الحدث- مي هماش
إذا أردتم .. هذه ليست أسطورة، هذه العبارة كانت تقديم وخاتمة رواية ثيودر هيرتسل "أرض قديمة جديدة/ أنطويلاند" الّتي نُشرت في عام 1902، والّتي تصور الدولة اليهودية الجديدة كونها امتداد للممالك القديمة، وتسرد هذه الرواية كيف سيتم إعادة بناء الدولة اليهودية على أرض فلسطين بعد 50 عام من كتابة هذه الرواية، والكيفية التّي سيتم بها نقل اليهود الفقراء والشرقيين في البداية إلى أرض فلسطين للزراعة والتأسيس للبنية التحتية للدولة اليهودية، ومن ثم يهاجر اليهود الأوروبيين الّذين يجلبون معهم التطور والحداثة، فيبدأ الإعمار على الطراز الأوروبي الحديث، وينتقل المسار الاقتصادي إلى تصنيعي تجاري قوي يدعمه رأس المال اليهودي والعالمي، فتنهض دولة اليهود كدولة قوية تستجمع شتات اليهود وتؤمن لهم مجتمعًا ديمقراطيًا لا يخافون فيه من أي معاداة كانت، وفي النهاية قال هرتسل موجها خطابه لليهود إذا لم يكن لديكم إرادة لفعل هذا، ستُقرأ روايتي في مدارس حيفا من قبل الفلسطينيين ويظنون أنّي رجل مجنون يحلم بدولة في فلسطين، وبهذه العبارات نفهم تشديده على عبارة إن أردتم.. فهذه ليست أسطورة.
يمكننا أنَّ نقرأ سيناريو فيلم جابر في ذات القالب، لأنَّه لا يقدم رؤية في بيئة مجردة من العوامل السياسية الّتي تؤهل لإحداث ذات الأحداث الّتي سهلت دخول القوات الصهيونية على أرض فلسطين، فالأدب يُعد مؤسسة أيديولوجية عنيفة ناعمة في ذات الوقت، فهيَّ من جهة مساحة الحرية للخيال واختراق وهدم الحدود الإنسانية والقانونية والدينية والأخلاقية، ومن جهة آخرى بتعبير بورديو هو الهابيتوس الّذي يؤسس لفعل الممارسة في المجال العام، فكيف لو كان هذا الأدب تقف وراءه أيديولوجيات امبريالية بالأساس.
إنَّ سيناريو فيلم جابر هو فعل تأسيسي لاستكمال جمع الهوية السياسية المتخيلة للحركة الصهيونية، الّتي تطوّع الدين اليهودي للوصول إلى ما يعرف "بدولة اسرائيل الكبرى"، ويقومون في ذلك بحمل الفأس والتوراة بيد، والسلاح باليد الأخرى، فالتنقيب في الآثار يجب أنّ يكون ملازمًا للتوراة، لاستخراج معنى من الآيات وتعبئتها تاريخيًا من خلال الآثار، وتصبح هذه المعاني جزء من الهوية السياسية المرتبطة باليهود، والّذي سيسعى إليها باستخدام العنف والقوة، كونه يتعامل معها كجزء من حقه التاريخي والإرثي، إنَّ الاستعمار الاستيطاني الصهيوني يستخدم الدين وروايته التاريخية كأداة للحق في انتزاع "حقوقه السياسية" على أراضي بلاد الشام.
تبدأ الأحداث حسب السيناريو في حفريات طريق بوادي موسى، ويعثر الطفل اللاجيء الفلسطيني من مخيم البقعة (جابر) وسكان البتراء ووادي موسى، على حجر يحمل كلمة عبرية ( سيلا ) بمعنى صخرة، يبيعها إلى عالم الآثار الانجليزي سام ولكنسون ( ب 100 دولار) الّذي يشرح للأردنية سميرة أهمية الحجر، حسب نظرية عالمة الآثار لويز ليجنز (في لندن ) الّتي تقول أنَّ اليهود نزحوا إلى البتراء واستقروا فيها لمدة من الزمن. وأنَّهم خلال أربعين سنة من التيه في سيناء نزحوا إلى منطقة البتراء ووادي موسى، وأنَّ حوارهم مع النبي موسى (اذهب أنت وربك فقاتلا) قد دار في البتراء وتصادق سميرة مؤكدة أنَّ اليهود تخبطوا داخل الوادي الأخضر حيث عثروا على عيون المياه وقد سمي الوادي باسم النبي موسى، وادي موسى.
تدور الأحداث بعدها تتنبه دائرة الآثار الأردنية أنَّ هذه الحجرة قيمتها أكبر من المال الّذي تم بيعها فيه، وقيمتها التاريخية تشير إلى معبد يهودي قديم في المنطقة، لذلك تسير الأحداث باتجاه تجهز باحث روسي وانجليزي للسعي وراء استرداد الحجر الّذي يدلل على الوجود اليهودي في المنطقة، وتتدخل "اسرائيل بإرسال عصاباتها لإرجاع تراثها، وتبدأ التحليلات النظرية الدينية والتاريخية لليهود لتبرر وجود هذه الحجرة بجنوب الأردن، وأنَّ جنوب الأردن والبتراء ووادي موسى هي إحدى الأركان الأساسية للمملكة اليهودية القديمة، وبعد العديد من المحاولات لاسترجاع الحجر يتدخل الأمن الأردني لحجز الحجر والاحتفاظ به.
بنظرة تفحصية للمعلومات المتوفرة حول نص السيناريو، نقف على حدود ومعاني كثيرة، ومنها؛ ما يمس بالكرامة الفلسطينية، وتنفي ما تم من إحلال للفلسطينيين عن أرضهم، وتبين أنَّ ما حدث هو بيع الفلسطينيين لأراضيهم، ولم يكن عبثًا أنّ يكون الطفل الفلسطيني هو من باع الحجر وبسعر زهيد، فهذا النص يعزز الخطاب الاستعماري، بكون الفلسطينيين من تركوا أراضيهم، والجزء الأكبر من باعها، وهذا مساس بالكرامة والنضال الفلسطيني.
قبل الولوج للمعاني الآخرى، لا بدَّ لنا من طرح تساؤل يساعدنا في تحليل وفهم ونقد سيناريو فيلم جابر؛ هل وجود الآثار سواء حجر أو معبد، أو حتى بيوت في مكان ما، دليل على تواجد مجتمع مستقر سابق، وهل هذا يُعطيه أحقية تاريخية وسياسية للعودة إليه وإخراج السكان الحاليين منه، والإدعاء بالسيادة على المكان؟
إنَّ الإنسان بغض النظر عن دينه أو قومه كان كثير الترحال، ينتقل بين مكان لآخر حسب ما تفرضه عليه البيئة الطبيعية، فالشتاء يحكم مكان سكنهم وطبيعة كسبهم لقوت يومهم، وتختلف بناء عليهم المنطقة الجغرافية الّتي تساعده على البقاء والاستمرار، وكذلك الصيف، والكثير من العوامل الّتي ساهمت في تنقلات البشر بحثًا عن الماء، والتربة الخصبة، والجو المعتدل الّذي يساهم في استقرارهم وتنمية قدرتهم الاقتصادية، وهذا التنقل لا يتم التعامل معه كظاهرة يمكن البناء عليها في المجتمعات الطبيعية، بل يعتبر دليل على تطور تاريخ المجتمعات وحقل لدراسة البنى الأساسية الّتي شكلت المجتمع بهذه الصورة.
أي أنَّ الإقامة لألاف السنين في مكان والانتقال لآخر للاستقرار فيه، لا يُعطي أحقية سياسية في انتزاع البشر من سكناهم بالقوة، ومحوهم لإعادة بناء مجتمع جديد، لكن هذا الكلام لا مكان له بالحسابات الاستعمارية، وعلى وجه الخصوص الاستعمارية الاستيطاني، حيث تُعد اسرائيل رائدة لهذا النموذج (العودة بالحق التاريخي والتراثي/ والديني).
يتوضح لنا من خلال المقاطع المعروضة من السيناريو بأنَّ اليهود جاؤوا بحثًا عن الماء، واستقروا لعدد من السنين، أي أنَّ بالمحصلة هم كانوا مثل البدو الرحل، في فهمنا للتاريخ الطبيعي للحركة البشرية، وأنَّه كان أُناس يقطنون المكان ويستقرون فيه ما دامت عناصر الحياة الأساسية متوفرة فيه.
فوجود حجرة تحمل اسمًا باللغة العبرية هيَّ وهم تاريخي، وإذا كان حقيقة تاريخية، أذكر أنَّ جدي أخبرني أنَّه نقشَ أسمه على شجرة بجانب بيته في قريتنا المهجرة عام 1948، ولا يمكنني كفلسطينية إلّا أنّ أسعى باتجاه الوطن، وليس قريتي فقط، فالمفاتيح الّتي يحملها الجيل الكبير، ويورثها ضمن ميراثه هيَّ أيضًا رواية تاريخية لنا كفلسطينيين مستعمَرين.
لكن لماذا نحن الفلسطينيين لا نستطيع المطالبة بهذه الرواية التاريخية، والآثار الّتي تحمل لغتنا وأسمائنا، بالمقابل نتخوف كثيرًا من عرض فيلم يكشف ولو بشكل مزيف عن وجود آثار في منطقة الأردن؟ لأنَّه وباختصار بيّنَ السيناريو أنَّ اسرائيل تتدخل بعصاباتها وقوتها وأموالها لاسترداد حقها وفرض سيادتها المزعومة، فالفأس والتوراة بيد، والسلاح باليد الآخرى مجددًا.
إنَّ ما يمهد له هذا الفيلم هو صنع بربوغندا تدفع باتجاه التوسع والاستكشاف والتنقيب والبحث في جنوب الأردن، حينها تتحول النظرية والأدب إلى ممارسة وتطبيق، وإنَّ التحايل بعدم بث هذا الفيلم إلّا في الصالات الأميركية والبريطانية/ أي المنظومة الغربية، ليس بشيء يمكن الاستهانة به واعتباره يحترم معاييرنا الأخلاقية، بل هو بالأساس فيلم موجه، موجه باتجاه يترك السؤال مفتوح حول النهاية الّتي تقوم به السيادة الأردنية باستملاك الحجر وعدم إرجاعه لليهود..
هذا السؤال الّذي سيحول النقاش التاريخي إلى نقاش حول السيادة والسيطرة، وهذا العامل النفسي كان مساعدًا ودافعًا في التوسع والاستعمار والاستيطان، لذلك فإن الجدل الدائر حول فيلم جابر هو تخوف من ترجمة هذه الأحداث في قوالب سياسية تدفع بالمستكشفين نحو استعمار الأرض.