د. إبراهم أبراش
وقائع التاريخ ونظريات علم الاجتماع السياسي تؤكد بأن الحرب ووجود خطر خارجي يتطلب دوما تجميد الخلافات السياسية والمذهبية الداخلية وتوحيد الشعب لمواجهة العدو المشترك، كما يتطلب التعالي عن الجدل الفكري والنظري إلى الممارسة الوحدوية الفاعلة على الأرض. على عكس هذا القانون الطبيعي والعلمي تتصرف الأحزاب الفلسطينية . الاحتلال والعدوان المتكرر والاستيطان والحصار ، وهي ممارسات لا تستهدف منطقة فلسطينية دون غيرها، ولا حزبا دون غيره، بل الكل الفلسطيني:أرضا وشعبا . في هذا السياق يأتي العدوان الإسرائيلي الأخير عَقِب عملية الخليل والموقف الفلسطيني منها. فبدلا من أن تسير الأمور نحو مزيد من الوحدة الوطنية لمواجهة هذا الخطر المشترك، يستمر الانقسام وتتعثر جهود المصالحة.
ليس مصادفة أن تجري عملية الخليل- خطف أو اختفاء 3 مستوطنين- وردة الفعل الإسرائيلية المبرمجة مسبقا، متزامنة مع جهود المصالحة وتشكيل حكومة توافق وطني، ومتزامنة مع مأزق إسرائيل الدولي . فلم يمر شهر على تشكيل حكومة التكنوقراط التي يُفترض أنها حكومة توافق وطني،على الأقل بين فتح وحماس ، أو حكومة مصالحة وطنية وإنهاء الانقسام ،كما قال الرئيس أبو مازن وقبله خالد مشعل ، حتى عاد الخطاب الإعلامي للطرفين ، لمرحلة ما قبل المصالحة ، مشحونا ومدججا بمفردات التشكيك والاتهامات المتبادلة،وعاد الجدل الفكري والنظري حول مفاهيم الانتفاضة والمقاومة والتنسيق الأمني، وهي أمور يُفترض أن سنوات من حوارات المصالحة قد توصلت لتفاهمات أولية حولها ، والتقدم بالمصالحة كفيل بتفكيك استعصاءاتها.
في حقيقة الأمر لا نرى مبررا مقنعا يعبر عن أهداف وطنية لهذا الانزلاق أو الهروب من المصالحة ، والارتداد نحو مواقف حزبية ضيقة، والعودة لفتح ملفات التنسيق الأمني والانتفاضة والمقاومة . اتفاق المصالحة في القاهرة كان يتضمن لو تم تنفيذه بحسن نية حلا ،أو مقترحات حلول، لقضايا التنسيق الأمني والانتفاضة والمقاومة . كان يفترض أن يؤدي ما تقوم به إسرائيل بعد عملية الخليل إلى مزيد من الإصرار على المصالحة ، وليس النكوص عنها . وعليه ، فإن كل من يحاول التهرب من المصالحة إنما يساعد إسرائيل في جهودها لإفشال المصالحة وتنفيذ مخططاتها التي لا تستثني أحدا.
لم يُستجد شيئا على موقف السلطة، حتى تصريحات الرئيس أبو مازن حول التنسيق الأمني والانتفاضة ليست جديدة ، وحماس وبقية الفصائل يعلمونها جيدا ، كما أن عملية الخطف ليست بالأمر الجديد أو غير المتوقع ، فقد صرحت وطالبت حركة حماس وفصائل أخرى وجموع الشعب المعتصمين في خيم التضامن مع الأسرى ، قبل تشكيل حكومة التكنوقراط وبعدها، بضرورة خطف جنود للرد على الصلف الإسرائيلي ورفض إسرائيل المطلب الوطني العام بإطلاق سراح الأسرى ، ووقف الاعتقال الإداري . أيضا عدوان هذه المرة ليس بالجديد ، حيث هو نسخة معدلة من عملية السور الواقي أواخر مارس 2002 بعد تفجير فندق بارك الذي قام به مقاتل من حماس، ونسخة معدلة من الحرب المعممة على الفلسطينيين بعد خطف ثلاثة فصائل فلسطينية بينها حركة حماس للجندي الإسرائيلي شاليط في يونيو 2006 ؟ .
إذا كان كل ما سبق ليس بالشيء الجديد أو المفاجئ ، وإذا كان هدف المصالحة أساسا مواجهة كل هذه التحديات ، فلماذا تلجأ بعض الفصائل لمحاججة (المصادرة على المطلوب) وتفجر خلافات عبثية ؟ لماذا هذه العودة غير الحميدة لمربع الانقسام ؟ ولماذا انهارت آمال المصالحة ، أو هكذا يبدو ؟.
عملية الخليل كشفت مستور تفاهمات مخيم الشاطئ
إن كانت بوادر تعثر تفاهمات مخيم الشاطئ بدأت مع مشكلة رواتب موظفي حكومة حماس المنتهية ،إلا أن عملية الخليل وتعارض المواقف بشأنها، كشف مستور (الفهلوة السياسية) التي تصرف بها أقطاب لقاء مخيم الشاطئ مع قضية مصيرية للشعب . الحرب المعممة التي تشنها إسرائيل على الكل الفلسطيني بدلا من أن تؤدي لمزيد من الإصرار على المصالحة وبحث سبل العمل الوطني المشترك لمواجهة العدوان ، أدت إلى إشهار الفصائل سيوفها بوجه بعضها البعض ، وحَمَّلت المسؤولية لبعضنا البعض ، ولم يقتصر أمر التشهير والاشتباك الاتهامي على حركتي فتح وحماس، بل شاركت في عملية التراشق الإعلامي وتبادل الاتهامات أطراف أعلنت أنها خارج اتفاق المصالحة ، كحركة الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية !. بات المواطن لا يشعر بأن هناك مصالحة وطنية.
سبق وأن حذرنا من فشل مصالحة مخيم الشاطئ، لأن فشل المصالحة هذه المرة يعني تكريس الانقسام نهائيا ، أو بقاء الحال إلى حين حدوث متغيرات وتدخلات خارجية تحدد مصير الشعب الفلسطيني.حيث كتبنا في مقال سابق (إن تشكيل حكومة التكنوقراط لا يعني نهاية الانقسام )، وحذرنا من خطورة التركيز على الحكومة وتجاهل بقية ملفات المصالحة، كالملف الأمني وتوحيد المؤسسات والبرنامج السياسي الخ . جاءت عملية الخليل وردة الفعل الإسرائيلية لتكشف هشاشة مصالحة مخيم الشاطئ ، وهي هشاشة تعود لسوء نية بعض موقعي الاتفاق من جانب ، وللجهل السياسي وغياب الرؤية الإستراتيجية الشمولية لدى البعض من جانب آخر.
للأسف غاب حُسن النية عند غالبية المجتمعين في مخيم الشاطئ ، حيث حماس كانت تريد من المصالحة التخلص من الأزمة المالية للحكومة ، وامتصاص غضب مصر ،مع احتفاظها بالسيطرة الأمنية في قطاع غزة تحت عنوان أنها حركة مقاومة وسلاحها سلاح مقاومة !، وحركة فتح كانت تريد تأكيد وحدانية التمثيل السياسي للفلسطينيين على كافة المستويات بما فيها المستوى الحكومي، وهو إنجاز يجعل حركة فتح ومنظمة التحرير أكثر قدرة على مواجهة إسرائيل في حالة العودة إلى طاولة المفاوضات ، ويقوي الموقف الفلسطيني في المحافل الدولية وفي معركة الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
كان من الممكن لكل طرف تحقيق الحد الأقصى من أهدافه لو توفر عنصر حسن النية ،والإحساس بالمسؤولية الوطنية التي تعلو على كل حسابات حزبية ، والنفس الطويل المصحوب بالإصرار على نجاح المصالحة ، بدلا من أن يصيبهم الهلع من ردة الفعل الإسرائيلية على عملية الخطف ، وخوف كل طرف من فقدان ما بيده من سلطة .
فشلت حماس ولم تنتصر فتح
ولكن . لم تؤسس تفاهمات مخيم الشاطئ على مراجعات إستراتيجية للطرفين تؤدي لاستراتيجيه وطنية توافقية،وكان العامل الخارجي أكثر تأثيرا على التوجه نحو المصالحة . حركة حماس سجلت فشلا على كافة المستويات ، لكن حركة فتح بالمقابل لم تنتصر في خياراتها ومراهناتها على المفاوضات كما لم تُقم نموذجا مثاليا للحكم في الضفة الغربية . أو فلنقل نجح الجيش والشعب في مصر في هزيمة الإخوان المسلمين ،وفشلت وانهزمت حماس بالتبعية عندما قبلت أن تكون ملحَقَا وتابعا لجماعة الإخوان وقطر ، ولكن انتصار الجيش في مصر لا يعني انتصارا لحركة فتح ونهجها. أرادت حركة فتح ومنظمة التحرير الاستفادة من (انتصار) غيرهما دون عمل مراجعة لنهجهما وبنيتهما الداخلية ، وعلاقاتهما الخارجية خصوصا مع إسرائيل . كما أن الطرفين – فتح وحماس- قفزا على حقيقة يعرفانها جيدا وهي أن توحيد غزة والضفة في إطار سلطة وحكومة واحدة لن يتم إلا في إحدى الحالتين :في ظل موازين قوى مختلفة – حرب أو انتفاضة أو تدخل دولي - تفرض على إسرائيل القبول بهذه الوحدة ، أو في ظل تسوية سياسية توافق عليها مختلف الأطراف بما فيها حركة حماس.
ومع ذلك ، ما زال بالإمكان إنقاذ المصالحة، ومواجهة كل التحديات والمخاطر التي تهددها بما فيها تداعيات عملية الخليل. حتى نقطع الطريق على إسرائيل لتحقيق أهدافها بإفشال المصالحة ، يجب الإصرار على المصالحة وسرعة حل مشكلة الرواتب والموظفين وفتح معبر رفح ،والاستعداد لإجراء الانتخابات في موعدها . كلما قطعنا خطوة في مسار المصالحة سنصبح أكثر قوة وقدرة على مواجهة التحدي الأكبر وهو توحيد الضفة وغزة في إطار سلطة وحكومة واحدة ،كجزء من المصالحة الإستراتيجية التي تُمكِن الفلسطينيين من الاستعداد للتحدي الأكبر وهو تحرير الأرض وقيام الدولة المستقلة .
[email protected]