منذ تكليفه برئاسة الوزراء؛ أعلن د. محمد اشتية التزامه ببرنامج وطني للانفكاك عن دولة الاحتلال وتعزيز مسيرة الريادة والتمكين، مترجما ذلك باستحداث وزارة خاصة للريادة وتخصيص جزء هام من جدول أعمال الفريق الوطني للتنمية الاقتصادية لبلورة استراتيجية شاملة للانفكاك. في هذه الأثناء قررت إسرائيل وقف تزويد الكهرباء في منطقة امتياز شركة كهرباء القدس بسبب تراكم الديون عليها لشركة الكهرباء الإسرائيلية، التي تزود الضفة الغربية بأكثر من 98% من حاجتها من الكهرباء.
من ناحية أخرى، أعلنت القيادة الفلسطينية مراراً عن رغبتها بانتشار توليد الكهرباء من الطاقة الشمسية كترجمة عملية لسياسة الانفكاك والتمكين، وتتغنى جهات الاختصاص في السلطة بثورة استخدام الطاقة الشمسية، مرتكزين بذلك على الانتشار الواسع لاقتناء السخانات الشمسية منذ سبعينيات القرن الماضي، ومتناسين أنه خلال 7 سنوات منذ الإعلان عن استراتيجية الطاقة المتجددة؛ ما زالت فلسطين غير قادرة على النمو في هذا المجال، ولا تتجاوز القدرة الكلية لمجمل ما تم تنفيذه من مشاريع طاقة شمسية 50 ميغا واط ذروة، بالمقارنة مع الأردن التي نشطت في هذا المجال بنفس العام ونفذت حتى الآن أكثر من 1,800 ميغا واط ذروة. وتستدعي هذه المقارنة المحزنة مصارحة مع الذات من الجميع.
برأيي، وعلى الرغم من الحاجة الماسة لمصادر بديلة للطاقة في سياق مسيرة التمكين والانفكاك عن إسرائيل؛ فإن مشاريع توليد الكهرباء من الطاقة الشمسية ما زالت في مهدها نتيجة لمجموعة عراقيل ذاتية وتحديات فنية موضوعية، وليس من المتوقع أن نشهد طفرة في توليد الكهرباء من الطاقة الشمسية بالمدى المنظور، إلا إذا أبدت السلطة الفلسطينية التزاما لا رجعة فيه وأظهرت إرادة سياسية وإدارية حقيقية لإحداثها، وألزمت نفسها أولا ومن ثم جميع الشركاء في تمكين هذا القطاع الحيوي، ووفرت الظروف المثلى للتفاعل الإيجابي مع فرص النمو فيه، عبر تذليل العقبات والمعيقات التشريعية والسياساتية والإجرائية، لتحويل هذا القطاع من مسرح لممارسة العلاقات العامة إلى جاذب حيوي للاستثمار، وممارسة عملية يومية للانفكاك عن إسرائيل في مجال الطاقة.
قبل أسابيع، خصص رئيس الوزراء جلسة خاصة للفريق الوطني للتنمية الاقتصادية لمناقشة سبل تمكين قطاع الطاقة المتجددة، واستمع إلى آراء الخبراء وتوصياتهم بشأن معيقات التمكين وسبله، وإننا بالتأكيد نثمن هكذا مبادرة، ولكننا ننتظر ترجمة لما أسفرت عنه تلك الجلسة على أرض الواقع. وإلى أن يحدث ذلك، سنستمر بالبحث عن سبل الانفكاك نظريا، ونمارس تعميق التبعية عمليا في مجال الطاقة.
من واقع إيماني بحتمية التغيير ورغبة رئيس الوزراء والقياده بإحداثه، أشير في هذه العجالة إلى أهم المعيقات والتحديات التي تمنع نمو قطاع الطاقة المتجددة، وأطرح بعض المقترحات لحلها.
أولا: تتسم البيئة التشريعية والسياساتية والإدارية في المؤسسات العامة المشرفة على قطاع الطاقة بالجمود والتقوقع خلف قوالب تشريعية بالية، مما يحتم إطلاق مسيرة إصلاحات عميقة في هذه البيئة، بما يضمن وجود قانون عصري للطاقة المتجددة، على أنقاض القانون الساري منذ عام 2015 الذي كرس إحكام السيطرة على هذا القطاع وتعقيد إجراءات وخطوات الاستثمار فيه. ويشمل ذلك أيضا مراجعة فورية للأنظمة الصادرة بمقتضاه، التي انحازت بشكل سافر لمصالح موزعي الكهرباء على حساب المستثمرين والمستهلكين، وتطوير عمل المؤسسات الإشرافية على قطاع الطاقة، وفصل مجلس تنظيم قطاع الكهرباء (والذي كنت عضوا غير فاعل فيه) عن سلطة الطاقة ومنحه صلاحيات واسعة للرقابة على جميع موزعي الكهرباء وليس الشركات المنظمة فقط، وتعزيز البنية الإدارية والسياساتية لشركة النقل الوطنية للكهرباء، وتخصيص موارد مالية من سلطة النقد على شكل صندوق دوار لإقراض المستثمرين بشروط وتكلفة معتدلة، خاصة وأن القطاع المصرفي يتعامل معه بشكل تجاري بحت وبشروط شبه تعجيزية.
ثانيا: فكفكة الطاقة السلبية في مؤسسات السلطة الفلسطينية وتجنيدها السلطة لتكون عاملا إيجابيا مساعدا للاستثمار في القطاع، وعلى رأس ذلك إلزام وزارة المالية بإصدار كفالات سيادية للمستثمرين، ومراجعة سياسة شراء الكهرباء المولدة من الطاقة الشمسية، بحيث تعطى الأولوية لشراء الكهرباء المولدة محليا على حساب ما يتم شراؤه من إسرائيل، وإعادة النظر بالرسوم التي يجبيها موزعو الكهرباء مقابل ربط الأنظمة الشمسية على الشبكة، وتخفيض رسوم التخزين على الشبكة (Net Metering) ونقل الطاقة المنتجة (Wheeling) بمقدار النصف، وإصدار أنظمة خاصة بتمكين المستثمرين من بيع الطاقة المنتجة للمستهلكين مباشرة (Pooling).
ثالثا: تشديد الرقابة على موزعي الكهرباء الذين يقاومون إمكانية نمو هذا القطاع بطرق مختلفة مثل الادعاء بأن شبكة الكهرباء لا تتحمل، وتأخير ربط الأنظمة التي يتم بناؤها، ومخالفة القانون في آلية محاسبة المستثمرين على الطاقة المنتجة ووضع اشتراطات فنية وتحميل المستثمر تكاليف وأعباء لا ضرورة لها، لدرجة إن معاملات ترخيص وربط الأنظمة الشمسية في إحدى شركات التوزيع الكبرى قد تستغرق عاما كاملا. ويجري كل ذلك على قاعدة أن كل كيلو واط يتم توليده من الطاقة الشمسية هو فرصة ضائعة لتحقيق العائد المالي لموزعي الكهرباء.
رابعا: تطوير سياسات واضحة محفزة للاستثمار في مجال الربط على شبكة الكهرباء وإلزام الموزعين بها، بما في ذلك إعادة صياغة استراتيجية وطنية لتنمية قطاع الطاقة المتجددة يتم تطويرها بالشراكة بين جميع الأطراف وعلى رأسها القطاع الخاص، إضافة إلى الاستثمار في دراسة وطنية شاملة لتقدير قدرات شبكات الكهرباء على استيعاب الطاقة المولدة من الشمس، وتأهيلها لمضاعفة قدرتها على ذلك.
خامسا: تنظيم إدارة الاستثمار في الطاقة الشمسية في المجالس البلدية والقروية، وتطور قدراتها المتعلقة بهذا المجال، بما في ذلك إطلاق منظومة متكاملة للرقابة عليها بشأن تعاونها مع المستثمرين في الطاقة الشمسية، وتخصيص مساحات شاسعة من الأراضي الحكومية فيها للاستثمار في الطاقة الشمسية.
هذه خمس توصيات أعتقد أن تبنيها من الحكومة والعمل على تنفيذها سيشكل انقلابا في مدى جديتها في التعاطي مع هذا القطاع، وإنني أدعوها لتشكيل فريق وطني متكامل (يحظى بصلاحيات) للتعاطي مع القضايا والحلول المقترحة بموضوعية، وممارسة الشراكة الحقيقية مع القطاع الخاص في فك لجام هذا القطاع السيادي، الذي يشكل تبنيه ترجمة أمينة لفكرة الانفكاك عن إسرائيل، ودون ذلك تبقى التزاماتها المعلنة مجرد حملة علاقات عامة.
* رئيس اتحاد جمعيات رجال الأعمال
ونائب رئيس اتحاد صناعات الطاقة الشمسية في فلسطين