خلال هذا الفصل من كتاب حياتي في الجنوب المغربي، يحلو لي أن تعود بي الذاكرة إلى مجمع الفكارة، وأن أفتح المذكرة الحاوية وقائع عشتها وعايشتها هناك ابتداء من بداية خريف عام 1988 إلى بداية صيف العام الموالي . من هذه الوقائع ما خضع لآلية السرد ومنها ما زال "مادة خام" ثاوية في الذاكرة التي هي جزء من الدماغ.
لم أعد أذكر السبب الذي جعلني ذات يوم أستعمل حجرة دراسية خاصة بمعلم القسم الثاني، مبنية بالتابوت ومسقفة بالقصب والخشب عوض قسم مبني بالمفكك كان من نصيبي منذ انطلاق الدراسة. وضعت الأقسام القابلة للتفكيك قبالة عين الشمس، في حين كان باب القسم الآخر ونوافذه مواجهة لجبل أزكاغ، الذي يحجب عن الأهالي دينامية السير على طريق معبدة تستعملها أيضا الشاحنات المحملة بالمعادن المستخرجة من منجمي البليدة وبووزار.
في هذا القسم المبني بالطين، استقبلت تلاميذ القسم الثالث لأقدم ما أعددت لهم في هذا اليوم من حصص من مواد مختلفة باللغة العربية. تذكرت اليوم الذي مررت فيه أمام هذا القسم وألقيت نظرة خاطفة إلى السبورة حيث اكتشفت أن المعلم المتحدر من نواحي قلعة مكونة كتب عليها كلمة "امرؤ" بواوين.. ربما لهذا السبب قال كارل ماركس: "المربي في حاجة دائما إلى تربية". انتهت الحصص ودقت ساعة الخروج فلاحظت أن تلميذا ينتعل صندلا بلاستيكية متآكلا من نوع "حلُّومة"، ويجد صعوبة في المشي لأنها من كثرة ما فقدت من الأجزاء لم تعد صالحة للاستعمال.
سألت التلاميذ عن إمكانية اقتناء حذاء بلاستيكي جديد في الدوار، أعلموني أن "المقدم" يتوفر في متجره على سلعة من هذا القبيل. تطوع اثنان من التلاميذ للذهاب إلى الحانوت قصد شراء الحذاء والإتيان به في أسرع وقت ممكن قبل أن يتناول مني أحدهما قطعة نقدية معدنية بقيمة عشرة دراهم. عاد الطفلان بخفين جديدين من اللدائن، لم يسبق لأي ابن أنثى أن انتعلهما اللهم إلا إذا حدث مثل ذلك من قبل طفل آخر أثناء المقايسة. ناديت على الطفل ذي الصندل المهترئ وطلبت منه أن يستبدلها بالجديدة.. فعل ما أمرته به، فبان لنا أن مقاس فردتي الحذاء موات لحجم قدميه.
فرح تلميذي بالهدية التي بدرت مني فكرتها وحرصت على تنفيذها على الفور انطلاقا من إحساس عاطفي تجاه الطفل الذي عملت عن طيب خاطر وخالصه على تخليصه من العثرات التي تعيق خطوه بسبب صندله المتآكل. لم أكن أتوقع، لسذاجتي وحداثة عهدي بطبائع وعادات الأهالي في هذه الربوع، أن التلاميذ شاهدوا المبادرة وتشخيصاتها وكأنها فرجة مسرحية لم يرتجلها الخيال بل هندسها الواقع وجسدها في بناء درامي مؤثر. لم يدر بخلدي أن الأطفال سوف يصرفون التأثير الذي مارسته عليهم الواقعة من خلال رفع تقارير شفوية لآبائهم وأمهاتهم اعتمادا على روايات مختلفة مضافا إليها توابل وبهارات من خيالهم.
في الغد، جاء أب التلميذ المعني إلى المدرسة في حالة غضب ورد إلي ثمن الصندل بطريقة لا تخلو من نذالة. استغربت وتساءلت: كيف لأنفة هذا الرجل أن منعته من تقبل هديتي وسمحت له بأن يرسل ابنه إلى المدرسة حافي القدمين إلا من أسمال بلاستيكية متلاشية؟! عندما انصرف الأب إلى حال سبيله، ظهر لي ابنه وقد انتعل حذاء رياضيا جديدا كان يباع آنذاك بنفس الثمن. المهم أن مبادرتي أتت أكلها وانتهت إلى النتيجة التي رغبت في بلوغها؛ ألا وهي تمكين الطفل من حقه في الخطو والقفز بدون مشاكل.
ربما لأن أصله أمازيغي ويتقن لغة قومه من مخارج حروفها، كان المعلم الأزيلالي في كل ليلة على موعد مع طائفة من أبناء الدوار. يزداد عددهم أو يتقلص في كل ليلة تبعا للظروف المعيشية والأحوال المناخية. أحيانا، أدخل عليهم باستئذان، فأجدهم منخرطين في حديث لا ينتهي.. نيغاك.. نيغاك.
من المناسب هنا التنبيه إلى أن ما أسترجعه الآن بقايا صور رسخت في ذاكرتي من المدة الزمنية التي كنت فيها حبيس "لكصر". كانت الغرفة الضيقة والمظلمة التي لم أختر السكن فيها تقع مباشرة فوق غرفة المعلم الأزيلالي، لهذا كانت تصل إلى سمعي أصوات مؤشرة على أن في بيت زميلي شباب جاؤوا عنده لتزجية الوقت في القيل والقال إلى أن يبلغ الليل منتصفه ويتعداه أحيانا.
من عادة صديقي أن يهيء طعام عشائه بحضور ضيوفه وأمام أعينهم.. رأيته مرارا يقشر حبات من البصل والبطاطس والبندورة، وفي بعض المرات، يطهو في قدره المعدني قدرا كافيا له وحده من حبوب اللوبيا. في كلتا الحالتين، لا بد له من إعداد مرق بإضافة قليل من اللحم إلى القدر حتى يكون للأكلة مذاق يفتح الشهية. لكن ما يبعث على التقزز هو تلك الديدان التي يجدها المعلم عالقة بشرائح اللحم التي كان قد ملّحها بعد عودته من آخر سوق أسبوعي. في غياب البديل، يضطر المعلم لأن يحتفظ بالشرائح التي نخرها الدود مكتفيا بنفضها ليتساقط على الأرض.
من خلال احتكاكي بهذا المعلم أثناء فلتات زمنية جادت بها المدة التي جاورته فيها، أدركت أنه كلما نضجت أكلته وطابت يسرع إلى إخماد نار الكانون تاركا القدر في مكانه ولا يتناول عشاءه إلا بعد أن ينصرف من عنده آخر واحد من أبناء المجمع الذين اعتادوا أن يلتموا ليلا في بيته. ورغم أن التحلي بفضيلة الكرم والاتصاف بخصلة القناعة في مثل هذه الحالة قد يعرضان صاحبهما لأن يبيت على الطوى، وهو يتقلب على دفتيه، لم أجرؤ يوما على منع ضيوفي من أن يتقاسموا معي الأكل ساخنا حالما أنتهي من إعداده، حتى وإن لم يزد نصيبي منه عن مضغة أو لقمة واحدة.