ماذا يريد الاحتلال من ميس أبو غوش وزكريا زبيدي؟ قد تكون إجابة الاحتلال "أمنيَّة"، وليس من الحكمة، هنا، إجلاس نوايا العدو، تقريرياً، على قدمين من يقين؛ كما إنه ليس من الحكمة مساءلته، استنكارياً، عن جرائم الاعتقال وغيرها، خارج محكمة لا تمنح الضحية الفلسطينية، حق المرافعة ضد الجلاد وحسب، بل وتنصفه بحق محاسبته، لتتحقق العدالة، ويكون للفلسطينيين "سبتُ تاريخٍ" يخصُّهم. أما فلسطينياً، فالسؤال برسم مقاربة وطنية -إنسانية، لا يفهمها الاحتلال، ولا يريد أن يفهمها، ولن يفهمها: فأسفار المأساة الفلسطينية تبدأ بـ"الخروج" لا بالتكوين؛ و"أنشاد" الفلسطينيين لعودتهم إلى بلادهم-الحبيبة؛ و"الجامعة" سِفرٌ لم يسرقوه من الفرس ولا من الإغريق، فحكايتهم التاريخية محفورة على أجسادهم التي لا تزال تشهد نكبتهم المستمرة، وهي تؤرَّخها. والأسرى الفلسطينيون، وكلُّ الفلسطينيين أسرى، هم أبناء هذه المعاناة التي تختزنها مدوَّنات المخيم والسجن والمقبرة-الجغرافيات الفلسطينيَّة المهمَّشة التي تحفظ الفحوى المستمرة للقضية الفلسطينية بوصفها تاريخ نضال حركة التحرر الوطني الفلسطيني الأصلانية ضد حركة الاستعمار الاستيطاني الصهيونية ودولتها المارقة.
ربما تحتاج هكذا إجابة إلى التفاتة خاصة لكون الأسيرين، ميس وزكريا، من طلبة جامعة بيرزيت-"ثمرة الجوز العصيَّة على الكسر" و"الهيكل الروحي للفكرة الفلسطينية" و"مكتبة السلاح"... كما يراها الصهاينة ويصوِّرونها، ولكن محورة النقاش حول سجال "الحرية الأكاديمية" و"تدمير البنية التحتية لمؤسسات المعرفة الفلسطينية"، وغيرهما من مسوِّغات حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها، لا ينجز المهمَّة، رغم ما لذلك من وجاهة. ذلك أن ممارسات القتل، والخطف، والأسر، والاقتحام، وإعاقة الحركة، والتضييق... على مجتمع جامعة بيرزيت له تاريخ قيل فيه الكثير. أما هذه المقاربة، وبعيداً عن الشِّعارية والأسطرة، فتركز على التعريف بـ"حالتين" عينيَّتين لأسيرين، رغم ما بينهما من فارق السن والتجربة، ينتميان إلى عائلتين كان لهما حظ وافر من المعاناة في نكبة الفلسطينيين المستمرة، وعاشا تجربة "جامعة بيرزيت"، فانكتب تاريخ المعاناة على جسديهما، واعتُقلا لأنهما فلسطينيَّين، ولأنهما إلى فلسطينهما يعرفان الطريق. وهذه سيرة لهما، جماعية بصيغة الإفراد.
ولدت ميس أبو غوش ميس 11 آب 1997، لعائلة فلسطينية لاجئة من قرية عمواس، قضاء الرملة، المطهَّرة عرقياً ضمن قرى اللطرون في العام 1967. وقد لجأت العائلة إلى مخيم قلنديا، وفيه أسست ما أمكن من حياة. وقد بدأت ميس مسيرتها التعليمية في رياض القدس ومدارسها، لتنتقل، بعدئذ، إلى مدارس رام الله والبيرة. وميس فتاة عصاميَّة حصَّلت مصاريفها بالكدح في وظيفتين، صباحية ومسائية؛ ورياضيَّة برعت في كرة السلة، ودخلت جامعة بيرزيت بتحصيل دراسيٍّ رفيع ودعم من منتخب فلسطين لكرة السلة، على خلاف رغبة الأهل الذين رأوا فيها رسَّامة بارعة. درست الهندسة الكهربائية لسنة واحدة، رغم رغبتها الجارفة بتحصيل درجة في الإعلام من الجزائر أو كوبا.
كانت ميس في انتظار بدء الدراسة في 25 كانون الثاني 2016، حين تعرَّفت أختها على أخيهما حسين أبو غوش (17 عاماً) على شاشة التلفزيون، بعد تنفيذه عملية فدائية مع رفيق دربه إبراهيم علان (23 عاماً) في مستوطنة "بيت حورون" المقامة على أرضي قرية بيت عور، مؤدِّية إلى مقتل مستوطنة وجرح آخرين. استشهد الرفيقان، وباشرت سلطات الاحتلال الصهيوني إجراءاتها في ترويع عائلة أبو غوش، وأخذ مقاسات البيت لغرض هدمه. لم تفرج سلطات الاحتلال عن جثمان الشهيد إلا بعد أربعة أيام، مسلِّمة العائلة إخطار هدم للبيت، لم يحل الاستئناف دون تنفيذه في نهاية شهر آذار 2016، بعد أن أفرغت العائلة بالكاد متعلِّقاتها من البيت، وكلُّه متعلِّقاتها. وخلال تحضيرات العائلة لذكرى تأبين حسين، في الخامس والعشرين من كانون الثاني 2017، نفَّذ ابن عم الشهيد، واسمه كذلك حسين أبو غوش، عملية فدائية على مفترق مخماس واستشهد فيها، انتقاماً لابن عمه. وفي الآن نفسه، رزقت العائلة بمولود جديد أسمته "زين الحسين." وفي 28 آب 2019، اعتقلت قوات الاحتلال الصهيوني ميس، وهي في سنتها الأخيرة في تخصص الإعلام وعلم الاجتماع في جامعة بيرزيت، ولا تزال قيد الاعتقال في مركز المسكوبية في القدس المحتلة، حيث عاودت سلطات الاحتلال اعتقال أخيها الفتى سليمان.
أما زكريا زبيدي، فقد ولد في 19 كانون الثاني 1976 لعائلة لاجئة من قيسارية، قضاء حيفا، انتقلت في العام 1948 إلى وادي الحوارث، قبل أن تُهجَّر على أيدي العصابات الصهيونية إلى مخيم جنزور، ومن ثم إلى مخيم جنين. وقد بدأ تاريخ العائلة النضالي على يد جدِّه الذي التحق بصفوف الثورة الفلسطينية في العام 1967، وألقي القبض عليه وحكم بالمؤبد، قبل أن ينجح في الهروب من سجن شطة بعد عام على أسره. وقد سافر والد زكريا إلى الأردن لاستكمال الدراسة هناك، حيث تزوج والدته، لتبدأ العائلة معاناة "لم الشمل" التي استمرت عشر سنوات قبل التمكن من العودة... وقد شهد زكريا معاناة العائلة في التنقل على ضفتي النهر ومعاملة الصهاينة المهينة لعائلته، وفي العام 1986، اعتقل والده وبقي في الأسر ثلاث سنوات.
ومع اندلاع انتفاضة الحجارة في 1987، شارك زكريا في مقاومة الاحتلال، وأصيب بطلق ناري في ساقه اليمنى في العام 1988، واعتقل ستة أشهر، حيث تأطر وعيه الوطني في الجلسات التنظيمية في سجني الفارعة ومجدُّو. لكن الأسر لم يثنه، بعد التحرر، عن تشكيل مجموعات الأشبال من أبناء جيله للمشاركة في الانتفاضة، حيث اعتقل، ثانيةً، في العام 1989، وحُكم أربع سنوات ونصف بتهمة إلقاء زجاجات حارقة على قوات الاحتلال، وإعداد قنابل محلية الصنع. وبعد تحرره، التحق بأجهزة السلطة الفلسطينية حتى العام 1998. وإثر اندلاع انتفاضة الأقصى في العام 2000، شارك زكريا في تأسيس وقيادة كتائب شهداء الأقصى، وخاض معركة مخيم جنين في نيسان 2002، حيث استشهدت والدته سميرة وأخوه طه وابن عمته زياد العامر، فضلاً عن ابن عمته نضال أبو شاذوف الذي استشهد في العام 2001، وجدِّه محمد زبيدي الذي اغتيل في ألمانيا. لكن زكريا قرر ألا يسلَّم نفسه، وواصل النضال حتى العام 2012، حيث أصيب بتسع رصاصات في المحاولات المتكررة من الوحدات الصهيونية الخاصة لتصفيته أو اعتقاله، وانفجرت في وجهه عبوة ناسفة لا تزال آثارها على جسده حتى اليوم. وقد أُسر إخوة زكريا: يحيى، وداوود، وعبد الرحمن، وجبريل فترات متفاوتة بين ستة 6-17 سنة، وبلغ مجموع سنوات الأسر لأفراد عائلة زبيدي في سجون الاحتلال قرابة سبعين عاماً، بالإضافة إلى هدم بيوت العائلة ثلاث مرات بين الأعوام 1988-2004.
تم احتجاز زكريا في مراكز السلطة الفلسطينية وسجونها قرابة سبع سنوات بدعوى حمايته من التهديدات الصهيونية بالاغتيال، أو الاعتقال، أو ضمن شروط "العفو" الصهيوني... ليخرج في العام 2016، ويستأنف عمله الوطني في هيئة شؤون الأسرى والمحررين، وفي المجلس الثوري لحركة التحرير الوطني الفلسطيني-فتح. أما على المستوى التعليمي، فقد أتم زكريا دراسته في مدارس المخيم ومدينة جنين؛ وأنهى درجة البكالوريوس في الخدمة الاجتماعية من جامعة القدس المفتوحة؛ ومن ثم التحق ببرنامج الماجستير في الدراسات العربية المعاصرة في جامعة بيرزيت حتى أسره في 27 شباط 2019، ولم يتبق عليه إلا إنجاز أطروحته اللافتة، بعنوان: "الصياد والتنين: المطاردة في التجربة الوطنية الفلسطينية من 1968-2018." ولا يزال أسيراً في سجن "جلبوع" في انتظار "المحاكمة".
في مساق "دفاتر العودة-الحركة الفلسطينية اللاجئة"، وكانت ميس وزكريا ملتحقين به، سُئل الطلبة أن يرسموا "الخطوط العريضة لـ "مشروع العودة" إلى بلادهم المطهَّرة عرقياً في العام 1948، بوضع سيناريوهات للعودة الفردية، وإمكانية تعميم نموذج "مشروع العودة" على كامل جغرافيات فلسطين التاريخية في إطار العودة الجماعية".
كتب زكريا مشروع عودته إلى قيسارية، مؤكِّداً أنه "قبل التصور العام للعودة، والبحث في الآليات والتفاصيل التي ستنتج عنه، يجب أن يكون واضحاً ما هي الطريقة التي من خلالها ستتم العودة" وأن "الطريقة المثلى للعودة هي عودة المنتصر". اختصر زكريا الإجابة أن العودة الفردية هي لا-عودة، أو بالكاد "رجوع" أو "عودة مجازية"، كما أشار محمود درويش، مرَّة. وأن العودة الوحيدة الحقيقية هي العودة الجماعية. لكن زكريا عبَّر عن ذلك بأسلوب مختلف، إذ ثمة عودتان، ضمن شرطين سياسيين مختلفين: الأولى عودة المهزوم-المستحيلة، والأخرى عودة المنتصر-الممكنة. أما العودة المستحيلة، فهي العودة المترتبة على "حل سياسي دولي"، ذلك أن من يبشِّرون بهكذا عودة لا يفهمون التاريخ، ولا يعرفون الجغرافيا، إذ إن الحاضنة الاستعمارية السياسية والعسكرية والقانونية، التي أمَّنت للمستوطنين القادمين إلى فلسطين ممرات برية وبحرية وجوية، لن تعكس اتجاه هذه الممرات لإخراجهم، ولن تعقد محكمة للاستعمار الصهيوني. كما إن أي حل سياسي لا يضمن حق تقرير المصير للفلسطينيين في فلسطين التاريخية والشتات، والذي تعتبر العودة الكاملة، أحد مقتضياته... سيكون حلاً ظالماً، وإن أي عودة ستترتب عليه، ستكون منقوصة.
لكن العودة الممكنة، التي يبشِّر بها زكريا ويعمل على تحقيقها، هي عودة المنتصر. وهذه العودة لا ينجزها إلا مسار المقاومة الطويل الذي خاضته، ولا تزال، حركة التحرر الوطني الفلسطيني، متمثلة بمنظمة التحرير الفلسطينية، ومن سار على طريق المقاومة من خارجها. هذه العودة الجماعية من أماكن اللجوء والنزوح الفلسطيني في الشتات وفي فلسطين التاريخية إلى بلادهم، على النهج الميثاقي المقاوم الذي توصل إليه الفلسطينيون في العام 1968... هي العودة العادلة التي تضمن للفلسطينيين يومهم المنتظر في محكمة التاريخ. هي عودة للناس، والحكاية، والمشروع الوطني الفلسطيني في إطار الدولة الفلسطينية الديمقراطية، لا غيرها، في حدود الوطن التاريخي الذي يعرفه الفلسطينيون، ويتعرَّفون به، ولا يعرفون غيره.
أما ميس، وعلى الرغم من وعيها التام بما تؤمِّنه منظومة القانون الدولي من حاضنة "مريحة" للاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، فقد أشارت إلى أن قرار العودة (194)، على الرغم من المياه الكثيرة التي مرَّت في النهر بعده، لا يزال إطاراً قانونياً ملزماً لتحقيق العودة بكامل تبعاتها السياسية والاقتصادية والأخلاقية على دولة الاحتلال وحاضناته الاستعمارية. ولكن ميس، تدرك أن هكذا حل لا تنجزه سماحة المقتدر-العاجز (وهو المجتمع الدولي المضبوع بالهيمنة الاستعمارية والمركزانية الغربية)، بل مسيرة الفداء والتضحية التي تقودها حركة التحرر الوطني الفلسطيني عبر خيار المقاومة الذي يزامله استثمار سياسي لا يساوم على ثوابته الميثاقية، ومواصلة المناصرة العربية، ورفض مخططات التوطين. كما اشترطت ميس في مقترحها للعودة، توفير حاضنة اجتماعية وثقافية واقتصادية لهذا الخيار الوطني من قبل المؤسسات الوطنية الرسمية وشبه الرسمية والأهلية، تجعل من ثقافة العودة، ومخططاتها، والعمل من أجلها، ورشة وطنية لا تهدأ حتى التحرير، حاضنة نقيضة للحاضنة التي وفرتها المؤسسة الصهيونية ومن بعدها دولة "إسرائيل" لمجتمع المستوطنين في فلسطين المحتلة.
ليست "جامعة" ميس وزكريا هي جامعة بيرزيت وحسب، بل "سِفر الجامعة الفلسطيني"، الذي يرافع عن ضرورة تحويل الحق في التحرير والعودة إلى واجب، وهو سِفرٌ لا يحتاج الفلسطينيون إلى قراءته، بقدر حاجتهم إلى تذكُّره، رغم أن الألم لا يحتاج إلى من يذكِّر به، ولا إلى من يبرر الحق في التخلُّص منه. لقد آمن كلاهما بعدالة مقولة محمود درويش الخطِّية في بلاغتها، والمركَّبة في دلالاتها: "أيهما أقسى: الاحتلال، أم المقاومة لإنهاء الاحتلال؟"، وهي مقولة تلزم الفلسطيني، قبل غيره من أشقائه العرب وأنصار الحرية والعدالة في العالم، بالعمل، دون كلل، على تفكيك دولة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني-"إسرائيل"، وإنهاء المظلمة التاريخية التي حلَّت بالفلسطينيين، وإيقاف نكبتهم المستمرة.
لا شك أن اعتقال الاحتلال ميس وزكريا كان محاولة لاعتقال وعي اللحظة الفلسطينية عند جيل لا يحب الاستعمار لأنه ليس موضوعاً للحب، بل للمقاومة؛ وليس موضوعاً للكره، بل للتفكيك... وليس لأحد أن يفرض على الفلسطينيين موضوعات حبهم وكرههم. ولعل استمرار إدراك الأجيال الفلسطينية لهذا الحق، في اختيار موضوعات الحب والكره، هو ما يصنع سياسات الأمل، كلحظة تاريخية، ينجزها الفلسطينيون كما يشاؤون: بالطلقة، والخارطة، والسرد.
*أعدت هذه الشذرة السردية حول اثنين فقط من آلاف الطلبة الذين التحقوا بـ"مساقات فلسطين" في جامعة بيرزيت، استناداً إلى مدوَّناتهما في أرشيف مساقات فلسطين التي تطرحها دائرة الفلسفة والدراسات الثقافية، بالاشتراك مع برامج في الدراسات العليا: «فلسطين: الهويَّة والقضيَّة»؛ «دفاتر السِّجن: الحركة الفلسطينيَّة الأسيرة»؛ «دفاتر الفداء: الحركة الفلسطينيَّة الشَّهيدة»؛ «دفاتر العودة: الحركة الفلسطينيَّة اللَّاجئة»؛ «بروبوغاندا: فلسطين الداخل والخارج»؛ «الدراسات الثقافية البصرية الفلسطينية»؛ «القومية العربية وسياسات الهوية»؛ «مفهمة فلسطين الحديثة».