لطالما آثرت التزام الصمت تجاه الأصوات التي تعالت لإصلاح القضاء على حد تعبيرهم ، ولكن ما أثار حفيظتي تصريحات رئيس مجلس القضاء الأعلى الانتقالي المتكررة ولغة الخطاب الغريبة والمسيئة التي يستخدمها في المحافل الإعلامية، والاتهامات الجدباء في قضية النائب العام لتسويق نفسه وازدراء زملائه من القضاة والمحامين، ومن هنا إن ما يُراد بالمجلس الانتقالي الذي أتى على ظهر حصان السلطة التنفيذية ليس سوى زيادة في الاستحواذ على ما تبقى من سلطة قضائية تناوبت عليها مخالب النفوذ والسياسة .
وعندما بدأت صحوة القضاء والتحرر من الهيمنة وذلك بأحكامه الشهيرة في تصويب بعض التعيينات الفاسدة، والتي طالت جهات ذات نفوذ وسيادة، ظهرت أهزوجة الإصلاح القضائي مدعين أن علل القضاء في صحوته، وعندما كان القضاء في غيبوبة تامة إبان ذروة الانقسام كانت ذات الحناجر بكماء النطق والنطيقة. يا لها من مفارقة بالأمس تلاعب رئيس مجلس القضاء الأعلى بتاريخ ميلاده مرتين كي يبقى على سدة الحكم مدة من صنيع الأيام أو الأشهر، وبالرغم من بلوغه السبعين عاماً ونيف لم يتنازل عن الكرسي مما دفع بعض القضاة في حينها لرفض تعليماته.
من منا ينسى التدخل السافر والتلاعب العلني في تشكيل هيئة المحكمة التي أصدرت القرار المؤقت الشهير بوقف العمل في براءة الذمة في عهد القاضي عيسى أبو شرار وقام بتنحية القاضي محمود حماد عن نظر الدعوى وترأس الهيئة بذاته وقام هو بالنتيجة برد الدعوى. إن الماضي ليس ببعيد لأصحاب العقول النيرة، وسيسجل التاريخ أن مذبحة القضاء جاءت تحت عباءة الإصلاح، وكيف يأتي الإصلاح من شخص أخذ سلطة القاضي عنوةً ويجلس على سدة الحكم إرضاءاً لنفسه، على الرغم من أن المحكمة الدستورية في قرارها رقم (13) لسنة (04) قضائية جردته من اَي صفة قضائية. كيف يمكن إصلاح القضاء وهو يقوم بإخفاء قضية تحمل الرقم 213/2019 تتعلق بشخصه في أدراج مكتبه؟
عندما يستخدم رئيس مجلس القضاء الأعلى الانتقالي لغة دون المستوى المطلوب في حديثه على الإعلام مثل (مهنة المحاماة غير سوية وريحة القضاء طالعة ) وهو ما لا يليق بمنصب رئيس مجلس القضاء الاعلى، يكون بذلك أقام الشبهة حول نفسه بفقدانه الأهلية ويجعل التحقق منها أمراً وجوبياً في هذه المرحلة الحرجة. أي قاض هذا الذي يسلط سيف العزل والاستيداع والتقاعد وغيره على رقاب القضاة لمجرد أن يبدوا رأياً في شأناً عاماً على وسائل التواصل. لقد لغوت كقاضي وكصانع تشريعات يمقتها كل كل قانوني، ولا أدل على ذلك من قرار المحكمة الدستورية الأخير، والتعديلات التي نراها على قانون السلطة القضائية بما ينتابها من مخالفات دستورية ومخالفات لأبسط قواعد استقلالية القضاء عن السلطة التنفيذية.
على رسلك ... فقد أدخلت القضاء في أتون الفوضى وعرضت أحكام القضاء لشبهات عدم الدستورية للشك بدستورية وجودك واصلاحاتك التي تدعيها، "ولولا أن لطفاً من الله يجري والعبد لا يدري" لكنت أوصلتنا بارتجالك في شأن العدالة إلى ما هو أسوأ مما ادعيت به بشأن القضاء، ولقد عرفناك من تصريحاتك، والتي تكفي للحكم على مكنوناتك قبل أن نرى قراراتك وباقي أحكامك بشأن القضاء والقضاة.
وأخيراً، كلٌ يرى بعين طبعه ، فعقلية الثأر لا تبني قضاءً في حين صدق النوايا تبني أمم، أنت تشرعن شيئاً واحداً بكل الإجراءات حتى اللحظة، هو أن الوحيد الحر في الخروج عن القانون هو الدولة. ليتك تحدثت عن إصلاحات تشريعية تتعلق بالحقوق والحريات والعقوبات، بل تركت كل ذلك وذهبت لإجراء تعديلات تشريعية تتعلق بإحكام القبضة على القضاة ومساس استقلاليتها وهيبتها. ليتك تحدثت عن عشرات آلاف قرارات المحاكم الشرعية الصادرة عن المحكمة الشرعية العليا التي لا وجود دستوري لها والتي أبطلت وجودها المحكمة الدستورية العليا بعد أن أصدرت تلك الأحكام المتعلقة بحقوق الله والعباد من نساء وأطفال ورجال. ليتك تحدثت عن حقوق المتهمين المدنيين الذين يحاكمون أمام المحاكم العسكرية. ليتك تحدثت عن مئات الأحكام القضائية بالإفراج والتي تمتنع الأجهزة الأمنية عن تنفيذها. للاسف تكرست مشكلة القضاء لديك بإحالة القضاة الى التقاعد وفي تعزيز صلاحيات المجلس والسلطة التنفيذية بشكل يمس مبدأ فصل السلطات ومبدأ استقلال القضاء. مفهوم العدالة أوسع مما تدعيه بحق القضاء.