لم نفاجأ بقرار الدستورية الأخير، إلغاء القرار بقانون (١٦)، والإبقاء على القرار بقانون (١٧). المفاجأة كانت قدرة النظام السياسي على التقلب والتمويه وتوزيع الأدوار. وصار نقاش وتكهن، حول ما هو السبب؟ وما هو الهدف؟ وما هي النتيجة؟ ومن الذي صمم؟ ومن الذي دعم وأيد؟ ومن الذي أعلن وأخرج؟ وهل هذا تراجع أم هو أحد مراحل وهم الإصلاح؟
سابقا، همس البعض، وخرج وتنبأ الأكثر دراية، أنه هكذا سيكون القرار. من لا يعرف التفاصيل والخبايا، قال، سترد الطعن، ورد عليه آخر، بل هي ستقبله، أليست هي حامية الدستور؟ أو هكذا يظن. من وقت قريب، بدأت الأمور تصبح أكثر وضوحا، فهذه بيانات علنية، وأخرى سرية ترسل للمقاطعة تطالب بذات مضمون القرار.
ظهر القرار، لا تصريحات واضحة من دعاة الإصلاح المراقبين له، فهم يتقنون فن الصمت، خاصة عندما يريد منهم المستفهم استفسارا أو كلاما. هل هذا القرار مخيب للآمال؟ كما وصفه البعض، أم هو خطوة في طريق سرمدي للاصطلاح؟ لم يحن موعد الإعلان بعد، ما زال هناك وقت، ولا داعي للتسرع والاستعجال.
يتساءل البعض، هل يستطيع ذات الشخص أو المجموعة، الترحيب مرة بقرار الإصلاح، ثم التهليل والترحيب لهذا القرار. نعم، فهذا هو التقلب، وهذه هي القدرة على التحالف والتلون ولعب الأدوار، فليس الحق ولا هو المبدأ أساس التقييم والاصطفاف؟ ولا هي المكاشفة والمصارحة أساس التحالف والانحياز، وليست هي المشاركة والخطة والأهداف المعلنة أساس التغيير والإصلاح.
التفرد والاعتباطية أساس نهج وقرار وتحالف دعاة الإصلاح، والرجوع عن بعضه، بالرغم من تماسكه وعدم قابليته للتجزئة، هو أيضا اعتباطي انتقائي لا يقوم على مبدأ ولا يسنده منطق او أساس. وهو يعيد خلط الأمور بطريقة لا تؤدي الا إلى مزيد من التأجيج وتصفية الحسابات. وهذه العملية ستعيد السلطة القضائية عشرين سنة إلى الوراء، وتتأمل السلطة التنفيذية بالنتيجة أن تتلقفها مفصلة على المقاس.
قرار المحكمة الدستورية، في كثيره مخالف للمبادئ الدستورية، وفي بعضه تأكيد على حقوق فردية كان إهدارها خطيئة لن يطويها الزمان. فحسنا فعلت عندما اقتربت في قرارها من حقوق القضاة أكثر بكثير من دعاة الإصلاح والدفاع عن حقوق الإنسان، وأخطأت، عندما أهدرت، من بين مبادئ أخرى، مبدأ الفصل بين السلطات واستقلال القضاء، ومنحت الختم القضائي، بجرأة معهودة، لقيام السلطة التنفيذية بهدم وإعادة تشكيل مجلس وهيئات القضاء.
بالمقابل، هل يتعظ من حمل مسمى وأمانة القضاء؟ سواء من بقي على حاله من القضاة، أو من اصطفته السلطة التنفيذية في حمل مهمة الإصلاح، أو من عاد مجددا بعد عزله، بأن تنكره لحقوق العباد ومخالفته لقسمه القضائي وانحيازه الأعمى للسلطة التنفيذية، كان وسيكون أساس نهم الأخيرة ومبررها لادعاء إصلاحه، وإذا اقتضى الأمر عزله، ولو على خلاف القانون. لا شك أن فائدة ترجى مما جرى وهي ان يدرك أي قاض أن حصانته في عدله وانحيازه لمصالح الناس، وأن الجميل الذي يظن أنه يجازى به السلطة التنفيذية لم ولن تجازيه بمثله، بل سيقدم لها المبرر لادعاء الإصلاح.
بقي القول، هل لا زال هناك من يظن أن هذه العملية إصلاح؟ ألم يكتب قرار الإصلاح في غرف مغلقة؟ وكتب قرار التراجع عن بعضه في غرف مشابهة. والعملية ما زالت قائمة ومستمرة، والمهمة سيتم إنجازها، وكما تعودنا، في نهايتها ستخرج ذات الأصوات المصلحة تطالب بالإصلاح. فثقة المواطن يمكن استحضارها، والإحصاءات الترويجية يمكن إعلانها، والنهج جاهز لإعادة إنتاجه. ولا بأس ان يراهم صاحب الأمر أهلا للخبرة، ولا بأس من تهنئتهم عند إعادة اختيارهم في عملية جديدة هدفها الترويج لوهم الإصلاح.