الثلاثاء  26 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

الثقافة الجسدية لمفهوم التحرش

2019-08-09 11:38:37 AM
الثقافة الجسدية لمفهوم التحرش
تعبيرية

 

 الحدث - مي هماش 

مَنّ يحدد مفهوم التحرش؟ وما هو الحد الجسدي الّذي إذا تم اختراقه يُعد تحرش، وأقصد بالحد الجسدي بما يشمله الجسد من تعبيرات بصرية وحسية ولفظية وجنسية، وكيف يمكن اختزال ظاهرة التحرش بشكل قانوني يحمي المُتعرض له؟

ينشغل العالم بين فترة وآخرى بقضايا التحرش المختلفة، وتختلف كذلك معايير التحرش بين مجتمع وآخر، بناء على مساحة وحرية الأجساد الفردية داخل المجتمع، وأفكار المجتمع عن هذا الجسد، لكن ما يمكن استخلاصه بطبيعة الحال أنَّ هذه الحدود الجسدية بشكل عام تُشكلّها العوامل الاقتصادية من جهة، والدين والثقافة المجتمعية من جهة آخرى.

ما لا نستطيع أنّ نغض الطرف عنه هو أنَّ جسد المرأة إشكالية تاريخية ودينية، وكذلك اقتصادية، شغلت بال العديد من المفكرين باختلاف انتمائهم، وكان الإجماع بين كل هذه الاختلافات على كيفية تسويق جسد المرأة، هل تسويقها بحجاب يحجب جسدها عن الرؤية العامة للآخر (الرجل)، أو جسد تسويقي يتم ضخ الأفكار الاستهلاكية من خلاله.

هذه الأزمة جعلت من جسد المرأة عائقًا أمامها، فهو الانطباع الأول عنها، وكذلك هو المكان الّذي يختزل فيه المجتمع ثقافته وقيمه ومعاييره، لذلك فإن أي مساس بهذا الجسد يعتبر تحديًا لمنظومة مجتمعية كاملة، وأتحدث هنا عن المجتمعات العربية  الإسلامية بشكل أكثر دقة، على الرغم من إمكانية التعميم، وهذا التعميم يمكن فهمه بتقييمنا كمجتمعات عربية لمساحات الحرية وسقف العدالة والديمقراطية في الغرب من خلال تحرر المرأة في لبسها ومجالها العام الّذي تُمارس فيه حياتها، كما يتم دراستنا من قبل الغرب وتقييمنا من خلال النظر إلى جسد المرأة والمسموح والممنوع له.

في المجتمعات العربية الّتي تتغنى بمفاهيم الشرف والمحافظة، تبدو فيه الحدود الجسدية واضحة، وأنا أتحدث هنا عن ما يحدث فوق الطاولة، فما يحدث أسفلها خارج عن النقاش المجتمعي، لأنه يمس عصب الكرامة العربية، فالمجتمع يتعامل مع جسد المرأة بحدود كبيرة على الملأ، ويصفه على أنَّه يمثل كرامته الشخصية، حتى لو لم يرتبط فيه جسد المرأة ارتباطًا مباشرًا، فجسد المرأة عام، يتقاسم الجميع على حمايته أو انتهاكه.

إنَّ ما حدث مؤخرًا في فلسطين على وجه التحديد قلقيلية، من دعوى تحرش ضد طبيب، لم تكن الدعوى الأولى، ولكن ما تبعها من تصعيدات في مواقف نقابة الأطباء للالتفاف حول الطبيب وتبرئته من هذه الدعوى، والضغط المجتمعي عبر وسائل التواصل الاجتماعي لاستكمال التحقيقات القانونية مع الطبيب، لا تضعني كناقدة للوضع العام أمام تحديد موقفي هل لجانب (المدعية)، أم بجانب (المدعى عليه)، لأنّني ببساطة لا أملك المعلومات الكافية من جهة حتى أتخذ موقفًا أُدان عليه، ولا يمكنني أنّ أنساق مع معايير مجتمعية لا أشعر بأنها قادرة على حماية أجساد النساء بشكل عام، كما أنَّ في حالات كهذه فطريًا وبالسليقة يتم اتخاذ موقف شعبوي عام بجانب المدعية لاعتبارات أخلاقية.

لذلك من الأولى أن تُعطينا هذه الظواهر والّتي أعتبرها "ظاهرة صحية" مؤشرات للوقوف عليها وتحليل وتفكيك الحدود الثقافية للجسد، للتعامل مع مفهوم التحرش، ويبدأ هذا التفكيك من فهمنا كبشر في البداية للحدود الّتي يجب على الطبيب أن يلتزم فيها بالتعامل مع أجسادنا، وبالتأكيد هذه الحدود تختلف من طبيب لآخر ومن حاجة لآخرى، لذلك فهذا التفكيك والمعرفة تساهم على الأقل في حفظ شعور الأمان للمريض، وقدرته على التعامل مع الطبيب بسهولة دون الشعور بانتهاكه لجسده، وتساعده مباشرة على وضع الحدود حين حدوث تجاوزات مقصودة أو غير مقصودة.

ويُجبر الطبيب على المعرفة بهذه الثقافة في محصلة الأمر لأنّها طبيعة عمله، وهذه المعرفة يجب أنّ تتحول إلى أخلاقيات مهنية والّتي يقسّم عليها بطبيعة الحال في حال استلام شهادته، فالطب في النهاية هو تشريح وتعامل مع الجسد بشكل مباشر، ولكن من المهم أن تكون الكيفية الّتي يتعامل بها الطبيب مع الجسد تحافظ على الشعور بالأمان والمهنية في العمل.

إنّ الوقوف أمام استكمال الإجراءات القانونية للطرف المُدعى عليه هيَّ إدانة مباشرة باعتقادي، ولا يمكن فهمها بأنّها وسيلة للإساءة إلى الطبيب، بل على النقابة ذاتها متابعة الموضوع والوقوف على تداعياتها، سواء كان هنالك تحرش أو لا، لذلك فإن الموقف الّذي اتخذته نقابة الأطباء يضعها كمنظومة كاملة أمام تساؤلات حقيقة حول المعايير الأخلاقية الّتي يلتزمونها بعملهم.

أما الدور الأكبر في هذه الحادثة، فيجب أن ينصب على الإعلام، الّذي يُعد أداة أساسية لنشر التوعية لفئات المجتمع المختلفة، وتوجيه هذه القضايا نحو نقاش مجتمعي حقيقي يسعى للتغير المادي الواضح، بعيدًا عن التعامل مع جسد المرأة كتابو من التابوهات الّتي تهدد المجتمع باستمرار.