الحدث- جهاد الدين البدوي
ما يرجحه الخبراء حالياً، أنه لا يوجد رابحون في الحرب التجارية بين واشنطن وبكين، ولكن التاريخ يخبرنا أنه في بعض الأحيان يكون هناك رابحون وخاسرون من الحرب التجارية.
عادة ما تنتهج الولايات المتحدة سياسات عنيفة في التعامل مع الاقتصادات المنافسة حال استشعرت بالخطر على هيمنتها الاقتصادية، وهو ما حصل بالفعل مع اليابان في ثمانينيات القرن الماضي، حين كانت اليابان في أوج قوتها ونهوضها وتوسعها الاقتصادي العالمي وكان ترتيبها ثاني اقتصاد في العالم بعد أمريكا.
في عام 1980 بلغ العجز التجاري الأمريكي 18 مليار دولار، وتضاعف بشكل غير مسبوق عام 1987 إلى 151 مليار دولار، وهو ما خلق تحذيرات لدى الأمريكان من الصعود الياباني في ظل تزايد العجز التجاري الأمريكي، وهو ما حملهم لاتهام اليابان آنذاك بسرقة الملكية الفكرية الأمريكية، والاستفادة من الصفقات التجارية بشكل غير عادل.
في ذلك الوقت فرضت واشنطن العديد من القيود على اليابان وكان أبرزها؛ فرض رسوم جمركية بنسبة 100%، خاصة على صادرات اليابان من الصلب، وطلبت واشنطن حينها من اليابان تقنين صادراتها من السيارات والإلكترونيات وأشباه الموصلات.
استمرت الحرب التجارية بين البلدين لنحو عقد من الزمن، وحققت واشنطن انتصارا تكتيكياً حين وقعت اليابان وأمريكا ودول أوروبية اتفاقية بلازا عام 1985، التي تنص على خفض قيمة الدولار مقابل الين الياباني وبعض العملات الأوروبية، والذي أدى بدوره إلى الإضرار بصادرات اليابان وخفض مستوى العجز التجاري الأمريكي.
شكل اتفاق بلازا منعطفاً جديداً للهيمنة الاقتصادية الأمريكية وبداية للركود الاقتصادي الياباني في بداية التسعينيات، وهو ما شجع الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب لبداية حرب تجارية ثانية ولكن على الصين هذه المرة، طامعاً بتحقيق نصر جديد كما حققه سلفه الرئيس رونالد ريغان.
حمل انتصار واشنطن على اليابان في حربها التجارية آنذاك عوامل متعددة، ناهيك عن التفوق الاقتصادي الأمريكي، وكان مستوى التفوق العسكري الأمريكي على اليابان كبيراً جدا ما دفع طوكيو إلى التسليم بعدم الدخول في صراع اقتصادي ربما يصل مداه إلى حرب عسكرية وهو ما لا تقوى عليه اليابان. إضافة إلى ذلك؛ كانت اليابان تعتمد كلياً على أمريكا سياسياً واقتصادياً وعسكرياً بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية.
وعند النظر في ظروف الحرب التجارية الأمريكية على اليابان وظروفها اليوم على الصين؛ فهناك عدة فروق تدعم صمود الصين في مواجهة الهيمنة الاقتصادية الأمريكية، فالصين تمتلك اليوم قوة اقتصادية هائلة مقارنة بما كانت تمتلك اليابان قبل 3 عقود، وهو ما جعل الصين أكثر صموداً في مواجهة الحرب الأمريكية، ناهيك عن أن الظرف الدولي اليوم يدعم الصين في صعودها الاقتصادي، وبات العالم بأسره لا يقوى على خلق بدائل عن الصناعات الصينية التي تمتاز بالجودة العالية والسعر المنخفض.
لعبت وستلعب مستقبلاً علاقات الصين الاقتصادية العالمية في تقويض الحرب التجارية الأمريكية، كونه من السهل على الصين خلق بدائل عن السوق الأمريكي، إضافة إلى أن الصين اليوم تعتبر مركزاً عالمياً لتصدير مختلف التكنولوجيات ذات الجودة العالية، وتعمل الصين حالياً على تطوير قطاعاتها الصناعية والتكنولوجية بحيث تكون بمستوى الأمريكية أو متفوقة عليها في المستقبل المنظور حسب المخطط الاستراتيجي الصيني، وهو ما بتنا نتلمسه من الآن.
استفادة الصين كما الولايات المتحدة الأمريكية من تجربة الحرب التجارية على اليابان، ولكن الظروف الدولية والمحلية الصينية والأمريكية تدعم الصين في مواجهة سياسات الإدارة الأمريكية، فقد برز تيار معارض كبير داخل الولايات المتحدة ينبه من مخاطر الاستمرار في الحرب مع الصين، لتوسع دائرة التكاليف الباهظة بداية على المواطن الأمريكي مروراً بالشركات الأمريكية الصغيرة والذي سيؤثر سلباً على الاقتصاد الأمريكي.
تتمتع الصين بقوة اقتصادية وعسكرية وسياسية هائلة تمكنها من تحمل تكاليف الحرب التجارية مع أمريكا، وتحميها من أي حماقة عسكرية أمريكية.
كما أن اليابان كانت الخاسر الوحيد من الحرب التجارية مع أمريكا، لمحدودية قدراتها في التصدي للحرب الأمريكية، ولكن الحرب على الصين اليوم كلفت أمريكا مئات المليارات، ووصل نارها للمواطن الأمريكي الذي بات يدفع تكاليف هذه الحرب، فخسارة السلع الصينية رخيصة الثمن سيكون بديلها المحلي أو حتى الأوروبي باهظ الثمن وهو ما سيدفع من جيب المواطن الأمريكي، ناهيك عن خسارة الشركات الأمريكية.
لدى الصين عوامل عديدة لمواصلة التصدي للحرب التجارية الأمريكية، فلدى الصين سوق محلي هائل، وبدائل دولية عن السوق الأمريكية، وهو ما يقوض الحرب الأمريكية ويرجح فرص نجاح الصين على حساب أمريكا.
في نهاية المطاف، إن الصين ليست كاليابان، وأمريكا اليوم ليست كأمريكا في الأمس، وهو ما يضعف حظوظ واشنطن في تحقيق نصر في الحرب التجارية على الصين، كل المؤشرات المستقبلية تعطينا تصوراً عن الخسارة الأمريكية في المستقبل البعيد، وخسائر حالية تستنزف قوة الطرفين، ما تحتاجه بكين لتحقيق نصر حاسم مع واشنطن خلال السنوات المقبلة هو الحكمة والذكاء في التعامل مع الإدارة الأمريكية، وإصلاحات هائلة في الداخل على المستوى السياسي والاقتصادي والصناعي والتكنولوجي، وعلى المستوى الخارجي على بكين انتهاج سياسات دبلوماسية من شأنها تعزيز الشراكة الاقتصادية مع دول العالم لتقليل الخسائر التي منيت بها مع أمريكا.