عفوا عزيزي القارئ، فهذه الأرقام لا تمثل الاسم الكودي لأبطال أفلام جيمس بوند أو حرب الكواكب، كما أنها ليست شيفرة كيميائية قاتلة؛ إنها ببساطة أرقام الكودات التي تحملها مهن "المعالجة بالقرآن والمعالجة بالعرافة والسحر" على التوالي، ومكانة هذه المهن في تصنيف المجموعات الرئيسية والثانوية والفرعية لفئات المهن، كما تضمنها دليل التصنيف والتوصيف المهني الفلسطيني الذي أصدره الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني عام 2013 تحت عنوان – دليل التصنيف المهني الفلسطيني حسب التصنيف الدولي المعياري للمهن عام 2008.
فقد وضع التصنيف والتوصيف المهني الفلسطيني هاتين المهنتين، ضمن المجموعة الثالثة " 3 " والتي تحمل عنوان الفنيون ومساعدو الاختصاصيين، من بين المجموعات الرئيسة التسعة التي يوردها الدليل، والتي تنبثق منها المجموعة الفرعية وكودها "32" تحت مسمى "ممارسو الطب التقليدي والبديل، ثم اشتق منها مجموعة ثانوية تحمل الكود " 323 " ، وتتضمن الفئة المهنية التي تحمل الكود " 3230" وتضم فروع هذه الفئة مسميات مهن من بينها طب الأعشاب والتجبير والحجامة والختان إضافة إلى العلاج بالقرآن والعلاج بالعرافة والسحر. (ص84، 85 من الدليل بنسخة pdf ).
وتنبع أهمية الأمر من تضمين مهن الشعوذة في التصنيف والتوصيف المهني، والذي يعتبر بمثابة جزء من التشريعات الفلسطينية الناظمة للمجتمع ، ويمنحها غطاء ممارستها دون قيود رغم تعدد الضحايا لممارسي هذه المهن، والتي لن تكون آخرها بعض ملامح قضية الشهيدة إسراء، مما يستدعي وقفة جدية من الدوائر القانونية في مؤسسات سوق العمل الحكومية والعمالية والمجتمع المدني لمراجعة التصنيف المهني وإخراج المهن القاتلة من تحت غطائها القانوني.
ولأنه من حق الجميع الإحاطة والمعرفة بماهية التصنيف والتوصيف المهني ومكانته، فإنه لا بد من الإشارة إلى أن علوم التصنيف والفهرسة للإنتاج الإنساني عموما، تعتبر بوابة النهوض بالمجتمعات والتبادل المعرفي فيما بينها، فتميزت المجتمعات المتحضرة بإنتاج الموسوعات المتخصصة والمصنفات المفهرسة وفق محددات علمية تتصل بالمجال أو زمن التدوين أو مرجعية يرتئيها المصنف. .
وقد يخيب المقال ظن الكثيرين في تحوله لمناقشة مهنية تتعلق بسوق العمل، وليس بتفاصيل قضية الفقيدة إسراء التي تحتل صفحات هامة في الإعلام، إلا أن المبررات الفلسفية والعلمية تقتضي الكشف عن مكانة الشعوذة في أحد أهم ركائز تنظيم سوق العمل… فعذرا.
فمع بواكير الثورة الصناعية، وبروز الحاجة الموضوعية لأنماط جديدة من المهارات لتحضير لوجستيات تشغيل الآلة، ووصولا لتشغيلها ومراقبة إنتاجها وتغليفه وحتى تسويقه؛ بدأ تطور علم التصنيف بدليل المهام لكل وظيفة، والذي تطور إلى بطاقة وصف الوظيفة، وارتباطها بالمهارات التي يجب توفرها لدى شاغلها، ولم تتوقف عملية التطور عن التسارع مع الاختراعات والاكتشافات والتطور العلمي والتكنولوجي الذي ولد آلاف المهن الجديدة ونفى وجود الكثير من المهن، التي لم تعد تجد مكانا في سوق العمل ودفعت أصحابها للبحث في الانتقال إلى مستويات مهارية تتيح لهم المنافسة للحصول على مكان عمل بما يتطلبه من مهارات جديدة، هذا الانتقال الذي سيمر عبر برامج تعليم تخصصي أو تدريب مهني أو تعليم تقني، فرضت حاجة تطوير مؤسساته بحكم تزايد الطلب عليه لتلبية حاجات سوق العمل المتجددة.
ولا شك بأن أكثر الدول قدرة على مواجهة تحديات البطالة بأشكالها هي تلك الدول التي تربط التقدم الحاصل بتنمية الموارد البشرية في جانبي العرض والطلب وفق إطار عام لاحتياجاتها المهارية ومتحوصلة تخصصيا فيما يلبي بطاقة الوصف الوظيفي لوظيفة ما، محدثة باستمرار تصنيفها المهني الوطني وتوصيف المهن بما يواكب متغيرات المهن .
فللتصنيف والتوصيف المهني أهمية بالغة في المجتمعات التي تسعى إلى تنظيم سوق عملها على طريق التنمية الاقتصادية والاجتماعية وبيئة العمل اللائق، ومواجهة مخاطر البطالة التي تعتبر الأم الشرعية للفقر الفردي والاجتماعي، وتتركز أهميته في أثره على الجانب الاقتصادي وأهم مفاصله، عبر تنمية الموارد البشرية وإعدادها وترقيتها من جانبي العرض والطلب، وفقا لمعايير مهارية تتصل بالتعليم والتدريب والتعلم التخصصي، وبما يهيكل الإطار العام لمنظومة الموارد البشرية المهنية للإسهام في إنجاز التنمية المنشودة.
وفي خضم التطور التكنولوجي والمعلوماتي ونشوء الاقتصاد المعرفي في سوق عالمي مفتوح، يفرض ثقافته ومنتجه ومتطلباته من المهارات اللازمة لمسيرته، فإنه يعكس نفسه بالضرورة على بروز الحاجة للكثير من المهن الجديدة التي لم يسبق لها حضور في التاريخ البشري، مما يفرض التغيير والتطوير على منظومات التعليم والتدريب وإعداد الموارد البشرية، في محاولة لتوفير عرض ملائم من القوى العاملة، والاستجابة لمعايير الطلب المتزايد على توظيف المهارات الجديدة المطلوبة، وفي المحصلة فإن كل ذلك يفرض ضرورة التحديث المستمر للتصنيف والتوصيف المهني المعياري الدولي وتكييفه وطنيا وفق مستويات النمو الاقتصادي والمتغيرات على أنواع أو فئات المهن بما يخدم خطط التنمية حال وجودها.
ولإعداد تصنيف وتوصيف مهني في الدول والمجتمعات النامية، فإنه لا حاجة لإعادة اختراع العجلة وإن كان لا بد من إجراء تغييرات تيسر مرونة دورانها وبمعنى أن تبقى المعادلات المعيارية الدولية التي أبدعتها المجتمعات المتقدمة بمثابة المرجعية العامة التي تضم تحتها منهجية التصنيف والتوصيف الوطني في اقتصاديات ناشئة.
وما ينطبق على التصنيف المهني ينطبق على كافة التشريعات واللوائح والنواظم للحياة العامة التي قد تتضمن الكثير من المواد القاتلة، والتي يجب البحث عنها حيث يسكن الشيطان في تفاصيل الأنظمة أو بحكم استنساخها من تجارب لا صلة لها بطموحات الشعب والمجتمع الفلسطيني لبناء مستقبل مزدهر في دولة ديمقراطية ملتزمة بمحددات حقوق الإنسان وحمايتها.