الإثنين  25 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

"ليتني كنت أعمى": عقلانية الكاميرا، ميلانكوليا المصوِّر

عبد الرحيم الشيخ

2019-08-06 07:58:52 AM
غلاف رواية ليتني كنت أعمى للكاتب وليد الشرفا

 

في مغامرة الكتابة المبكِّرة، أنجز الروائي وليد الشرفا نصَّين دالَّين على ما ستكونه تجربته الروائية اليوم: "محكمة الشعب" (1991) و"اعترافات غائب" (1994)، وهما نصَّان أرهَاصَا بنقد إبداعي لما ستحمله تحوُّلات مدريد-أوسلو من خراب لم يكن أوله التمرُّد ولا آخره الانقسام. وقد كان لجمالية التجاوز، على مستوى الشكل، أن تحمل الشرفا من نصَّيه الأولَيْن إلى موقعيَّة أكثر إتقاناً، على مستوى المضمون، لسردَّية التطهُّر في ثلاثية روائية لم تتلعثم في تدشين نقد احتجاجي لافت لسياسات الذاكرة والنسيان ما بعد أوسلو، هي: "القادم من القيامة" (2008)، و"وراث الشواهد" (2017)، و"ليتني كنتُ أعمى" (2019). على امتداد هذه الثلاثية الشاقَّة، انتقل الشرفا من "سرد المستحيل الوطني" في جزئها الأول، مروراً بـ"سرد الممكن الأسطوري" في جزئها الثاني، وانتهاءً بـ"سرد ممكن-المستحيل الوطني-الأسطوري" في جزئها الثالث الذي كرَّس فيه تراصفَ ذاكرة الانتصار الفلسطينية، فلم يفكك البطل، ولم ينعَ البطولة، ولم يضحِّ بثورية المقولة السياسية على مذبح "جمالية الخاص-الفردي" الذي استهلكته "جمالية العام-الجماعي".

وليد الشرفا ليتني كنت أعمى

وفيما يفصح إهداء "ليتني كنتُ أعمى"، عن أزمنة الرواية وأمكنتها وشخوصها على شكل اعتذار تجاوزه الزمان والمكان: "إلى حاملي هذه الرواية، إلى علي الطوق وياسر الزرعيني، وغيرهما كثر، من بيروت وصبرا وشاتيلا، إلى مخيم جنين مروراً برام الله ونابلس وعكا وصفورية وغيرها أكثر. وإلى كل الذين مروا بثلاجات الموتى ورقدوا أبديتهم في المقابر الجماعية"، فإن مفتتح الرواية، بعنوان "تشارك"، يفصح عن فاعلية السرد في إحداث الإزاحات التاريخية الممكنة لجعل "الواقعيِّ خيالياً أكيداً" عبر أنموذج المصوِّر-المقاتل، وألبوم صوره الذي يشكِّل فضاءً متغايراً للسردية الفلسطينية، حيث يعتقد الشرفا أنه "كثيراً ما يمحو الواقعيُّ التخييليَّ ويحبطه ويستبدله بالحقيقي الأكثر سحراً." ولذا، فإنه: يتوجه "بالعرفان إلى الذين كانت تجربتهم وشهاداتهم وآلامهم محطة مهمة في تشكيل هذه السردية، إلى الأصدقاء الأعزاء: المناضل الأسير جمال حويل، والمناضل الجريح الأسير زكريا زبيدي، المناضل الأسير أبو علاء منصور، المقاتل كلمة وجسداً المناضل يوسف القطب." تتراصف ذاكرة هؤلاء المناضلين، ولا تتعاقب، ويتوزَّع سردها، صورياً، بين الواقعي والخيالي المتنافسين في جغرافيات المقاومة الفلسطينية، بكل ما اكتنفها من معاناة وألم في مسار الزمن النكبوي الفلسطيني منذ العام 1948 وحتى اللحظة.

 في خطِّها الحكائي، تعيد الرواية الاعتبار لمركزية الكفاح المسلح في التجربة الفلسطينية منذ العام 1968 وحتى العام 2002، لكنَّها تخص تجربتَي معركة بيروت-آب 1982 ومعركة مخيم جنين-نيسان 2002، في إطار انتفاضة الأقصى، بمجمل مساحتها المقاومة. ولإنجاز ذلك، تسرد الرواية الوقائع الغريبة لمصوِّر الثورة الفلسطينية، العكاوي علي الطوق (الذي استشهدت زوجته في شاتيلا، وفقدت آثار أخيه الأسير بعد تبادل العام 1985، واستشهد رفاق دربه في معارك الفداء الفلسطينية)، انطلاقاً من لحظة "مؤتمر مدريد للسلام" في العام 1991، راصدةً التحوُّلات الهائلة في مسيرة حركة التحرر الوطني الفلسطينية "من الثورة" إلى "الثروة"، على المستويات: السياسية، والاجتماعية، والثقافية. لكنَّ الروائي، جنَّب المصوِّر-المقاتل، الغاضب لنفسه وعلى نفسه، الانفصام بين سياسات الذاكرة والنسيان، ومقولات السلم والحرب... إذ منحه، إلى جانب مكانة الراوي المركزي، أداة سرد مزدوجة: كاميرا قديمة صوَّر بها الثورة وقائدها العام، لكنَّها عُطبت تماماً في مدريد (ولعلَّ السردَ أعطبها)، وأخرى جديدة، لم يتمكن أن يصور بها لحظة واحدة من مفاوضات السلام، ولكنها عادت إلى مهمتها الثورية مع اندلاع انتفاضة الأقصى في العام 2000 (ولعل السردَ أعادها).

 

مخيم شاتيلا يوسف القطب ليتني كنت اعمى وليد الشرفا عبد الرحيم الشيخ

 

في جمع نادر بين "حيرة العابد" و"حيرة العائد" في رائعتَي الطاهر وطار ومحمود درويش، يجد المصوِّر العكاوي صعوبة بالغة في فهم تحوُّلات ما بعد مدريد-أوسلو، وتتلبَّسه حالة ميلانكولية تفترس روحه، تزيد من حدَّتها "هدية" الإسرائيلي الإباحية التي أعطاه إياها في مدريد، ولم يكتشفها إلا بعد العودة إلى رام الله. بعد أن ضاق المصوِّر ذرعاً بفقاعة "رام الله الجديدة"، التي كاد أن يصير جزءاً منها حين قاده فساد الآخرين إلى إتقان اللامبالاة، وحرمان الذات إلى إدمان الإباحية... يتوجَّه إلى شمال "فلسطين الجديدة"، ويستقر في نابلس قبيل اندلاع انتفاضة الأقصى في أيلول من العام 2000. وإثر إصابته بشظية قذيفة صهيونية في حارة النصر، ينقله سائق سيارة إسعاف غريب الأطوار، وفي ظروف سوريالية، إلى مستشفى رام الله، رفقة ياسر الزرعيني، الجريح القادم من معركة مخيم جنين الأسطورية (الذي فقد أخاه في انتفاضة العام 1987، وشهد المعركة من بداياتها، حتى كمين الـ 12 ("13"))، وسيشهد، بعد انتهاء المعركة إعادة تدشين ذاكرة المعركة بركام المعركة في هيئة حصان حديدي بناه فنان أجنبي في مدخل المخيم الذي كان قبل قليل "مصيدة ومحرقة" و"نيساناً يتمرد فيه الربيع على الصقيع". يذهبُ بصر المصور العكاوي، فيما تُبْتَرُ رجل المقاتل الزرعيني، دون أن يحول ذلك دون مواصلة سرد مرويات البطولة والخسارة في فلسطين، القديمة والجديدة.

مستشفى رام الله الاجتياح وليد الشرفا عبد الرحيم الشيخ ليتني كنت أعمى يوسف القطب

 

وإذا كانت هذه هي الكيفية التي قرأتنا بها الروايةُ كفلسطينيين، فكيف نقرأ نحن كفلسطينيين الرواية؟ ثمة اقتراح ساذج، ولا يحتاج إلى كثير من الاحتراف النقدي: أن نحوِّل الرواية إلى فيلم (وهو ما آمله فعلاً في المستقبل القريب) لن نصل إلى المطلوب في إنجازه إلا عبر الإجابة على أربعة أسئلة من شأنها أن تيسِّر ما تقتضيه السينما من اقتصاد لغوي وتبئير درامي. وهذه الأسئلة لن تزال قائمةً في حالة قراءة الرواية كرواية...

السرد: سؤال الإزاحة

تنطلق الرواية، كما تبيَّن من المفتتح الذي يتوسَّط الإهداء ومتن الرواية، بعنوان "تشارك"، من ملاشاة الفرق بين الواقعي والتخييلي، وتضع القارئ في تحدٍّ على شكل تحذير، أي في مصيدة ذهنية، لعدم الانزلاق إلى غواية مراقبة التمرئي التام بين الواقع وصوره الفنية، أي بين التاريخ والرواية، وضرورة الانتباه الدائم للفرق بين الرواية التاريخية، ورواية التاريخ. لا يكتفي الشرفا بنصب هذه المصيدة على عتبة الرواية، بل يواصل إحداث الإزاحات الحَدثية (ولا أقول التاريخية) في نصِّه بين: المصوِّر العكاوي، وبطل عملية الدوريات، والمقاتل الزرعيني، ورفيقه الحيفاوي وأصولهم الواقعية المتمثلة في: يوسف القطب، وأبو علاء منصور، وجمال حويل، وزكريا زبيدي، الذين لم يكتف كل منهم بكتابة التاريخ ببندقيته عبر فعلهم المقاوم، بل وكتب كلٌّ منهم حكايته، و"ورث أرض الكلام": صورةً، وروايةً، ويوميات، وأطروحةً... وعليه، فإن الاحتراف السردي لدى الشرفا تمثَّل في نفي سمة "التاريخية" عن الرواية، دون أن يُموقِعَها خارج التاريخ، وإلا فكيف كان لهذه "الإزاحات" التاريخية ألا تضطرب عبر المسار الزمني الرصين الذي ترصده الرواية، وبحضور شخوصها التاريخيين: ابتداءً من القائد العام للثورة-ياسر عرفات، ومروراً بمثقفها النبيل-حنا ميخائيل، وانتهاء بمناضلتها الأيقونية-زكية شموط؟ هنا، يتحول التاريخ الحَدثي إلى تاريخ لا-حَدثي دون منح مقولته الوطنية تقاعداً جمالياً مبكراً. تقدِّم هذه الرواية نموذجاً مختلفاً في تدعيم مقولة آينستاين أن "سر الإبداع يبدأ من إخفاء المصادر"، ومقولة غوته أن "الذكاء يَسرق، والعبقرية تَنهب"، ولا تعتذر عنهما، ولو لماماً.  

الترافص: سؤال الذاكرة

بقفزة لافتة عن استخدامات الذاكرة في الجزأين الأولين من الثلاثية: "القادم من القيامة"، و"وارث الشواهد"، ينتقل الشرفا من استخدام الذاكرة بوصفها بئراً مخيفة، حُفرت في الماضي المظلم، وأنجز استهلاكها في الحاضر المضيء، عبر تحديدها مرةً واحدة وإلى الأبد... إلى الذاكرة بوصفها تراصفاً ضوئياً، أي بوصفها جدلاً-متواصلاً ينجزه الفن الروائي (تخييلياً) بالصورة، الصورة الفعلية التي يتبدل موقعها في ألبوم المصوِّر ولا تتبدل أزمنتها، بل تزميناتها، ولا تتبدل أمكنتها، بل تمكيناتها، إذ هي مكان وزمان متغايران في آن معاً (Heterotopia/Heterochronia). وبذا، فقد استطاع الشرفا، باقتناص المسيرة الغرائبية شبه-الأسطورية لمصور الثورة "يوسف القطب"، وتحويلها إلى تجلٍّ روائي لشخصية "علي الطوق"، أن يسيل جغرافيات الألم الفلسطيني في نهر ذاكراتي سرمدي التدفق-أبدي الجريان، تتحول فيه الصور الفعلية التي في حقيبته إلى "تراصُف كوكبي" (Constellation) بمفهوم فالتر بنيامين الذي وطَّنه فلسطينياً المخرج اللامع صبحي زبيدي في أفلامه، وأعماله التشكيلية، ودراساته التي أعادت الاعتبار النظري لاستخدامات الذاكرة التراصفية في السياق الفلسطيني. يستخدم الشرفا هذه التقنية لمنح سردية "ممكن المستحيل الوطني-الأسطوري" فرصة ترميم البطل، لا صورته وحسب، عبر نموذج معركة مخيم جنين، ومسار الدم الذي رسمته كاميرا المصوِّر-المقاتل.

يوسف القطب مصور الثورة الفلسطينية في رواية ليتني كنت أعمى وليد الشرفا عبد الرحيم الشيخ الحدث

 

العمى: سؤال الإحالة

يختزل عنوانُ الرواية الروايةَ بأسرها: "ليتني كنتُ أعمى"، في احتمالين: "ليتني كنتُ أعمى لأرى"، أو "ليتني كنتُ أعمى لئلا أرى"، وخلف كل من الاحتمالين تقف مصفوفة من الإحالات النصيَّة وغير النصيَّة، نقتصر على اثنين منها لضيق المقام: "ليتني كنتُ أعمى لأرى"، تستدعي وصف محمود درويش الشعري لـ"هلوساته" خلال عملية القلب المفتوح التي أجراها في باريس، والتي استذكر منها جلوسه مع رينه شار وهيدغر والمعري الذي، أطلق مقولته الساخرة/الساحرة: "لستُ أعمى لأبصر"، كما تستدعي مقولة أدونيس في "تنبأ أيها الأعمى"، ومؤدَّاها: "ينبغي أن يَدَّهن كلامُكَ، لا بالخيالِ، بل بقشدة العقل. ولتكنْ مثلَّجةً"، حين تتجلَّى الرؤيا في انعدام الرؤية. أما، "ليتني كنتُ أعمى لئلا أرى"، والتي تشير إليها الحالة الميلانكولية للمصور بكل ما تختزله من رغبات، وندم، وتطهُّر... فتحيل إلى مقولة درويش على لسان أوديب "من دسَّ في خمري سمومَ المعرفة" ومقولته الأشمل في تبرير اختيار سوفوكليس (كاتب "أوديب"): "لا بد من ذاكرةْ، لننسى ونغفر حينَ يحلُّ السلامُ النهائيُّ ما بيننا وبين الغزالةِ والذئبِ. لا بد من ذاكرةْ، لنختار "سوفكلَ"، في آخرِ الأمرِ، كي يكسر الدائرةْ." ذلك أن ذاكرة الألم كانت ضرورية لكبح حاضر الرغبة لدى المصوِّر الذي لم يعد مقاتلاً لفترةٍ عابرة، أو كاد بعد أن التهى بـ"هدية الإسرائيلي" الإباحية، فكان عليه الخروج من "طيبة الفلسطينية/رام الله" إلى "كولونوس الفلسطينية/نابلس" ليزداد بصيرةً، وتطهراً بدم العين.

 

ليتني كنت أعمى وليد الشرف

 

الالتزام: سؤال الإيديولوجيا

في "ليتني كنتُ أعمى" مقولة إيديولوجية تستكمل مسار مثقَّفية الشرفا وفعله الثقافي: نتاجاً، وسياسةً، وممارسةً، مؤدَّاها أن الهزيمة السياسية التي منيت بها قيادة حركة التحرر الوطني الفلسطيني، متمثلة في منظمة التحرير الفلسطينية (التي صارت بعد مدريد وأسلو "سلطة بلا سلطة")، لم تكن مرَّة، ولن تكون، قرينة على هزيمة وجودية أو أخلاقية للفلسطينيين. فاللحظات المضيئة في التاريخ الفلسطيني، على مستويَي المقولة والفعل، بوسعهما التجدد في أية جغرافيا فلسطينية حاضرة ما دامت شرور الاستعمار الصهيوني قائمة، وتستدعي المقاومة. غير أن هذا الممكن التاريخي، الذي لم تكن معارك الفلسطينيين في بيروت ومخيم جنين، إلا بعض نماذجه البارزة، لا يمكن أن يتحقق دون قطع جذري مع الأسطورة الدينية التي لم تتوقف عن التأسيس لشبهة حق سياسي لقوة استعمارية متوحشة بالنار والحديد على مستوى "سياسات العداء"؛ والقطع مع الرجعيات العربية والفلسطينية على مستوى "سياسات الصداقة".

"ليتني كنتُ أعمى" درس مركَّب في رؤية جغرافيات العمى الفلسطيني وتواريخه، وهذه محاولة أولى لقراءة الدرس.

 

 

*عبد الرحيم الشيخ- شاعر وناقد فلسطيني ولد في القدس لعائلة لاجئة من الرملة. يعمل أستاذًا للفلسفة والدراسات الثقافيّة والعربيّة في جامعة بيرزيت. يركز عمله الفكري على سياسات الهوية والقومية وتفسير الروابط العلائقية للسياسات، يعمل في الترجمة وفي نقده الفني يركز على التعبيرات البصريّة للهويّة الفلسطينيّة.

** وليد الشرفا: كاتب فلسطيني من مواليد نابلس، فلسطين، عام 1973. أستاذ الإعلام والدراسات الثقافية في جامعة بير زيت، فلسطين. حاصل على دكتوراه عن الأطروحة حول الخطاب عند إدوارد سعيد. أصدر مسرحيته الأولى بعنوان "محكمة الشعب" في المرحلة الثانوية عام 1991. أصدر روايته "القادم من القيامة" عام 2013 وروايته الثانية "وارث الشواهد" في 2017. تتركز اهتماماته على ثقافة الصورة والاستشراق.