الحدث ـ مي هماش
ألّا تعتقدون أنَّ الاستهانة بالذكاء الأمني الاستعماري تخلق حالة من الحقد وتفشيًا للسلطة بكل نفس مقاوم، ومن هذا المبدأ يبدأ الصهيوني بصياغة أدواته العنيفة لإنهاء الفلسطينيين، فيبني المُعتقلات ويُطور على تقنياته وقوانينه ليصبح مكان لا يُطاق، يُصعب فيه تعريف الحياة والتعذيب، وكذلك ينتهج سياسة هدم منازل الفدائيين، وفرض الغرامات المالية العالية، ويُصادر الأراضي، ويُهجِّر السكان قسريًا وبكل السُبل المتاحة، ويستمر بفصل الجغرافيا والسيطرة على العلاقات الاجتماعية، ولكن الأكثر تطرفًا هو اعتقال جثامين الشهداء.
اعتقال الجثامين سياسة صهيونية تحتجز جسد الشهيد وتحول دون عودته إلى أهله، وإجراء مراسم التشييع المناسبة لمقاومته ورمزيته، ويستخدمه المستعمِر كورقة تفاوض، وإن لم تكن بمقابل مادي كالصفقات المعروفة، لكنها تفاوض مع العمل الثوري، رسالة للأجساد المقاومة، ورسالة إلى الثقافة الّتي ستنشأ عليها الأجيال القادمة، إنَّها رسالة العقاب الّذي سيطول جسد المقاوم الفلسطيني وإنّ كان ميتًا، رسالة الضبط للعائلات بفقدان الشعور بالأمان والراحة، رسالة للانتظار مع استخدام مخيلة واسعة حول الممارسات الّتي من الممكن أن تكون قد مُورست على جسد الشهيد، إنَّها رسالة لتحويل جسد الشهيد إلى جسد غائب وتمنع ظهوره.
لأنَّ هذا الجسد انتزع حق السلطة والكرامة على جسده، وإدارة شؤون موته من خلال فعل الاستشهاد، ولأنّه فنَّد مقولة الأمن الحديدي الاسرائيلي، حيث اخترق الفلسطيني بجسده فقط نظاما وجهازا متكاملا من القوة العسكرية وأدوات المراقبة الدقيقة، ووضع خطوة حرية جديدة، ووسم اسمه على المكان وارتبط فيه تمامًا، فعلى الرغم من سيطرة الاستعمار على مكان ما واستلاب اسمه ومعناه، إلّا أنَّ هذا المكان يُعرَّف باسم الشهيد والعملية الّتي قامت فيه، فالشهيد يبني معرفة جديدة من خلال جسده أيضًا، ويُعيد المعنى السياسي والثقافي على المكان الفلسطيني.
كما أنَّ جسد الشهيد هو جسد جمعي، نتشاركه جميعًا، ونتشارك بطولته جميعًا بفخر ونتشارك خسارته بالحداد، فالشهيد هو الممارسة الحرة لمخزوننا الوطني الساكن، هو الصوت الداخلي الّذي نسمعه ويطغى على وعينا في كل موقف وتفصيل يتم فيه استباحة كرامتنا وأرضنا، ولا يهدأ هذا الصوت طالما أنَّ الفلسطيني لا يستطيع أنّ ينتمي لوطنه بشكل محسوس، ولا يستطيع أن يعود لقريته ومدينته وخربته دون تصريح زيارة مُعللًا بالكثير من الأسباب، وسيبقى هذا الصوت يتعالى في حضرة كل أسير فلسطين داخل المُعتقل يدفع ثمن حريته، فالشهادة هوية فلسطينية كان للاستعمار الصهيونية حدودًا واضحة في رسمها، ولا يمكن لهذه الهوية إلّا أنّ تظهر طالما الاستعمار قائم.
الفلسطيني الشهيد يبقى كائنًا موجودًا وله حياته السياسية (لأن جثمانه غائب/غير مرئي) والّتي تتحول إلى اجتماعية حينما تجري إعادة جسده إلى عائلته من معتقلات الجثامين الاستعمارية، لذلك سيبقى الفلسطيني يطالب بحقه في جثمان الشهيد تحديًا للسلطة الاستعمارية، وتحديًا لكل ما يمس كرامة الشهيد، وتكريمه والاحتفاء به كونه كسر مألوفية الضعف لدى الفلسطيني والقوة والأمن لدى الصهيوني.
فهذا يُثبِت للمستعمر الاستيطاني الصهيوني بأنَّ جسد الشهيد يحمل ذات المعاني من المقاومة، وإنّ لم يستطع المستعمر فرض سلطته وهيمنته بمؤسساته العقابية على جسد المقاوم ليجعله عبرة للردع، إلّا أنَّ الاستعمار الاستيطاني الصهيوني وجد طريقته لمنع مرور هذا الجسد المقاوم بطبعه دون الإفلات من العقاب، بالعقاب على جسد الشهيد وجسد المجتمع، وهكذا يعتبر مجتمع الاستعمار الاستيطاني الصهيوني نفسه يملك سيطرته حتى على الجسد الميت، والّذي سبق وأنّ كان جسدًا فاعل ومقاوم.