تحقيق الحدث- سجود عاصي
إن قضية إسراء غريب بما حملت من تساؤلات وأوجاع وتأمل في واقعنا القانوني والاجتماعي، دفعتنا للكشف عن تفاصيل ومعلومات ومعطيات كنا نبحث فيها منذ أشهر فيما يخص عمل دائرة الطب الشرعي في فلسطين، وذلك بعد حصولنا على معلومات حول شبهات مخالفات في عمل الدائرة. لقد تواصلنا قبل عدة أشهر مع جامعة النجاح الوطنية واستفسرنا من خلالهم عن عمل مدير الطب الشرعي الفلسطيني ريان العلي في التدريس في الجامعة، وأكدوا لنا في حينها أنهم سيعملون على فحص الأمر، وأنهم لن يقبلوا بازدواجية المهنة. بعدها حصلنا على وثيقة بالمساقات التي يقوم الدكتور العلي بتدريسها في الجامعة، وتبين لنا أنه بالإضافة لعمله كمدير للطب الشرعي، يعمل كذلك مدرسا في الجامعة ومديرا لمختبراتها.
لكن شاءت الأقدار، أن تتزامن كتابة هذا التقرير مع قضية إسراء غريب، لتصبح محورا مهما فيه، فلقد هزت قضية المرحومة "إسراء غريب" الرأي العام الفلسطيني وحتى الدولي، ودفعته للتساؤل في كل الاتجاهات، مرة باتجاه أهلها، وأخرى باتجاه الإجراءات، ولم يغفل الرأي العام عن المؤسسات التي تُعنى بهكذا قضايا وتقع في دوائر اختصاصها. لقد أخذت قضية الفتاة غريب وقتا طويلا قبل الإفصاح عن حقيقة ما جرى معها، وحتى كتابة هذا التقرير لم يكن هناك ما يجيب على التساؤلات المستمرة والمتكررة، وفي غمرة البحث عن ما يطمئن الرأي العام؛ كان هناك ما يثير الريبة والشك ويوسع دائرة التساؤلات. ففي صباح يوم الأحد 8.9.2019 قدم ثلاثة أطباء شرعيين استقالتهم، وانفردت "الحدث" بنشر تقرير حول الموضوع مع ذكر بعض التفاصيل المتعلقة بالاستقالة.
وأشارت "الحدث" في تقريرها المتعلق باستقالة الأطباء، أن الأطباء الذين قدموا استقالتهم، هم: الدكتور مؤيد بدر اختصاصي الطب الشرعي في محافظة رام الله، الدكتور مهند شويكي اختصاصي الطب الشرعي في محافظة القدس، والدكتور مهند جابر اختصاصي الطب الشرعي في محافظة الخليل، مع الإشارة إلى أنهم مسؤولو الطب الشرعي في محافظات وسط وجنوب الضفة الغربية، ومن المفترض أن يشاركوا في كتابة التقرير الطبي الخاص بإسراء غريب، حيث إنهم أعضاء في اللجنة التي يتم تكليفها في تشريح الحالات الجنائية في معهد الطب العدلي أبو ديس.
وأوضحت، أن الأطباء يعتبرون أن بعض التجاوزات في الدائرة أثرت على عملهم بشكل مباشر وساهمت في تأخير بعض الإجراءات المتعلقة بدائرة الطب الشرعي، ومن الأمثلة على ذلك؛ قضية إسراء غريب حيث استغرق صدور التقرير الطبي الخاص بها وقتا طويلا لا يتناسب مع كون القضية قضية رأي عام، حيث إنه يمكن إنجاز التقرير بشكل أسرع، خاصة في ظل وجود حالة من التكتم والغموض في حالتها.
توجهت "الحدث" لوكيل وزارة العدل محمد أبو السندس، والذي بدوره نفى أية علاقة بين قضية إسراء غريب وبين استقالة الأطباء المشار إليهم، مؤكدا أن "بعضهم عليه تهم فساد، ومنهم من كان على وشك أن يتم فصله، وهم استغلوا الرأي العام للهروب من الإجراءات التي كانت ستتخذ بحقهم ويحاولون إثارة الرأي العام من خلال ربط قضيتهم بقضية إسراء غريب".
وبعد تصريح وكيل الوزارة أبو السندس، أصدرت وزارة العدل بيانا صحفيا، قالت فيه إن قيام ثلاثة من الأطباء الشرعيين في الوزارة بتقديم استقالاتهم ليس له علاقة بقضية وفاة المرحومة إسراء غريب، وأن استقالة الأطباء الثلاثة تأتي نتيجة لوجود مخالفات لديهم، وصدور عقوبات تأديبية بحق بعضهم، وكان هناك احتجاج من قبلهم ومن ثم قدموا استقالاتهم، وأنهم لم يشاركوا من قريب أو بعيد بالتشريح، وأشارت إلى أن الطبيب الشرعي المكلف بالتشريح من النيابة العامة هو اختصاصي الطب الشرعي في بيت لحم د. أشرف القاضي، علما بأنه سوف يتم تسليم التقرير النهائي للطب العدلي إلى النيابة العامة خلال يومين من تاريخه.
لكن وزير العدل محمد الشلالدة نسف روايتي وكيل الوزارة وبيانها، وأكد في تصريحات إذاعية أن قضية الأطباء الداخلية لم تصل إلى حد المشكلة، وأن مخالفات الأطباء الشرعيين المستقيلين روتينية وبسيطة لم تصل حد الانتهاك الجسيم للقوانين، وربط ضمنا بين استقالة الأطباء وقضية إسراء غريب، قائلا: إن الأطباء طعنوا في نزاهة زميلهم الطبيب أشرف القاضي، الذي قام بتشريح إسراء غريب، وأكدوا أنه كان يجب أن تتم استشارتهم في هكذا قضية. بذلك نسف الوزير تصريح وكيل الوزارة والبيان، حيث نفى في تصريحه وجود تهم بالفساد بحق الأطباء المستقيلين، وفند كذلك نفي العلاقة بين استقالة الأطباء وقضية غريب.
بدورها حصلت الحدث على وثيقة وجهها الأطباء المستقيلون لجهة رسمية، فيما يخص قضية إسراء غريب، جاء فيها أن وكيل وزارة العدل محمد أبو السندس، المسؤول المباشر عن الإدارة العامة للطب الشرعي في الوزارة، ونتيجة "ارتكابه أخطاء كارثية"، كان هناك تقصير في الإعلان عن نتائج التشريح ونتائج المختبرات بخصوص القضية.
ويرى الأطباء المستقيلون، بحسب الوثيقة، أن "البلبلة" التي رافقت قضية إسراء غريب جاءت نتيجة الأسباب التالية:
أولا: عدم مشاركة جميع أعضاء اللجنة في التشريح وهم الدكتور مؤيد بدر والدكتور مهند شويكي والدكتور مهند جابر، وتم تشريحها فقط من قبل الدكتور أشرف القاضي بتاريخ 22-8-2019.
ثانيا: تضليل النائب العام الفلسطيني من قبل وكيل وزارة العدل محمد أبو السندس، حيث إن الأخير أبلغ النائب العام بأن الفحوصات المخبرية للمتوفاة إسراء غريب أرسلت إلى الأردن ولكنه تبين أن عينات من سوائل الجسم فقط هي التي أرسلت إلى المختبر الجنائي الأردني (( الأمن العام الأردني))، فيما أن عينات من أنسجة الجسم – وهي الأهم في حالة إسراء غريب- لم ترسل إلى الطب الشرعي الأردني ولم يتم عملها في وزارة الصحة الفلسطينية أو مختبرات "ميديكير" الفلسطينية في رام الله.
ثالثا: ظهرت العينات بعد استقالة الأطباء الثلاثة مباشرة، وتم تسليمها من قبل المدير الإداري يسري عليوي، تخصص تربية إسلامية، لطبيب الأنسجة معتز النتشة، وتم البدء في إجراء الفحص النسيجي في مختبرات وزارة الصحة الفلسطينية في يوم استقالة الأطباء الشرعيين الثلاثة بتاريخ 8-9-2019، مع الإشارة إلى أن التشريح كان بتاريخ 22-8-2019.
رابعا: الأشخاص المتابعون لقضية إسراء غريب غير مؤهلين؛ وذلك لأن أحدهم فني تخدير وهو سلهام عويس والآخر تخصص شريعة إسلامية وهو يسري عليوي وهم يعملون تحت إشراف وكيل الوزارة محمد أبو السندس.
خامسا: يرى الأطباء المستقيلون، أنه كان من المفترض أن يتم التشريح من قبل اللجنة المختصة، وكذلك الإسراع في إرسال عينات السوائل إلى الأردن، وعمل عينات الأنسجة بعد التشريح مباشرة من قبل المختصين في الإدارة العامة للطب الشرعي وذلك لأن القضية أخذت منحى رأي عام.
وفي إطار متابعتنا في "الحدث" لتفاصيل ما يجري بدائرة الطب الشرعي، اطلعنا على وثيقة، يدعي الأطباء الشرعيون الموقعون عليها، أن الدكتور ريان العلي كان من المفترض أن يكون على رأس اللجنة الطبية، التي من المفترض أن تقوم بمتابعة ملف المرحومة إسراء غريب، ولكنه كان أبرز الغائبين عن القضية، بسبب ازدواجية العمل وانشغاله بأعمال أخرى، وعلى الرغم من أهمية وجوده في مقر دائرة الطب الشرعي في رام الله، إلا أنه يقضي معظم وقته في جامعة النجاح في نابلس، وعادة ما يحضر للمقر يوم الثلاثاء فقط، ويستغل هذا اليوم لقضاء أمور خاصة به في رام الله.
وفيما يخص ازدواجية العمل لدى الدكتور العلي؛ أشار الأطباء، إلى أن هناك شكوى قدمت بحقه في كتاب استقالة الأطباء، تفيد بأنه حصل على استثناء من مجلس الوزارة في فترة حكومة رئيس الوزراء الفلسطيني السابق رامي الحمد الله، وذلك للعمل في جامعة النجاح، ورغم أن الاستثناء الذي حصل عليه جزئي، إلا أنه عمل بدوام كامل في الجامعة، وكان يتقاضى من وزارة العدل مبلغ 2000 شيقل إضافيات على راتبه الأساسي الذي يبلغ 10,000 شيقل، أي أن مجموع ما كان يتقاضاه 12000 شيقل، وبالنسبة لـ 2000 شيقل الإضافيات، فإنها بدل مناوبات لا يقوم بها إطلاقا، مع العلم أنه لا يقوم بإثبات دوامه في الدائرة، كباقي الأطباء الشرعيين، ومع الإشارة إلى أنه يتقاضى راتبا من جامعة النجاح الوطنية أيضا.
المعلومات المذكورة في التقرير عن صلاحيات بعض غير المختصين، كانت الإشارة الأهم نحو البحث في الطريقة التي تدار فيها الأمور في دائرة الطب الشرعي، خاصة وأن المدير الطبي عليه ما عليه من التزامات خارج إطار وظيفته الرسمية ويعمل بازدواجية وظيفة. وثائق من داخل وزارة العدل، حصلنا عليها، تشير إلى أن المدير الطبي عليان كلف يسري عليوي الحاصل على درجة البكالوريوس في التربية الإسلامية بإدارة أوضاع الدائرة وذلك بموافقة واطلاع وكيل وزارة العدل محمد أبو السندس، وتم تعيين عليوي مديرا إداريا بصلاحيات شبه مفتوحة داخل الدائرة وصلت حد توقيعه على تقارير طب شرعي، وعلمنا مؤخرا أنه تم تقديم شكوى بحقه بهذا الخصوص للنائب العام بتاريخ 5.9.21019 بأنه انتحل شخصية أحد الأطباء الشرعيين وأشرف على حالة كان من المفترض أن يشرف عليها الطبيب الشرعي بتوكيل من النيابة، وقام برفقة فني التخدير سلهام عويس بكتابة التقرير الطبي، ووقع عويس على التقرير بصفته طبيب ومدير المعمل الجنائي في الطب العدلي رغم أنه لا يحمل هذه الصفة الوظيفية. وتشير الشكوى التي اطلعنا عليها، أنهما قاما بهذا النوع من العمل عدة مرات، وهو ما يضع علامات استفهام على كثير من الحالات التي تم تشريحها وعلى الكثير من التقارير التي تم كتابتها وعن الأهداف والدوافع وراء هذه الأفعال.
ويؤكد أحد الأطباء الشرعيين المستقيلين، في شكوى تقدم بها إلى الجهات المختصة، أنه "تم إعطاء مصادقات كاذبة أعدت وقدمت إلى السلطات العامة وألحقت ضررا بمصالح المواطنين، وذلك من خلال اختلاق وانتحال صفة الطب العدلي من أجل تسهيل إعداد وإعطاء هذه المصادقات، حيث إن فني التخدير والمتخصص بالتربية الإسلامية، قاما بتحرير أوراق تحتوي على بيانات مخالفة للحقيقة موقعة بصفتهم أطباء عدليين ومدراء للمختبر الجنائي، وهو ما يشكل هدرا لحقوق بعض المواطنين وأدى إلى إعاقة سير العدالة، وإساءة استخدام الصلاحيات والسلطات المخولة لهم".
ويشير الطبيب في شكواه، إلى أن هذه التجاوزات الخطيرة تثير شكوكا حول الملفات التي قاموا بالعمل عليها خفية عن الأطباء العدليين المتخصصين، متسببين بإدانة مواطنين وتبرئة آخرين بما يتجاوز كل القوانين والأنظمة والأعراف.
وتبيّن لنا، أن هناك إشارة من قبل الأطباء الشرعيين الذين قدموا استقالتهم، في ملحق أرفقوه بكتاب الاستقالة الجماعية، أن هذه المخالفات الإدارية والقانونية من قبل أشخاص غير مؤهلين، ساهمت بشكل واضح في إضعاف البينات القضائية أمام الجهات القضائية المختصة، ووصلت المخالفات في هذا الإطار حد العبث بالعينات الخاصة بأفراد الأمن. كما أنه وبحسب الأطباء، يتم تحديد النتائج في بعض الحالات وفقا للمصالح الشخصية، وقد تكون نتيجة فحص التحري في بعض القضايا، عن المواد المخدرة؛ إيجابية أو سلبية، فيعاقب البريء في بعض الحالات ويفلت من العقاب متعاطي المخدرات.
اطلعنا على شكوى أخرى قدمت بحق يسري عليوي، الحاصل على بكالوريوس التربية الإسلامية، تبين أنه قام في آخر يوم من أيام شهر رمضان الماضي، بـ"سب دين" أحد العاملين في الوزارة أكثر من مرة وبعصبية، بالإضافة إلى توجيهه ألفاظا غير لائقة لهذا الموظف، حيث وإنه من باب إعادة التأكيد، يشرف عليوي ــ بشهادته التي لا تؤهله إلا لتدريس التربية الإسلامية ــ على الأطباء الشرعيين في الوزارة، ويدير أمورهم ويؤخذ من قبل وكيل الوزارة والمدير الطبي بكل ما يصدر عنه من قرارات أو توصيات.
واحدة من التساؤلات الهامة التي طرحها الأطباء المستقيلون، والتي تأتي في سياق من التساؤلات الأخرى، هي عن قيام الإدارة بتجهيز عيادات في مختلف المستشفيات بمبالغ طائلة؛ بعضها لم يعد موجودا، وتم الاستغناء عنها بدون مبرر منطقي. لكن المبرر قد نجده خلال البحث في المبالغ الطائلة التي تدفع للجامعات مقابل خدمات تتعلق بالتشريح، رغم أن هذا المبلغ كفيل بإنشاء أكثر من مشرحة، بالإضافة إلى أن هناك مشارح في المستشفيات، لا يتم استخدامها، ليثير ذلك بوضوح علامات استفهام عن المستفيد من هذه الحالة، خاصة وأن الحديث يدور عن طاقم إدارة يعمل مديره في جامعة النجاح.
ومن بين الوثائق التي اطلعت عليها الحدث، تشير إحدى الشكاوى إلى أن الطبيب الشرعي قد تعرض للتهديد من قبل بعض العاملين في وزارة العدل من أجل تسليمهم وثائق رسمية تتعلق بوفاة أحد الأشخاص في منطقة رام الله. ويوضح الطبيب في شكواه أن طلب الوثائق من قبل بعض العاملين في الوزارة تزامن مع طلب أهل المتوفى لنفس الوثائق، حيث إنه لا يمكن للطبيب الشرعي تسليم الوثائق لأي جهة إلا للنيابة العامة.
ويظهر في الشكوى، أن الطبيب يطالب بحرية العمل ضمن القانون والأصول بعيدا عن التدخلات الخارجية بما يضمن مصداقية التقارير والطب العدلي ووزارة العدل، محذرا من أن تدخل البعض ومن ضمنهم موظفين في وزارة العدل يجعله تحت ضغوط إدارية ووظيفية ضمن الوزارة وهذا الأمر يجب التحرك بخصوصه فورا من قبل الوزارة لوقفه، "قبل أن أكون مضطرا للجوء للحصانة الوظيفية والقضائية ضمن مجال عملي مع معرفتكم الشخصية بمدى خطورة عملنا وكيف يمكن أن نكون ضمن دائرة التهديد بشكل مستمر، مع العلم أنه كان هناك تحريض من قبل البعض للشخص قريب المتوفى لتقديم شكوى بحق الطبيب الشرعي لإيقاع الضرر به، بحيث إنه لا يجوز طلب التقرير إلا بإذن من النيابة، حيث أبلغ الطبيب بإنذار تحت بند هدر المال العام بعد تقديمه الشكوى بيومين، حيث إن سبب الإنذار المرفق كان "كسره لدلة قهوة" على الرغم من أنها من ممتلكاته الخاصة "من المال غير العام".
حاولنا الاستيضاح حول هذه الشكاوي من خلال الاتصال بالدكتور مؤيد بدر، أحد الأطباء المستقيلين، لكنه رفض التعقيب، مؤكدا أن كل هذه القضايا التي أثارها هو وزملاؤه أصبحت لدى الجهات المختصة، ورفعوا بها تقارير مفصلة، وأنهم أوكلوا محاميا لتمثيلهم لدى الجهات القضائية.