السبت  23 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

هل مخزون الذاكرة قابل للنفاذ والنضوب؟ (مذكرات مدّرس)

أحمد رباص

2019-09-21 08:23:03 AM
هل مخزون الذاكرة قابل للنفاذ والنضوب؟ (مذكرات مدّرس)
أحمد رباص

من كان يظن أن محاولاتي هاته لمناوشة الذاكرة سوف تربط الماضي بالحاضر؟

مناسبة طرح هذا السؤال تتمثل في إعجاب معلم -كان يعمل قبل سنتين في إحدى المدارس التابعة لمجموعتنا- بهذه المذكرات التي زودته بمعلومات عن الماضي القريب للمنطقة التي يتواجد بها منذ سنوات. هذا الإعجاب تطور إلى رغبة في المشاركة في كتابة القادم منها، وذلك عن طريق موافاتي بصور رائعة لأماكن وطأتها قدماي وشاهدتها عيناي؛ وذلك إسهامًا منه في إنعاش ذاكرتي.

هل مخزون الذاكرة قابل للنفاذ والنضوب؟

الجواب هو لا! حيث من البديهي أن الوقائع والأفكار والمشاعر، التي مررت بها خلال هذه المدة، تبقى عصيّة على الحصر والتحديد، وهي في الواقع عبارة عن طبقات تراكم بعضها على بعض.. منها ما زال حاضرًا في الذاكرة ومنها ما طواه النسيان. وما التذكر إن لم يكن انتشال الأخيرة من هامش الموت ومنحها حياة جديدة؟ ربما يكتنف هذه المحاولة زمرة من الصعوبات انتبه إليها زميلي المذكور قبل قليل، فأقترح علي مشكورًا صورًا من عين المكان من أجل إنعاش ذاكرتي.

في السنة ما قبل الأخيرة من أصل خمس سنوات، ما زلت أذكر كيف أني كنت ذات مساء عائدًا من “ورزازات”، وبينما أنا على أهبة الاستعداد للصعود للضفة الأخرى واستئناف مسيري على القدمين نحو المجمع بعد عبوري لنهر درعة من مكان يدعى “إسيل” إذا بي ألتفت يمينًا، فتراءى لي على ضوء أشعة القمر الباهتة شبح جسم ما يتدحرج باتجاه مجرى الماء..

دفعني حب الاستطلاع للوقوف على ماهية هذا الشيء المستسلم لإرادة الماء وقوته. أسرعت الخطى على الجانب الأيسر للنهر وكأني محمول على سطح الماء القوي تياره غير مبال ببرودته.. يا للمفاجأة ويا للهول!.. أكتشفت لتوي أن الجسد المتدحرج في الماء هو لأحد زملائي المحسوبين على مجموعتنا المدرسية..

كان المسكين يحاول عبور النهر بعدما كان في رحلة خارج البلدة، وعندما بلغ جانب النهر وهمّ بالصعود إلى اليابسة زلت قدماه بسبب لزوجة الطين المشبع بالماء، فسقط فيه وجرفه التيار لمسافة ليست بالقليلة. ونظرًا لكونه سكرانًا، لم يستطع استجماع قواه والنهوض ليحاول من جديد استكمال طريقه.

إشفاقًا لحاله وإنقاذًا لروح بشرية مشرفة على الهلاك، انتشلته بقوة من الحفرة التي وقع فيها، وسحبت جسده إلى المكان الذي اعتاد العابرون الصعود منه إلى بر الأمان.

كان هذا المعلم، القادم من المدينة الحمراء، نحيل الجسم طويل القامة، وأغلب الظن أن مستواه الدراسي لم يتجاوز  البكالوريا، كانت علاقتي به سطحية حيث اقتصرت على تبادل التحية وبعض المجاملات العابرة، وكان هذا شأنه مع سائر أعضاء طاقم التدريس العاملين في المؤسسة.

ذات يوم، دخلت إلى مقر الإدارة.. الطيني.. والمسكون بالقوارض، فوجدت المدير المجلبب وزميلي الورزازي وهما يغتابان زميلنا المراكشي، حدث ذلك قبل أن أعثر عليه وهو غارق في النهر.

رغم استوائي جالسًا على مقعد أمام مكتب المدير، استمر الأخير وذراعه اليمنى، كما استقر في أذهاننا بحكم العادة، في (نهش) المعلم المراكشي، ولم يحولا مجرى الكلام الاغتيابي وكأنهما يريدان مني أن أنخرط معهما في هذه الفعلة الشنعاء..

تحرك الضمير الأخلاقي داخلي، ورميت جانيًا أقنعة النفاق الاجتماعي منددًا -بصوت مسموع- بهذا الانحراف الذي لا يناسب من يفترض فيه تربية الأجيال وقلت لهما بصريح العبارة:

“حشومة.. هاد الشي ما يديروه حتى عمال البلدية!”

ثم انصرفت عنهما دون أن يصدر عني سلوك ينم عن الغضب.

بعد أيام قلائل، أمدني المدير المجلبب بمراسلة نيابية نسب فيها إلي تهجمي عليه بعنف لفظي.

ومما علق بذاكرتي بخصوص زميلي المراكشي -الذي اتخذت منه موضوعًا لهذا الفصل- ما حكاه ليّ أحد المعلمين عن كيف أن صاحبنا كان يحاول التقرب من المعلمة التادلاوية “فائقة الحسن والجمال”، خاصة وأنها تعمل معه في المدرسة المركزية وتسكن قريبًا منها، ومن بين محاولاته على هذه الشاكلة: إقدامه في نهاية يوم رمضاني على إهدائها وجبة إفطار تضم حسائية مملوءة ب”الحريرة”، لكن لسوء طالعه، عثرت قدماه وفقد توازنه فسقط “البلاطو” من يديه وتدفق الحساء على الأرض أمام باب المعلمة.

ومادام الشيء بالشيء يذكر، فقد بدا لي أن ما وقع لهذا المعلم شبيه بما حدث في تزامن – ربما – لمعلمة كانت تابعة لمجموعة مدرسية قروية في منطقة الشاوية.

ففي أحد الأيام الرمضانية، قررت هذه المعلمة العاملة في المدرسة المركزية المجاورة لضريح ولي صالح (منحها اسمه) تناول وجبة إفطارها مع معلمي مدرسة واقعة فيما وراء الضفة الشمالية لأحد الوديان، تجشمت المسكينة عناء قطع مسافة طويلة مشيًا على الأقدام، وهي تحمل قدرًا مملوءًا بـ”الحريرة” إضافة لأشياء أخرى، لكن عند وصولها إلى المدرسة أراد معلم أن يساعدها بالتخفيف من ثقل حملها غير أنه لم يحكم قبضته على القدر فسقط أرضًا واختلط محتواه بالتراب.