شغلتنا صفقة القرن حتى صار الموقف منها هو عنوان المرحلة السياسية.
الخطأ الفادح الذي وقع فيه الجميع، هو اعتبار هذه الصفقة كما لو أنها شأن فلسطيني فقط، ولقد أنتج هذا الفهم الخاطئ أو المجتزأ؛ التركيز على الرفض الفلسطيني مع تضخيم موازٍ لفاعلية مؤيدي هذا الرفض من الدول العربية والعديد من الكيانات الدولية.
الذين أيدوا الرفض الفلسطيني تحصنوا وراء جملة غير ذات مغزى عملي وهي "نقبل ما يقبل به الفلسطينيون ونرفض ما يرفضون".
الفلسطينيون وبفعل الاضطرار والحاجة الملحة وتجميع الأرصدة؛ اعتبروا هذه الجملة بمثابة أرض سياسية لرفضهم، فتشكل خطابهم على هذا الأساس وسوّقوا للعالم حتمية فشل الصفقة وفق معادلة إحصائية رقمية قوامها أن كل العالم معهم باستثناء أمريكا وإسرائيل، وهذا يكفي لأن يصبح فشل الصفقة حتميا.
موضوعيا... ما دام الفلسطينيون، وهم الطرف الأساس، يرفضون الصفقة، وأكثر من ذلك يعترضون على الدور الأمريكي في الوساطة بينهم وبين إسرائيل؛ فإن كل ما يفعله الأمريكيون سواء على صعيد الإجراءات التي اتخذت والتحضيرات التي تتواصل منذ عامين أو على صعيد محاولات استقطاب شركاء إقليميين وعرب، لن يفضي إلى تسوية تاريخية ونهائية للقضية الفلسطينية، إلا أن الإلحاح الأمريكي على مواصلة العمل من موقع التأييد المطلق لسياسة اليمين الإسرائيلي سيخلق واقعا جديدا لن يكون في مصلحة الفلسطينيين، الذين لا يعانون فقط من الضغوط الأمريكية؛ بل يعانون من ضعف قدرات مؤيديهم والمتعاطفين مع رفضهم.
إن صفقة القرن التي يتأهب الأمريكيون لإعلان الشق السياسي منها؛ ستكون عنوانا لسياسة أمريكية خطرة تديم الصراع ولا تنهيه، وتشجع الإسرائيليين على المضي قدما في مخططاتهم للاستيلاء على نصف الضفة بما يمكن أن يوصف جولان 2، مع فارق في الأغطية والسلوك البطيء والمتدرج.
يؤذينا كفلسطينيين كثيراً نهوض قضايا أكثر إلحاحا وسخونة وضعت القضية الفلسطينية المركزية في ذيل قائمة الاهتمامات، ما يؤذينا الآن وغدا أن المحيط الاستراتيجي للقضية الفلسطينية آخذ بالتبدد والانفتاح على إسرائيل، فكثيرون من أهل هذا المحيط لم يعودوا يروا إسرائيل كما كانت ترى في السابق، ورغم الأدبيات اللغوية التي ما زالت تصدر عن المنابر العربية مثل الجامعة والقمم، والتي كتبت منذ نصف قرن؛ إلا أن المنطق السائد على مستوى دول المحيط الاستراتيجي يتلخص في قول شعبي متداول (كلٌ يقتلع أشواكه من يديه بيديه)، وهذا هو أكبر خسارة تلحق بالفلسطينيين منذ بداية قضيتهم.
غير أن دول المحيط الاستراتيجي ومن يتماثل معها في الموقف المعلن من الحقوق الفلسطينية؛ تواجه مأزقا في تعاملها مع صفقة القرن قبولا أو رفضا، فإن قبلت فستواجه اتهاما مباشرا بالإسهام في تصفية قضية ما زال حضورها مؤثرا في شوارعها الداخلية، ناهيك عن استغلال الخصوم الإقليميين لهذا القبول، وأطول باع في هذا المجال هو لجبهة الممانعة التي تقودها إيران وما لها من أذرع وحلفاء في معظم الجغرافيا المحيطة بفلسطين وإسرائيل، وإن رفضت بما يتجاوز تسجيل المواقف فالأمريكان لن يغفروا هذا الرفض ولديهم منذ الآن بنك عقوبات خصص للأصدقاء قبل الأعداء، وعلى نحو ما ينطبق هذا الأمر على الدائرة الأوسع المتحفظة علنا على صفقة القرن، والتي لا نعرف إلى أي مدى ستلتزم بالتحفظ بما يتطلبه من مواجهة مباشرة مع الأمريكان.
الفلسطينيون الآن في بؤرة تقاطعات حادة ومعقدة؛ فالقوة الغاشمة التي يجسدها الاحتكار الأمريكي والتحيز المطلق لإسرائيل لا تخفي توجهاتها لتطبيق شعار ترامب وفريقه بأن حل القضية الفلسطينية يكون بتصفيتها.
لم يعد هذا الأمر مجرد توجه أو موقف أو اجتهاد، بل ركبت له أقدام إسرائيلية ليمشي بها على جسد الحقوق الفلسطينية، التي كانت توصف فيما مضى بغير القابلة للتصرف.
إعلان الحكومة الإسرائيلية عن تحويل المنطقة C من أرض فلسطينية لا بد وأن تعود يوما لأهلها؛ جعل من هذه المنطقة التي تزيد عن نصف الضفة مشروعا استيطانيا مشتركا بين المحتلين وأهل الأرض، فأصحابها لهم عشرة بالمائة والمحتل له ما تبقى.
كل هذا يجري ومؤيدو الرفض الفلسطيني العادل للصفقة يواجهون هذا الخطر بجملة لا أرجل لها، (نقبل ما يقبل به الفلسطينيون ونرفض ما يرفضون وكفى).
لا أغالي لو قلت إن القضية الفلسطينية تمر بأخطر مراحل وجودها، ويحيط بها عجز إقليمي ودولي عن فعل ما يردع الأمريكيين والإسرائيليين، وفي داخل أهلها انقسام مدمر لأهم مرتكزات القضية وهو وحدة شعبها، واندماج أهل الانقسام في صراع حاد يبدو كما لو أنه أشد من الصراع مع الخصوم التقليديين.
وينهض إثر ذلك سؤال.. ماذا يتعين على الفلسطينيين أن يفعلوا؟
أصدر الفلسطينيون مؤخرا قرارا بوقف العمل بالاتفاقات المبرمة مع إسرائيل، وكانوا قد أصدروا قرارا بإنهاء الاتصالات السياسية مع إدارة ترامب، ذلك كان وبحكم الدوافع أمرا متوقعا، غير أنه في مجال أوسلو واحتمالات عودة المفاوضات والوصول إلى تسوية على المدى القريب وحتى البعيد لا يعني الكثير؛ فقد تم تجاهل لهذا القرار من قبل أهم المعنيين بالأمر أي الإسرائيليين، لأنهم لا يريدون تشجيع ولادة رد فعل دولي ضاغط عليهم، إذا والحالة هذه بات حتميا أن يغير الفلسطينيون أولوياتهم، فما زال هاجس التسوية يراودهم وربما يكون هو المحرك لسياساتهم وسلوكهم، ومع أن ذلك لا يضر، إلا أن الفلسطينيين أولا وأخيرا هم جزء من هذا العالم ومعادلاته وحساباته، وهذا التوجه يشبه السباحة مع التيار إذا ما حسبت الأمور بمنطق إحصائي.
إن الفلسطينيين بحاجة إلى عمل مواز بل وأن يحظى بأولوية مطلقة، وهو التفرغ لترميم وضعهم الداخلي، فإذا كانت التسوية التي سعوا إليها أضحت مستحيلة؛ فإن وجودهم على أرضهم وتمسكهم بحقوقهم ليس مستحيلا حتى لو حوصروا من قبل خصومهم المتفوقين عليهم، ولكي لا يضيع كل شيء في دوامة احتمالات التسوية، فينبغي أن تبدأ ودون إبطاء ورشة عمل وطني ليس من أجل تقوية الأوراق التفاوضية؛ بل لاستعادة النظام السياسي الذي كان فعالا في المنفى وضعف كثيرا حد احتمالات التلاشي على أرض الوطن، واستعادة النظام السياسي هو العنوان الصحيح لاستعادة عمل المؤسسات الفلسطينية التي لا حياة لأي قضية وشعب دون وجودها ودون أن تكون أساسا لجدوى كفاحها.
المؤسسات الوطنية تستعاد بالعودة إلى الانتخابات التي هجرناها، وها نحن ندفع ثمن الهجر، وعودة المؤسسات الفلسطينية تتطلب ضخ حياة جديدة في منظمة التحرير، التي ضعفت كثيرا بعد إهدار كل الفرص لتقويتها وتحصين مؤسساتها، والمؤسسات الفلسطينية هي الضمانة من أجل أن يكون الشعب الفلسطيني المبدع والخلاق داخل الوطن وخارجه شريكا فعالا في أداء مهمات الكفاح الوطني واتخاذ القرارات المصيرية.
هذا ما قصدته بتغيير الأولويات بعد أن طغى العمل الدبلوماسي على أساسيات العمل الداخلي، من هنا نضع حجر الأساس من جديد لحركة وطنية عصية على التصفية، ولخدمة قضية عادلة لن يتخلى الفلسطينيون عن أي حق من حقوقهم فيها، الدبلوماسية تنجح أو تفشل إلا أن الشعب المؤهل لا يمكن أن يفشل.