السبت  23 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

انطباعات إدوارد سعيد عن: سارتر، بوفوار، فوكو، دولوز

​ترجمة: سعيد بوخليط

2019-08-21 10:25:52 AM
انطباعات إدوارد سعيد عن: سارتر، بوفوار، فوكو، دولوز
إدوارد سعيد

 بدعوة من جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار، توجه المفكر إدوارد سعيد إلى باريس سنة 1979، بهدف تبادل الأفكار حول موضوع السلام في الشرق الأوسط. غير أن توقعات صاحب كتاب ''الاستشراق'' خابت، فلم يكن الفيلسوف الذي سيلتقيه بطلا حقيقيا لمعذبي الأرض.

ملاحظات وانطباعات وثقها إدوارد سعيد من خلال مقالة صدرت في أبريل 2000 في جريدة الأهرام ''المصرية''، ثم  تُرجمت إلى اللغة الفرنسية عبر صفحات جريدة ''لوموند ديبلوماتيك'' إبان شهر أيلول من نفس السنة. 

جاء مضمون البرقية إلى إدوارد سعيد كما يلي: "تتوجه إليكم مجلة الأزمنة الحديثة بدعوة للحضور إلى باريس يومي 13 و14 من هذه السنة قصد المشاركة في لقاء يتوخى بحث موضوع السلام بمنطقة الشرق الأوسط. نترقب جوابكم. توقيع سيمون دي بوفوار وجان بول سارتر". لا يمكننا تخيل مدى الإحساس الذي غمر إدوارد سعيد حينما تلقى رسالة من هذا النوع بداية يناير 1979.

ولد إدوارد سعيد في فلسطين، ثم هاجر في ريعان شبابه نحو الولايات المتحدة الأمريكية، فأصبح أحد أساتذة الأدب المقارن المرموقين في جامعة كولومبيا في نيويورك وأحد أهم المفكرين المدافعين بكيفية أفضل عن القضية الفلسطينية. عرف بأعماله عن العلاقة بين المعرفة والسلطة، بمعنى توظيف الثقافة بهدف تكريس الهيمنة السياسية. بين صفحات كتابه وأشهر مؤلفاته "الاستشراق"؛ وصف إدوارد سعيد الطريقة التي تمكن من خلالها المستشرقون إعطاء أساس علمي للهيمنة الإمبريالية على الشرق الأدنى.

كان سياق المرحلة مميزا، فالمقاومة الفلسطينية التي حملت لواءها منظمة التحرير الفلسطينية بزعامة ياسر عرفات أبلغت عن ما يجري في المنطقة إلى كل أرجاء العالم.  إدوارد سعيد نفسه، التحق بعضوية المجلس الوطني الفلسطيني سنة 1977، أما بخصوص جان بول سارتر؛ فقد جسَّد مرجعية لجيل بأكمله من المثقفين العرب.

علاوة على مجال التأمل الواسع الذي يشمله فكر صاحب كتاب الكلمات؛ حظيت الفلسفة الفرنسية بالتقدير نتيجة انخراطها النضالي كي تحقق المستعمرات القديمة استقلالها. موقف سارتر من القضية الجزائرية ارتقى به إلى رمز لالتزام سخي من طرف الأنتلجنسيا الأوروبية فيما يتعلق بمصير الشعوب المضطهَدة. وفي هذا الإطار تظل مقدمته لكتاب فرانز فانون "معذبو الأرض" إحدى النصوص المناهضة للكولونيالية الأكثر شهرة. هكذا أضحى سارتر طبعا بمثابة وثيقة يستشهد بها المثقفون العرب والفلسطينيون، ضمنهم محمود درويش، فيما يتعلق بنضالهم من أجل الاستقلال.

تفاجأ إدوارد سعيد عندما بلغته الرسالة في مقره بنيويورك، بقوله: "اعتقدت بداية أن الأمر يتعلق بمزحة أن شخصا نكرة تصله رسالة مدهشة من طرف رمزيين أسطوريين"، لكن بعد تدقيقات معينة تأكد المفكر من صحة الرسالة ثم سافر إلى باريس.

حين وصوله، اكتشف في الفندق كلمة مقتضبة كأنها لغز: لأسباب أمنية، لن تنظم الندوة في المكان المحدد سلفا، بل عند ميشيل فوكو. هذا التغيير المفاجئ للعنوان ستعقبه خيبات أخرى،عندما ولج  إدوارد سعيد الفلسطيني المنحدر من القدس، بيت فوكو، صادف إلقاء سيمون دي بوفوار لكلمتها وهي تزيد وترغي حول موضوع آخر يتعلق بارتداء الشادور في إيران، ثم وضعية حقوق الإنسانية التي لا تطاق في هذا البلد".

زارت بوفوار سابقا إيران، واضعة فوق رأسها عمامتها الشهيرة، تقدم حاليا لمن يريد الإصغاء إليها محاضرة حول إقامتها في طهران رفقة كيت ميليت، حيث أبديتا استعدادهما للتظاهر ضد رداء الشادور. صدمني الحضور بسبب استسلامه الأرعن، ورغم تطلعي لمعرفة ماتود قوله؛ فقد لاحظت بأنها كانت خاصة معتزة بنفسها، غير مستعدة لحظتها لأي نقاش. ثم غادرت بوفوار اللقاء بعد مرور ساعة تقريبا (تحديدا قبل مجيئ سارتر) ولم ألتقيها بعد ذلك قط".

نستعيد مع تفاصيل هذه الواقعة السجالات الحالية في المجتمعات الأوروبية، خاصة فرنسا؛ بحيث يرى اليوم مناضلات الحركة النسائية في مسألة الحجاب بمثابة إحدى السمات الكبرى للإسلام عن الاضطهاد البطريركي اللامتسامح فيما يتعلق بلباس النساء. رأي ينازعه موقف تيارات نسوية أخرى تعتبر سونيا دايان هيرزبرون وكريستين ديلفي من أبرز وجوهه وأكثرهن شهرة.

الموقف الذي مثلته سيمون دي بوفوار بهذا الخصوص، حافظ على نوع من التماسك الأيديولوجي منذ زمان بعيد، بالضبط حينما أصدر فيكتور هيغو سنة 1829 مجموعته الشعرية ''الشرقيون" بعد زيارته للمنطقة.

يرصد عمل فيكتور هيغو مشاهد من حياة الشرق منشطرة بين الحماسة والإدانة: "صرخة حرب المفتي" قصيدة تصور مظاهر شرق نعثر عليه ثانية في أشعار ''سارة المستحمة'' و"السلطانة المحظية'' و''الحجاب''، التي تحيل على تمثّل للمرأة الشرقية صار أبديا جراء ترسخه عميقا في الخيال الأوروبي الجماعي : ماذا حدث لأخت أربعة أشقاء ذكور، فقدت شرفها في شرق ذكوري وعنيف؟

"عفوا! ماذا فعلتُ؟ عفوا! عفوا!

ياإلهي! أربعة خناجر في خصري!

آه! أقبِّل أقدامكم.

يا غطائي! يا غطائي الأبيض!

لا تتركوا يدايّ النازفتين

يا إخوتي، اسندوا قدميّ!

فأمام نظراتي التي خمد بريقها

يمتد حجاب من الموت…

لم تقف خيبة المثقف الفلسطيني عند سيمون دي بوفوار، لأن أحاديثه مع ميشيل فوكو ستشعره أيضا بالإحباط، أظهر فوكو جل ودِّه نحو إدوارد سعيد، والأخير استلهم منه تأملات كثيرة حول الخطاب. يقول: "كان فوكو حاضرا، لكنه أوضح لي بكيفية سريعة جدا، أنه لا شيء لديه يمكنه الإدلاء به حول موضوع الدعوة، وأنه مضطر للمغادرة فورا نحو الخزانة الوطنية، كما يفعل كل يوم متفرغا لمشاريعه البحثية، لكن فقط فيما بعد (تقريبا عشر سنوات على وفاته سنة 1984) أدركت حقيقة سبب عدم رغبة ميشيل فوكو كي يتبادل معي وجهات النظر بخصوص موضوع الشرق الأوسط… فترة قليلة بعد صدور مقالاته، لم يتردد في الابتعاد عن المشهد. عموما، أخبرني دولوز، أن أواصر صداقته الحميمة مع فوكو انتهت مطلع سنوات الثمانينات، نظرا لتباين وجهتي نظرهما حول القضية الفلسطينية. فقد انحاز فوكو إلى جانب إسرائيل، بينما تمسك دولوز بموقفه الداعم للفلسطينيين، بالتالي، ليس مستغربا تجنب فوكو مناقشة موضوع من هذا القبيل، سواء معي أو شخص آخر! ".

لا ينفرد فوكو بموقفه من القضية الفلسطينية، بل شاطره الرأي عدد كبير من المثقفين الفرنسيين، ومع ذلك وجدت استثناءات تستحق الذكر: المؤرخ بيير فيدال ناكي، جيل دولوز، أو جان جينيه الذي عاش مع الفلسطينيين؛ ولعل نصه أربع ساعات في شاتيلا وكذا يوميات أسير عاشق شكلت شهادة عن جنيه المدافع المتحمس عن القضية الفلسطينية.

إن اتسم لقاء إدوارد سعيد مع بوفوار وفوكو بالفشل، فلا يمكن مقارنة الوضع بالانطباع الذي خلفه الاجتماع بجان بول سارتر: "ظهر أخيرا الرجل الكبير، بعد الموعد المقرر، فاندهشت وأنا أتبيَّن مدى تقدم سنه ووهن صحته، أتذكر ما بدا لي فورا وبشكل جلي، أن سارتر كان باستمرار محاطا ومستندا ومتحمسا بفضل حاشية صغيرة يعتمد عليها كليا، وترتيب نشاطه المحوري".

خلال تلك الحقبة، بلغ سارتر أربعة وسبعين عاما، بالتالي كان مرهقا من الناحية الجسدية. وقبل هذه اللحظة بست سنوات، ظل سارتر بصحبة سكرتيره بيير فيكتور، وبقيت هذه الصداقة المفترضة موضوع سجال ما دام أن بيير فيكتور، واسمه الحقيقي بيني ليفي، سيصدر بعد وفاة سارتر سلسلة حوارات تحت عنوان : الأمل الآن. تضمنت تصريحات أخرى لسارتر تناقض مواقفه السابقة، بهذا الخصوص عاتبت سيمون دي بوفوار على ليفي بيني، لكونه أرغم سارتر على الإدلاء بتلك المواقف المعتوهة في حين تحدث إيمانويل تود عن ''خرف الشيخوخة''.

استمر إدوارد سعيد مرتابا بخصوص التأثير الذي مارسه بيير فيكتور على سارتر لحظة اجتماعه به؛ أن صورة سارتر المدافع الثائر عن الشعوب المقهورة لم تكن لامعة حينئذ كما يفترض: "خلال اليوم الأول، كانت نقاشاتنا حول السلام قليلة نسبيا. حدد بيير فيكتور محاور النقاش، دون استشارته لأحد حسب تقديري. هكذا أحسست منذ البداية، بأنه أسرع  نحو تثبيت إطار العام، مستندا على علاقته المتميزة مع سارتر (تبادل معه بين الفينة والثانية أحاديث مهموسة)، ثم أيضا نتيجة ثقته الزائدة في ذاته. إذن بحسبه، يلزمنا مناقشة المحاور التالية: 1- قيمة اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل، يحيل سياق المرحلة على اتفاقية كامب ديفيد . 2 – السلام بين إسرائيل والعالم العربي عامة. 3-بلورة معطيات واضحة بشكل عميق أكثر، تهيء لإمكانية التعايش بين إسرائيل والعالم العربي المحيط بها".

هكذا اتضح بالنسبة لإدوارد سعيد عدم التطرق للمشكلة الفلسطينية ما دامت الندوة انعقدت على نحو يمنح امتيازا للجانب الإسرائيلي. كم كان المنظمون أنذالا حينما أقدم على توقيف أشغال الندوة! كي يطلب من جان بول سارتر التعبير بصراحة عن موقفه الشخصي من الصراع. اضطربت الحاشية المقربة من الفيلسوف الفرنسي، وجاءت ردة فعلها قلقة بقدر سخافتها كذلك، يقول إدوار سعيد: "ألححت كي أسمع فورا رأي سارتر، مما خلق حالة ارتباك لدى أتباعه، توقفت الندوة قصد التداول في الأمر الطارئ. تنبغي الإشارة بأن الحضور انقسم حسب اعتقادي بين مكوني الهزلي والتراجيدي، ما دام سارتر نفسه بدا مفتقدا لموقف معين  يبرر قرار مشاركته! في النهاية، أخذ المبادرة المدعو بيير فيكتور، كي يخبرنا غاضبا وبنبرة غير سعيدة، مع كل مظاهر الفخامة الجديرة بسيناتور ينحدر من العهد الروماني: ''سارتر، سيتكلم غدا".

أخيرا ألقى سارتر خطابا، يشبه تقريرا رسميا يوثق لمعطيات الحاضر أكثر منه وجهة نظر شخص يدافع عن قناعات، بالنسبة لإدوارد سعيد، بقي مؤلف كتاب الغثيان تحت تأثير مستشاره – بيير فيكتور - الذي تصدى لكل موقف قد يتبناه الفيلسوف لصالح الفلسطينيين.

لم تكشف مقالة إدوارد سعيد فقط عن انقياد سارتر خلف بيير فيكتور؛ بل توجيه حيثيات النقاش، مضمونه وتفاصيله. ويستطرد المفكر الفلسطيني، بأن المثقفين العرب كانوا أقل عددا  مقارنة مع المثقفين المناصرين للطرح الإسرائيلي. ملخص وقائع الندوة الصادر في مجلة الأزمنة الحديثة، امتدحت فقراته أنور السادات، العربي الطيب، حسب توصيف خلاصة الندوة، التي انتهت إلى قرارات عبثية وتافهة. في حين استبعدت محاور الندوة معاناة الشعب الفلسطيني وكذا المصير التراجيدي الذي ينتظره.

غادر إدوارد سعيد فرنسا يجر خلفه أذيال الخيبة: "بالفعل تمسك سارتر بوفائه الجوهري لفلسفته الصهيونية، إما تفاديا لوصفه بمعاداة السامية، أو إحساسه بالذنب حيال ذكرى المحرقة، أو رفضه أساسا تبني تصور يعتبر الفلسطينيين ضحايا يصارعون الظلم الإسرائيلي، أو نتيجة لأي سبب آخر يستحيل الإحاطة بخبايا الموضوع. ما بوسعي معرفته، أن سارتر وقد بلغ الشيخوخة، لم يكن مختلفا كثيرا عن مراحله السابقة، نفس المنبع الموجع لخيبة كل عربي، باستثناء الجزائري، الذي يستحسن مواقف سارتر الأخرى وكذا نتاجه".

من جهة أخرى، توضح جيدا عودة إدوارد سعيد لوقائع هذه الندوة استلاب الفلاسفة الفرنسيين الجدد بخصوص تصورهم عن الصراع في الشرق الأوسط؛ بحيث انتهزوا فرصة الانشغال بانتقاد المواقف السياسية للأنتلجنسيا الشيوعية، كي يتجنبوا كل نقاش ينصب حول القضية الفلسطينية، واضعين نصب أعينهم ابتزازا من الصعب تجنبه: يمثل دعم الفلسطينيين عنوانا للراديكالية الإيديولوجية، مثلما ينطوي بالضرورة على آثار تهمة معاداة السامية، إذن المسألة متداخلة.

مرجع المقالة: 

La revue du comptoir : 21 février 2018