الحدث.
لا أُجامل إلاّ من هو جميل الفعل والقول والشعور... لا أجامل إلاّ من أصَّلَ للخير طريقاً وأرسى للحق منهاجاً وجيَّشَ للريادة قدوةً ونموذجاً. حديثُ الاحترام أقصر الطرق للاقتداء، ونصوصُ الانتماء أعبق وقوداً لشرارة الإخلاص.. شَغلتُ حياتي بالكتابة فلم أكتب إلاَّ ما ينفع الناس ويُنير لهم دروب الحق والكرامة.. فالكاتبُ الذي يمتشق سلاحَ الكلمة الحرة والطيبة هو الكاتب الحقيقي.. هو الكاتب العضوي الذي يستحق أن يكون إنساناً.. الكاتبُ وعاءُ الأمّة الذي تنهل منه دليل التقدم وتركن لعصاه الفكرية الناصعة في زمن الالتباس وفِتَن الشبهات والشهوات..
الكاتب الحقيقي هو الذي يُحيِي في قلوب الناس وعقولهم ذكريات العظماء أمواتاً كانوا أو أحياء.. هو الكاتب الذي لم " ينبطح" لرغوة المال، أو شهوة الكرسي، أو قبضة العسكري.. الكاتب القويم هو الذي يُعلي من الحق والحقيقة والحقائق.. الكاتب الفذّهو الذي ينزع الباطل والبدع والفتن من قلوب الناس ووجدانهم... إنه الكاتب الذي يُحطم رايات الظلم الهشّة، ويطارد قراصنة الموت وطحالب الأوطان وثعالب النفاق...
كتبتُ الكثير ــ ولله الحمد والمنّة ـــ دون أن أجامل أحداً إلاّ بحقٍ وصدق.. ونادراً ما كتبتُ بشأن البعض كأشخاص.. مرة كتبتُ بحق سفير الهند الأسبق لدى السلطة ذكر الرحمن محمد علي لاكرجي الذي عمل مديراً لمكتب رئيسة وزراء الهند السابقة أنديرا غاندي، ومن ثمّ عمل سفيراً لدى الرياض والقاهرة.. تعرفتُ عليه ووجدتُ فيه نِعمَ السفير لبلده، ونِعمَ المنتمي والمساند لشعب فلسطين وقضيته.. هذا السفير جعل من بيته برام الله متحفاً للقضية الفلسطينية بكل ما يرمز لها من وثائق وصور وحكايات وسواها..
هذا السفير لم يعرف الهدوء، فما من يومٍ يمر إلاّ وله نشاط ولقاء.. هدفه خدمة وطنه، على عكس ما نسمعه ونعرفه من عيوب وتجاوزات العديد من سفراء فلسطين الذين جعلوا مناصبهم حيازاتٍ خاصة لهم وإقطاعيات للتجارة والمقايضات وغيرها.
وفي المرة الثانية كتبتُ عن رجل نبيل خَبِرَته السجون فكان صنديداً، حرَّاً، روائياً، وكاتباً فذاً.. كتب الكثير ( رواية، وقصة، ومقالة) عن الأسرى، فكان، وبحق " عميد أدب السجون".. إنه الأديب الكاتب وليد الهودلي الذي اخترق سراديب السجن ومقابر الأحياء ليُعلي من جمر الكلمة، وبارود النص، ليحرق بهما اليأس الذي داهم البعض في زمن الرويبضة والاتكاء على سراب المنافقين والمستعمرين..
وفي المرة الثالثة سأكتب عن رجلٍ صادَقَ المعرفة فتلبسته، وعانق الإخلاص فأغدق عليه حباً ووداً عظيمين.. إنه سليل عائلة احترفت المقاومة والمطاردة والكرامة لتدفع ثمناً غالياً في مسيرة تحرر فلسطين وحرية شعبها.. هذه العائلة قدمت شهيدين قائدين، غديا فخراً لفلسطين ومفخرة لقضيتها.. هذا الرجل هو الصديق عامر عوض الله الذي نشأ في قلوب المساجد ليخرج مطيعاً لربه، مخلصاً لشعبه، مدركاً لواقع شعبه وأمته..
فأبو الطيب الذي قضى جلّ عمره مُتبحراً في الكتب النافعة عبر عمله المديد في مكتبة بلدية البيرة العامة، لم يألُ جهداً في جعل هذه المكتبة استثناءً فريداً بين نظيراتها من المكتبات العامة في فلسطين.. كان الشغل الدائم، ولا يزال، لأبي الطيب خدمة المعرفة والثقافة الواعية والعلم الرصين.. لم يكن يشكو قطُّ من ثقل المهمة أو زحمة المسؤوليات، بل كان ــ ولا يزال ــ يدير قسماً واسعاً من النشاطات الثقافية التابعة للبلدية، ومن ضمنها المكتبة، بروح الفريق ومنهج القيادة الجماعية..
عندما كان معظم الموظفين يغطّون في نومهم كان أبو الطيبيصول في المكتبة عند السابعة صباحاً، فتجده يستعد ليومٍ مزدحم بالقرّاء والمثقفين والزوار.. لقد جعل من مكتبة البيرة مجمعاً ثقافياً ومورداً للمعرفة والتميز والإبداع.. لم يقتصر عمل ونشاط هذا الصرح المعرفي بإعارة كتاب واسترجاعه، أو نشاطات بسيطة وهينة، بل تحولت هذه المكتبة، وبحق، إلى شعلةٍ من الوعي والثقافة، فكثيراً هي النشاطات الدائمة والموسمية التي تنظمها المكتبة ويكون أبو الطيب مشرفاً ومسانداً ومتابعاً لها..في كل عام تتزين البيرة ومكتبتها بفعاليات متنوعة ونوعيةتزخر بكافة ألوان العمل الثقافي الهادف والملتزم للقضية الفلسطينية ومكانتها السامقة..
لا نريد أن نُجمِّل ما هو جميل، ولكن حقٌ على القلم الأشم أن يكتب وداً وتقديراً لكل من يحمل عقلاً عذباً خيراً وقلباً معذباً بهموم وآمال أمته وقضايا أبنائها.. فمزيداً من خصوبة الفعل وومضة الإشراق وشفافية الاحتراف أبا الطيب...دمت طيباً أبا الطيب.. ودمت فارساً للعلم وللمكتبة الفلسطينية التي نمتشق منها سلاح المعرفة والبحث العلمي الرصين.. ومزيداً من الأمل الذي يُفتّح عقول الناشئة لبناء وطن سيغدو يوماً حراً ومتحرراً طالما تمسك أبناؤه بثقافة واعية، ويقين محتوم، وإيمان عميق، وإرادة لا يفلّها الزمن وتقلباته... فلا خوف على وطن فيه أمثال هؤلاء الرجال... لا خوف على أمة كفلها الله .. لا خوف على قضية بارك الله في أرضها وأودع فيها رجالاً لا يخافون في الله لومة لائم.