الرماد " وليشهد " مرقد الإنبعاث " أكثر من ولادة، فهنا، من " المرقد " ذاته سيودع عدنان طفولته ليلتقي برجولته الوليدة، وهنا سيولد ثانية بالحب، وهنا ستتكرر الولادة ليصير " سجيناً سياسياً " يحمل على كاهله البلاد، وستعيد البلاد ولادته مراتٍ عديدة لأنها " الأمانة " التي حمّلها إياه رفيق في الأسر، فكانت " الكبسولة ".
رحمان تناوبا على ولادته تباعاً " مرقد الإنبعاث " و" الكبسولة ".
الرواية من الحجم المتوسط تقع في ٣٩٤ صفحة من منشورات مؤسسة الأمة العربية للنشر والتوزيع للعام 2012.
كنت قد قرأت لكميل سابقاً رواية " وجع بلا قرار " والقارىء لكلا الروايتين سيلاحظ التطور الهائل في فهم الكاتب وامتلاكه لأدواته السردية فالرواية تنساب كما الماء دون تدخلات تذكر من الكاتب، فالكاتب منساق بكليته خلف البطل.ويكاد يتوارى تماماً في لغةٍ سردية متينة وإن كان ينقصها بعض التدقيق اللغوي - الذي هو مهمة الناشر- الأمر الذي لا يُحسب على الكاتب ولا على متانة السرد.
الشخوص: ثمة شخصيتين رئيسيتين في العمل " سميرة وعدنان " سميرة / الوطن / الرحم / الثابت الذي لا يتغير ويرافق عدنان كحبلٍ سري لا ينقطع يعيده إلى ذات المكان في " استرجاعٍ " لكل ما هو فلسطيني. وكما أن المكان في المنفى / الغربة يتمدد ليغزو كل مساحاتنا تمددت سميرة عدنان لتستحوذ عليه بكليته، ولتظل برونقها وبكل ما يضفيه الحب من " أسطرةٍ " لطيفٍ سكننا ولم نسكنه. سميرة التي ظلت على امتداد الرواية شخصاً حاضراً بروحه وجسده وتدافع عن وجودها داخل عدنان عصيّة على الغياب والتغييب وكأن كميل يقول " أن كل النساء وكل الأوطان ليست سوى محاولاتٍ بائسة لردم الهوة التي يصنعها الإقتلاع ، وكل محاولات التعويض صفيقة، فأنت تستطيع ردم هوة الجسد بجسد، لكن هاوية الحب ستبقى فاغرة شدقيها لابتلاعك لتلتقيك، لتلتقي روحك وما كنته وما ستصيره.
عدنان: ذاك الإندفاع الجموح لفلاحٍ فلسطيني لم يعرف إلا البساطة لغةً وشفافية النهر الذي لم تلوثه المجريات، سار مع التيار أو سار به من حبٍ لسجنٍ لمنفى وحين استقر به المنفى تلبسه المرض حتى تراءى له الوطن فعاد.
سأقف كثيراً عند عودته، عند هذه اللحظة التي يقف فيها على ضفة النهر الشرقية ليختار ذات نقطة الخروج ليجعلها جواز عبوره للأرض، وكأن الأمكنة تستعيد " زمانها " ليعود فلسطينياً/ حاراً / متدفقاً / متوقداً بفورة الشباب الذي لم يغب لأكثر من أربعين عاماً. تلك اللحظة التي كتبها اجتهاداً لابنته لترى " العودة " ماثلةً جسداً وروحاً، تلك العودة التي أكملها برحلةٍ إلى مكان " هجرته وحجه " حيث " الولادات " سر المكان الذي سيستعيد منه وفيه زمانه.
الكبسولة: خيط الوعي الممتد فتيلاً على طول الجسد، احترتُ في ثيمتها أهي اللعنة أم التميمة! الأمانة التي حملناها - غروراً - أم الوطن الملفوف بعشرات الطبقات من الركامات والشخوص والمشاعر ويدور ودار حوله عمرنا، كل أعمارنا وحين عاد " البطل " وجده حبراً غائماً لا يصلح لقراءة! أهذا هو " حالنا " !
باقي الشخوص: تتراوح ما بين خفضٍ وجذب، كل يترك أمتعته ويمضي .. وما يلفت أن ذاك الفلسطيني " الساذج " لا يتكىء على وعي أو أيديولوجيا وكأنه ومع كل تناغمه وانخراطه بالعالم ظل بمنأى! لا، هو كأي راعٍ حقيقي متناغمٌ مع طبيعته يحفظ الشعر والأغنيات، الكثير من الشعر - سيقلقني الشعر في العمل حد القفز عنه، ربما لأن بيني وبين الشعر عداء مذ تعلمت القراءة، وربما ما قبل ذلك، لا أدري.
وبعد،،،
الزمان: هو لعبة المكان، يكفي أن " نعود " لينكص الزمن على عقبيه فاراً من ملامحنا وأمراضنا، تلك هي " حبكة " الرواية " الزمن المستعاد " بقوة " الجغرافيا " وقدرة " الرحم " على " إعادة " الولادة. ربما نعود إلى إماكن أرواحنا ولكن لن نستطيع إعادة كتابة " تواريخها " ضمن السياق الطبيعي لو لم يستأصلنا احتلال.
المكان/ الأمكنة: ستغيم الأمكنة بضباب " عدم المعرفة " ربما، فعمان ٦٧ لم تكُ بالضخامة التي يذكرها الكاتب، وجغرافيا لبنان تكاد تختفي وما يظل طافياً وواضحاً على السطح وادٍ يسيل فيه الماء سيعيد ولادته. لأنه الإيمان هو قدرتنا على إعادة " خلق " الزمان ليلائم الجغرافيا، وربما حان الوقت لنكتب زمننا الفلسطيني.
ما لفتني في العمل الحضور " الطاغي " للأنثى حتى في جغرافيا المكان، وتلك العودة المتوجة إلى " الرحم " لتصير الولادة. وبانتظار ولادات أخرى للكاتب.