الحدث: د. غسان الطوباسي
لم يعد يخفى على أحد أن مجتمعنا الفلسطيني يراوح مكانهُ في منظومة المفاهيم الاجتماعية والسلوكية والأخلاقية منذ إنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية حتى يومنا هذا.
إن المراقب البعيد وعندما يتابع ما يكتب من أفكار وآراء بالإعلام وفي مواقع التواصل الاجتماعي؛ يعتقد أن هذا المجتمع يتقدم ويسير إلى الأمام ليلحق بركب المجتمعات المتقدمة والمتحضرة.
إن السلطة الوطنية الفلسطينية والتي تقودها حركة فتح، من المفترض أن تؤسس لمجتمع مدني قائم على فصل السلطات ويعزز مفهوم المواطنة ويحمي الحريات العامة، هذا على الأقل ما هو مكتوب في النظام الداخلي للحركة بل وأكثر من ذلك عندما تتحدث الحركة عن طموحها نحو بناء الدولة الفلسطينية العلمانية؛ ففي استطلاع رأي أُجري في الأراضي الفلسطينية على أيدي خبراء محترفين يُعرف 58% من أنصار حركة فتح أنفسهم بأنهم متدينون وأن 11% منهم علمانيون، كما يفضل 66% من أنصار فتح دولة يحكمها الدين بينما 26% من أنصار حركة فتح يفضلون الدولة العلمانية، كما و33% من أنصار الحركة نفسها يرون أن المصدر الرئيس للقانون يجب أن يكون القرآن والسنة، بينما 15% فقط من أنصار فتح يرون أن القانون المدني هو المصدر الرئيسي، وهكذا إلى مجموعة كبيرة من الإجابات والتي تتقاطع كثيراً مع مؤيدي حماس من مجمل قضايا الفهم الاجتماعي والتوجهات الوطنية والمدنية، فالهامش قليل في تعريف الهوية والحقوق المدنية وغيرها.
إن أساس المشروع الوطني الفلسطيني يكمن أصلاً في بناء الإنسان الفلسطيني بهوية وطنية بكل معانيها ومكوناتها، ولكن للأسف ما وصلنا له الآن هو تراجع خطير من ناحية تغليب العقلية القبلية والعشائرية على حساب المواطنة ودولة القانون.
إن الجزء الكبير من شعبنا للأسف يعيش ازدواجية في المعايير الفكرية والسلوكية وهو في أغلب الأحيان يدّعي أنه يحمل فكراً وطنياً حضارياً وديمقراطياً، ولكن ليس لهذهِ الأفكار حقيقة على أرض الواقع، وطبعاً هذا ينسجم مع قطاعات واسعة أفراداً ومؤسسات وقوى سياسية، وأخص هنا مفهوم الديمقراطية بكل معاييرها، المساواة ومبدأ الحريات العامة وسيادة القانون المدني.
إن المشكلة الرئيسية هنا لا تكمن في الفرد، ولكن المسؤولية الأساس تقع على السلطة الحاكمة والتي واجبها صقل المواطن وفرض القانون بعيداً عن الموروث المجتمعي والديني والذي في كثير من الأحيان يتناقض مع القانون المدني، ومثال ذلك خطوة إزالة الديانة من الهوية الشخصية والتي من المُفترض أن تكون خطوة نحو فصل الدين عن الدولة وإظهار المساواة والمواطنة الواحدة ولكن للأسف لم تُقدم السلطة على أي خطوة لاحقة في هذا الصعيد، بل من الممكن أننا نسير إلى الخلف لتبقى هي والمجتمع أسرى القيود التقليدية الموروثة.
ونظرة سريعة إلى المحيط، نرى بأننا في فلسطين نعتمد النموذج الأردني أو المصري في منظومة القوانين والسلوكيات المجتمعية، وهذهِ أمثلة فاشلة ولم تُحقق النجاح والتقدم.
إن الاحتلال الاسرائيلي وما سببهُ لنا على مدار 50 عاماً من مآسي وكوارث؛ قد يكون هو أحد أهم أسباب تأخرنا وتخلفنا، إلاّ أننا لم نسهم حقاً على مدار 20 عاماً في بناء نظام مؤسساتي يعتمد نظاماً تعليمياً وصحياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً يراعي المستوى الحضاري في المنطقة ويحترم التضحيات الجسام على مدى قرن أو أكثر من الزمن.
ليس الاحتلال هو العائق أبداً في بناء دولة المؤسسات والقانون ولكن العقول المتحجرة والتي تعيش حالة الانفصال الفكري هي العائق، وإذا بقينا هكذا أسرى المُعتقدات والموروث التقليدي ولم نقم بثورة فكرية وأخلاقية وتعليمية متطورة وحضارية، لن يكون مستقبل أبنائنا بخير.