فكر ونقد- عبد الرحيم الشيخ
استهلال لم يكتُبه المترجمُ، ولن يرضى به المُترجَمُ عنه.
هل يُمكن لمن حاربَ كجندي، ورأى غضْبَةَ الحرب، واستشعرَ الرَّب في دينهِ على جسده مرتدياً جلدَ الضَّحيَّةِ، أن يكتب الشعر؟ هل الشعرُ متسامحٌ في قيمتِه إلى هذا الحدِّ مع فكرة "السلبِ"، هل يصلحُ أن يكون أداة عسكرية بلونٍ، بقصدٍ أو عن دونِهِ، تُعيدُ طلاء الكينونةَ بلونٍ مقفاً على أجسادِ الضحيةِ؟ هل يمكن أن يكون العلمُ المرفوع في القصيدةِ علم العدو والشاعر معاً؟ هل يُمكنُ للشعرِ أن يكون أعور؟
في القصائد المترجمة التالية، حين يُبرقُ لنا عبد الرحيم الشيخ، برسائلَ متوازية عن الشعر والعدو، عبر ما نقله لنا من "يهودا عاميخاي"، والذي وصفهُ، في مقامٍ آخر، بـ "شاعرِ العبرية الأكبر" بعد الملك سليمان، كان الشيخ، قد سردَ كيفَ يبدو "الشاعرُ"، الذي مِثلُهُ، ضحية نفسهِ أو غيرهِ، وكيف يكون قادماً من البحرِ لـ "أرضِ ميعاده"، مُتلحِّفاً بألقِ الشِّعرِ المُؤسِّسِ لذاكرةٍ مثقوبة.
هل نحنُ هنا في مقامِ مساءلةِ الشاعر، أم العدّو؟ أم الشاعرِ العدو؟ ولا نقولُ العدو الشاعر؟
لا ندري، فتلك إحدى حكم الشعر، تلك إحدى خبيئاتِه.
(1) القدس
على سطحِ بيتٍ في البلدةِ القديمةِ،
غسيلٌ معلَّقٌ في آخرِ ساعاتِ شمسِ الظهيرةِ، أغطيةٌ بيضاءُ لامرأةٍ،
هي عدوَّتي، منشفةٌ لرجلٍ هو عدوِّيْ، يمسحُ بها عرقَ حاجبيهْ.
في سماءِ البلدةِ القديمةِ،
طائرةٌ ورقيَّةٌ. على الطَّرفِ الآخرِ للخيطِ،
طفلٌ لا أراهُ، بسبب الجدارْ.
نرفعُ أعلاماً كثيرةً،
يرفعونَ أعلاماً كثيرةً، ليجعلونا نظنَّ أنهم سعداءْ،
لنجعلُهمْ يظنُّونَ أننا سعداءْ.
(2) قصيدة لانهائية
في المتحفِ الجديدِ،
مَعبَدٌ قديمٌ، وأنا في المعبدِ.
فيَّ قلبيْ، وفي قلبيَ متحف،ٌ
وفي المتحفِ معبدٌ، وأنا في المعبدِ.
فيَّ قلبيْ،
وفي قلبيَ متحفٌ.
(3) الحبٌّ، ينتهي ثانيةً
الحُبٌّ، ينتهي ثانيةً.
كموسمِ ليمونٍ، مربحٍ،
أو كموقعٍ أثريٍّ يكشفُ، من أعماقِ الأرضِ،
أشياءَ كانت ترغبُ أن تُنسى.
الحُبٌّ، ينتهي ثانيةً.
حينَ تُسوَّى بنايةُ عاليةٌ بالأرضِ، ويُزاحُ الرُّكامُ،
تقفُ هناكَ، في المربَّعِ الفارغِ، وتقولُ: ما هذا المكانُ،
وقَفَتْ فيه العمارةُ، بكلِّ ما فيها من طوابقَ وساكنينْ؟
من الوديانِ البعيدةِ بوسعكَ أن تسمعَ
صوتَ جرَّارٍ وحيدٍ يعملُ، ومن الماضي البعيدِ،
صوتَ شوكةٍ تضربُ صحن بورسلان، تخفق صَفار بيضةٍ،
مع السُّكرِ لطفلةٍ… تضربُ، تضربُ.
(4) لا أعرفُ إن كانَ التاريخُ يعدُ نفسه
لا أعرفُ،
إن كانَ التاريخُ يعدُ نفسَهُ،
لكنَّني أعرفُ أنك لا تعيدينْ.
أذكرُ أن المدينةَ
كانت مقسَّمةً، لا بينَ اليهودِ والعربِ،
بل بيني وبينَكِ، حينَ كُنَّا معاً.
صنعنا لأنفسنا رحماً من المخاطرِ،
بنينا لأنفسِنا بيتاً من الحروب المميتةِ،
كالناسِ في أقاصي الشَّمالِ، يبنونَ بيتاً آمناً من الجليدِ المميتْ.
لقد وُحِّدَتْ المدينةُ،
لم نكن فيها معاً. ولكنَّني الآنَ أعرفُ،
أنَّ التاريخَ لا يعيدُ نفسَهُ، وكنتُ أعرفُ أنَّك لا تعيدينْ.
(5) ذكريات مجنونة
في هذه الأيامِ،
أفكِّر في الرياحِ التي في شَعْرِكِ، وفي سنينيَ، في هذا العالمِ،
التي سبقَت مجيئكِ، وفي الأبديَّةِ التي قطعتُها قبلكِ.
وأفكِّرُ في الطَّلقاتِ التي لم تقتلنيْ،
لكنَّها قَتلتْ أصدقائيَ، الذين كانوا أفضلَ منيَ،
لأنهم لم يرغبوا في الحياةْ.
وأفكِّر فيكِ واقفةً في الصيفِ،
عاريةً أمامَ الفرنِ، أو للدقَّةِ، منحنيةً،
على كتابٍ في آخرِ ضوءِ النهارْ.
كانت لنا أكثر من حياةْ.
علينا الآنَ أن نوازنَ كلَّ شيءٍ في الأحلامِ الثقيلةِ،
وأن نرتِّبَ الذكرياتِ المجنونةَ، اليومَ، كما كانت مرَّةً.
(6) زمني، مكانك
كنا معاً في زمني، في مكانكِ.
أنت منحتي المكانَ، وأنا الزمانْ. بهدوء، انتظرَ جسدُكِ الفصولَ كي تتبدَّلُ.
مرَّت عليه الموضاتُ، قصيرةً، طويلةً، زهوراً، بحرير أبيضَ، أو معلَّقةً.
استبدلنا قيمَ الإنسانِ بقيمِ وحوشِ البرِّ،
بهدوءٍ، وتنمُّرٍ، وإلى الأبد. ولأجلِ ذلك، كنَّا على أهبة الاحتراقِ،
في أيِّ لحظةٍ، مع الحشائشِ اليابسةِ في نهايةِ الصيفْ.
تقاسمتُ معكِ النهاراتِ، لياليَ.
تبادلنا النظرةَ مع المطر، لم نكن كالحالمين، حتى في أحلامِنا.
وفي الصَّخبِ عشَّشَ الهدوءُ، في زمنيْ، في مكانكِ.
الأحلامُ الكثيرةُ التي أراكِ الآنَ فيها
تتنبَّأ بنهايتكِ معيْ، مثلَ أسرابِ النوارسِ المتكاثرةِ،
تأتي حيثُ ينتهي البحرْ.
(7) خسارة: لقد كنا اختراعاً طيباً
بتروا أفخاذكِ من أوراكيَ،
وما يهمُّنيْ، أنَّهم، كلُّهمْ، كانوا جرَّاحينَ. كلُّهمْ.
فكَّكونا، الواحدَ منَ الآخرِ.
وما يهمُّنيْ، أنَّهم، كلُّهمْ كانوا مهندسينَ. كلُّهمْ.
يا للخسارةِ. كنا اختراعاً طيباً، ومحبَّاً.
طائرةً من رجلٍ وامرأةٍ، جناحينِ، وكلَّ شيء.
حوَّمنا على الأرضِ،
… حتى أننا طِرنا قليلاْ.
(8) قصيدة حبٍّ ملكيَّة
جميلةٌ أنتِ، كالنبوَّاتِ. حزينةٌ، كالذي لم يتحقَّق منها.
هادئةٌ، كالهدوء فيما بعد. سوداءُ، مثل الوِحدة البيضاءِ في الياسمينْ.
بأنيابَ محددةٍ: كنتِ أنثى ذئبٍ، ملكةْ.
فستانُك القصيرُ على الموضةِ،
بكاؤكِ، بهجتُكِ، يأتيانِ من أزمنةٍ سحيقةٍ،
ربما من سِفرِ الملوكِ… الآخرينْ.
لم أرَ رغوةً
على فمِ حصانِ حربٍ قَبْلَكِ، لكنَّكِ، حين غمرتِ
جسمك بالرغوةِ، رأيتُهُ.
جميلةٌ أنتِ، كالنبوَّاتِ. حزينةٌ،
كالذي لم يتحقَّق منها. وهذه ندبةٌ مَلَكِيَّةٌ، أمرُّ عليها بلسانيَ،
وبأصابع مدببةٍ على خشونةٍ حلوةٍ.
بحذاء صلبٍ،
تطيحينَ بقضبان السجنِ حوليَ، جيئةً وذهاباً. خواتمكِ الوحشيةُ،
جذامٌ مقدَّسٌ على أصابعكِ.
من الأرضِ،
يخرجُ كلُّ ما تمنَّيتُ ألا أراهُ ثانيةً: عمودٌ وعتبةٌ،
إبريقٌ وحافَّةٌ… وبقايا نبيذْ.
(9) عودة الثور
يرجعُ الثورُ، بعدَ يومٍ من الكدِّ،
في الميدانِ، بعدَ فنجانِ قهوةٍ مع خصومِهِ،
تاركاً ملاحظةً بعنوانهِ، والمكانَ المحدَّد لمنديلٍ أحمرَ.
والسُّيوفُ تظلُّ مغروزةً في عنقهِ الصَّلبِ،
حينَ يكونُ في البيتِ.
لكنَّه الآنَ، يجلسُ على السَّريرِ،
بالعيونِ المثقلةِ. وهو يعرفُ، أنَّ السُّيوفَ تتوجَّعُ حينَ تَثْقُبُ الجسدَ…
سيكونُ سيفاً، في حياتِهِ القادمةْ، والجُرحُ يبقىْ. «الباب مُشرَعٌ. وإلا، فمفتاحُهُ تحتَ المداسِ».
وهو يعرفُ رقَّةَ الغسقِ، ورحمةَ النِّهايةِ. فاسمه مُدرَجٌ،
في الكتاب المقدَّسِ، في الكائنات النَّظيفةِ.
حلالٌ تماماً:
يمضغُ الأكلَ، وقلبُهُ مقسَّمٌ مثلَ حافرٍ.
وفي صدرِهِ، ينبتُ الشَّعرُ، أشيبَ جافاً،
كما ينبتُ الشَّعرُ
في فرشةٍ تالفةْ.
(10) حب مثالي
أنْ تبدأَ الحبَّ هكذا:
بطلقةِ مدفعٍ مثلَ رمضانْ. هذا دِينٌ!
أو بالنَّفخِ في قرنِ كبشٍ قبل الأعيادِ لطردِ الخطايا. هذا دينٌ! ذلك حبٌّ!
الأرواحُ- للمقدمة!
إلى خطِّ النار الأول للعينينْ. لا اختباءَ ولا تراجعَ.
المشاعرُ- تخرجُ من البطنِ السمينةِ، للأمامِ! المشاعرُ- تخرجُ للقتالِ الرهيبْ!
فلندعْ الطريقَ للطفولةِ،
مفتوحةً، فحتى الجيوشُ التي تضمنُ النصرَ
تتركُ مسلكاً للانسحابْ.
(11) تماماً، كالذي كان
تماماً، كالذي كانَ،
حينَ شربنا الماءَ في اللياليَ،
وفيما بعد، كانَ خمرُ العالمِ كُلُّهُ.
والأبوابُ، التي لن أذكرَ أبداً،
إن كانت تفتحُ للداخلِ أو للخارجِ، ولا مفاتيحَ الكهرباءِ،
على بابِ بيتكِ، إن كانت للضوءِ، أو الجرسِ، أو الصمتْ.
لقد أردناها كذلكَ.
هل، حقاً، أردناها كذلكَ؟ في غرفنا الثلاثةُ،
إلى جانبِ النافذةِ المفتوحةِ، عاهدتِني ألا تكونَ حربٌ.
أعطيتُكِ ساعةً،
بدلاً من خاتمِ الزواجِ:
زمنٌ طيبُ ودائريٌّ، أنضجُ فواكه الأرقِ، وإلى الأبدْ.
(12) زواجٌ متأخر
أجلسُ في غرفةِ الانتظارِ،
مع العرسانِ الذين يصغروننيْ. ولو عشتُ في الأزمنةِ القديمةِ،
لكنتُ نبياً. ولكنَّني الآنَ أنتظرُ، بهدوءٍ، لتسجيلِ اسميَ واسمَ حبيبتيْ
في كتابِ الزواجِ الكبيرِ، وأجيبُ على الأسئلةِ التي لا أزالُ قادراً على إجابتِها.
لقد ملأتُ حياتيَ بالكلماتِ، وقد جمعتُ من المعلوماتِ،
في جسديَ، ما يكفي لمخابراتِ شعوبٍ عديدةٍ.
بخطىً ثقيلةٍ، أحملُ أفكاراً خفيفةً،
كما حملتٍُ في شبابيَ أفكاراً ثقيلةً من القدرِ، على قدمٍ خفيفةٍ،
كادت ترقصُ من وفرةِ المستقبلِ. أحمالُ الحياة تجعلُ تاريخَ ميلاديَ أقربَ إلى تاريخِ وفاتيَ،
كما في كتبِ التاريخِ، حيثُ تجلبُ وطأةُ التاريخِ هذين الرقمينِ، معاً،
إلى جانبِ اسم ملك ميِّتٍ، وليس بينهما
إلا شَرْطةٌ.
أتمسَّك بالشَّرطةِ بكل قوتيَ،
مثلَ خطِّ حياةٍ، أحيا عليهِ، وعلى شفاهيَ قسمٌ،
ألَّا أكونَ وحيداً، صوتَ العريسِ وصوتَ العروسْ،
صوتَ الأطفالِ يضحكونَ ويصرخونَ،
في شوارعِ القدسِ،
ومدنِ يهوداْ.
*قصائد يهودا عاميخاي، في ذكرى رحيله في 22 أيلول 2000، من ترجمة عبد الرحيم الشيخ.