يفاجئنا خطاب حقوق الإنسان الجديد بتفوقه في توقع الإرادة السياسية، وفعاليته في تسخير ما يملك من ذكاء في المشاركة والتخطيط والتنفيذ الأمين لها، ويبدو أن مهارته في استراق السمع وتعزيز كل عوامل البقاء الشكلي تتطور بشكل متسارع، من أهمها طبعا معرفة متى يتكتك، ومتى يعلن ومتى يصمت، حتى لو كان إعلانا باستحياء أو بصمت ينافس صمت أهل القبور، ولا بأس من لوم الضحية في المجالس الخاصة، أو تحميلها مسؤولية انتهاك حقوقها لتبرير كل ذلك.
تتطور حالتهم، يصبح خطابهم إصلاحيا، أي ما بعد الحقوقي، يلجأون لذات الأرقام والإحصائيات التي تغذيهم بها الإرادة السياسية المصلحة، لا يكلفون أنفسهم عناء فحص مدى ثقة المواطن بهم ذاتهم، أو بحلفائهم؛ فهم يخالفون القانون مرتين: مرة ببقائهم وحلفائهم في مناصبهم على خلاف القانون والحكم الصالح، ومرة عندما يطيحون هم وحلفاؤهم من أعضاء السلطة التنفيذية أو مستشاريها الذين لهم ثأر مع السلطة القضائية بأعضاء هذه السلطة، التي بقي لكثير من أعضائها نصيب من شرعية، ومن حماية دستورية.
لا مانع من استعمال التضليل؛ فمصالحهم وواقعيتهم تسعفهم، يخرج أحدهم، ويقول: لم تفصل المحكمة، وهو يقصد قضاتها المطاح بهم على خلاف القانون طبعا، سوى دعوى واحدة طوال شهر كامل يحدده بدقة، ثم يظهر لاحقا عدم صحة هذا الادعاء، ولا يكلف نفسه عناء التوضيح. ومن يعرف النهج الأمني العربي المتميز يلاحظ التماثل.
سابقا، يذهب رئيس الوزراء المستقيل طبعا، وينسحب محملا بما يستطيع أن يحمل من تبعات حكم سيء السمعة والصيت، فيه ما فيه من اتهامات وفساد معاش، ويقابل ذلك باستهجانه لنكران الجميل، لكنه يمنحهم من خلال موقعه الجديد امتيازات ومناصب أخرى كان لها وما زال ما يقابلها، ويتلقون عنها التهاني والتبريكات باعتبارها لفتة مستحقة، ومعتقدين أنها وسام شرف لأنهم لم يتهاونوا يوما بالتستر أو تبرير أو تجميل أو التعايش مع تجاوزات الحكومة السابقة لحقوق الإنسان، فقد جازى بالجميل بالنسبة له، وهو السكوت عن انتهاكات حقوق الإنسان، جميلا.
حقوق الإنسان عند دعاة الدفاع عنها استخدمت لتمرير طموحاتهم، وإيصال القضاء لحلفائهم، من جهة، وتحقيق نزعة الانتقام لديهم، من جهة أخرى، فهم أي دعاة الدفاع عن حقوق الإنسان، صوروا رئيس مجلس القضاء الأعلى بمنتهك لحقوق الإنسان عندما فكر أن يحيل أحد القضاة للتحقيق بسبب مشاركته بورشة عمل لإصلاح القضاء، وسكتوا عن حليفهم المختار عندما وضع خطوطا للقضاة، ومنعهم من تجاوزها، وهددهم عبر وسائل الإعلام بالتفتيش القضائي، والمحاسبة، والمساءلة، واستخدام الصلاحيات غير الدستورية التي منحه إياها قرار بقانون.
لا بأس من انشقاق داخل مؤسسات حقوق الإنسان، فهناك الغلاة العتاة، وهناك العقلانيون الواقعيون، العارفون بطبائع الأمور ومآلاتها، ويتهمون الأولين بالمتطرفين، ويرون أنفسهم كمسؤولين، أي لديهم مسؤولية واقعية، ولا بأس لذلك أن يقدموا النصح والمشورة، لكن تحت عينهم المراقبة، وإذا حصل وتساءل سائل هل هذا تواطؤ؟، سيشار إلى التقارير والصفحات والمواقع على الإنترنت، وكيف أن تاريخهم البطولي، ومواقفهم العربية الأصيلة، ونظرتهم الثاقبة، تنبئك بما لم تستطع عليه صبرا.
يحدث الانشقاق داخل الصف الواحد، يرون أن هذا اختلاف طبيعي، فهذه هي عينها التعددية المطلوبة في الآراء، المهم أن يكون في إطار الاحترام والتفهم، في الواقع، هم لا يطالبون أنفسهم باحترام اختلاف الآراء، وقد يسعون بكل ما لديهم من أدوات، وما بقي في خزائنهم من أموال، من أجل تسويق الإطاحة بما تبقى من المبادئ والحقوق، ولو تم ذلك في إطار مشاورات شعبية واسعة، يدعى إليها العامل والناشط والفلاح.
ولن يجد سائل جوابا، لماذا ذات المؤسسة، لديها أكثر من خطاب، واحد حقوقي تكتيكي، يبارك الإصلاح خلال ساعات، حتى دون أن يطلع على التفاصيل، ويطمئن الإرادة السياسية أنه ومن معه سيكونون داعمين ناصحين أمينين، وخطاب آخر، يبدو أنه لا يعرف التكتيك، وغير مطلع على خفايا الأمور، يخالف ويصطف مع من يرى أن ما جرى لا يعدو كونه تصفية حسابات لا يمت إلى أية رؤية واقعية، أو توجه محسوب، ولا يقود إلا إلى مزيد من الخراب سنراه بأعيننا بعد قليل.
بالنتيجة، هم لم يدافعوا ولم يسمحوا لسواهم بالدفاع، لم يكتفوا بما اكتفى به غيرهم، مقابل منافع دنيوية ودينية، ومناصب يشار لهم فيها بالبنان. وقد لا يرون أنهم تحولوا لمصفقين ببدلات وياقات، لا اختلاف في المواقف بينهم وبين عتاة الناطقين، همهم الاحتفاء والدفاع، وتلقي التهاني بالاصطفاء في أجسام للتسويق والاستهلاك. وأما المستقبل، وحقوق الإنسان التي يأخذون الأموال أجرا للدفاع عنها، فلها الله، فهي لن يضيرها المزيد من التدهور والانهيار، وستجد الإرادة السياسية من يساندها ويقدم لها الخدمات، فلماذا لا يقوم بها كخبير مختص، في كل شيء، لا يشق له غبار، ويحظى بالمقابل بما قدره له الله من نصيب في شهرة ومال.
لو سئل عامل، أو موظف، أو مزارع، أو مواطن، عن نصيبه من مشاوراتهم وخطابهم التكتيكي الجديد، سيجد أنه استعمل لمرتين، مرة عندما استحضر وكان حضوره وثقته محل اجتزاء، يصل حد مبالغة وتضليل، ومرة عندما كانت حقوقه مجرد رقم في إحصائيات قدمت لولي الأمر، ليحكم ويقرر ويعاقب كيفما يشاء.
وفي المحصلة أخطأ الخطاب مرتين، مرة عندما تحالف مع من انتهك الحقوق وغيب الإرادة العامة، ليظهره في نادي الشرعية والدفاع عن حقوق الإنسان، ومرة عندما انبرى يدافع، ويطاحن، ويبرر دوره المشبوه في الدفاع عن ثقة ليس لها قيمة في قاموس من يتغنى بها، وليست موجودة فيه ولا بمن وظفه، عند مواطن، عند عامل، عند موظف، لا يعنيه صراع على اقتسام غنائم أو استمرار لراتب، أو تصفية حسابات. فلا ثقة في خطاب حقوقي أصحابه لا تعنيهم الحقوق، وخسر دعاة الدفاع عن حقوق الإنسان شرف الدفاع عن المبدأ الذي يأخذون مقابله الأموال، لكن للأسف، نال هؤلاء الدعاة شرف التعيين في اللجان والمجالس التشريفية والتسويقية، وسجلوها كإنجازات، ويجري الآن تحديد موقعها تحت عنوان قصص نجاح.
*باحث في القانون الدستوري وحقوق الإنسان