أعود في هذه الحلقة الجديدة الأخرى إلى مناوشة الذاكرة للحديث عن معلم أودى بحياته الإفراط في شرب كحول "الماحيا" التي استمدت -ربما- اسمها من عبارة "ماء الحياة".
تعرفت على الهالك، زميلي قيد حياته، في السنة الثانية التي سنحت لي في مبتدئها فرصة الانتقال من فرعية الفكارة -التي لنا بشأنها عودات- إلى فرعية حمو أوسعيد؛ إحدى جارات الواد الشهير (درعة) المخترق لمنطقة أكدز والتي تنتمي، كما مر بنا إلى م/م آيت خلفون.
عند انطلاق السير العادي للدراسة بهذه المدرسة التي اجتاحتها السيول المنحدرة من جبل كيسان، قيل لي إن صاحبنا شغل السنة الماضية منصبي المسند إلي حاليا؛ وأعني به تدريس اللغة الفرنسية ومادة الحساب للمستويين الرابع والخامس. وفي أحد الأيام، خطرت ببالي فكرة تسلق القسم الذي أعمل به قصد اكتشاف ما استقر على سطح سقفه من أشياء اعتاد بصري على رؤية أشكالها كلما اقتربت من المدرسة وأنا متجه إليها انطلاقا من ضفة النهر.
ماذا وجدت فوق سقف القسم يا ترى؟ وجدت فردات نعال وأحذية قديمة وحجارة مختلفة الحجوم وأشياء أخرى غير ذات بال. لكن ثمة شيئ أثار انتباهي وبدا لي من الوهلة الأولى على أنه يصلح لأمر أجهله.. كان ذلك عبارة عن خرطوم لدائني بطول متر تقريبا تتوسطة قطعة أنبوب من نحاس اتخذت شكل (v). بدافع من حب الاستطلاع، التقطت الأنبوب العجيب ودسسته في أحد جيوبي مؤجلا معرفة قصته والغاية من استعماله وكيف يتم ذلك إلى ما بعد خروج التلاميذ.
في مساء ذلك اليوم، التقيت بأحد أبناء دوار آيت حمو أوسعيد الخاص بالأمازيغ الأحرار المجاور لمجمع تاركلمان الخاص ب"الحراطنة" والذي يقع في قلبه المنزل الطيني الذي كنت وزميلي الورزازي نقيم في إحدى غرفه المظلمة بصورة مستدامة مقابل رسوم بلغت مائتي درهم عن كل شهر. في اللحظات الأولى من هذا اللقاء، أخبرت صديقي الجديد بأمر صعودي إلى سطح القسم وكيف أني عثرت هناك على شيء غريب استغلق علي كنهه وماهيته ومرماه. عندها، طلب مني أن أريه إياه. ولما تناوله من يدي وتفحصه أجابني بما يفيد أن هذا الأنبوب يستخدم في صناعة "الماحيا" بحيث يثبت أحد طرفيه يإحكام على متنفس غطاء طنجرة الضغط المملوءة بخليط مادته الأساسية تمر مرقد ومخمر لعدة أيام فوق نار هادئة، بينما يتم إيلاج الطرف الآخر في عنق زجاجة لتكون وعاء ومستودعا لقطرات متتالية من الكحول الذي يبدو في قعر الزجاجة صافيا كالماء تماما. ربما لهذا السبب سمي هذا النوع من السوائل المسكرات "ماحيا".
من ضمن الأشياء التي تم إخباري بها في شأن هذا المعلم بطل الحكاية كونه ضحية تنقيل تأديبي من مدرسة مجاورة لنيابة التعليم بإحدى مدن الصحراء المسترجعة إلى هذه المؤسسة على خلفية اشتباكه وتشاجره مع أحد موظفي النيابة وهو في حالة سكر طافح. علمت كذلك أن التحاقه بـ م/م آيت خلفون جاء متزامنا مع حلولي الأول بالمنطقة كمعلم متدرب. تواجده بين ذينك المجمعين خلال المدة التي استغرقها الموسم الدراسي الماضي كان حافلا بممارسات غريبة الأطوار لم يتورع صاحبها المعلم عن إتيانها في وضح النهار وأمام مرأى الجميع؛ الشيء الذي أوغر صدور آباء وأولياء التلاميذ ضده وحفز الجميع على جعله محور أحاديثهم في أوقات عملهم أو فراغهم.
مرت مياه بحجم ما لا يحصى من الأمتار المكعبة تحت قنطرة تانسيخت التي تفصل منطقة آيت سدرات حيث توجد مؤسستنا التعليمية وبين بلدة تمزموط المشهورة بمركزها المروري الحاضن لسوق أسبوعي يقام كل ثلاثاء وعنده يتوقف السياح المتجهون لزاكورة من أجل التقاط صور لمشاهد تبدو لهم غريبة جدا (exotique)، فضلا عن مدرسة مركزية وبناية للبريد.
في عز فصل الربيع من ذاك العام، التقيت صدفة في مركز أكدز بالمعلم الذي يصنع الماحيا من فاكهة التمر والمتحدر من مدينة برشيد وهو في حالة يرثى لها. لقد تبين لي أن حالته الصحية ليست على مايرام. وعندما سألته بأسلوب مباشر: أنت مالك؟ أجابني بأنه عائد لتوه من مدينة ورزازات حيث زار طبيبا أكد له بعد فحصه وجود ثقوب بمعدته نتيجة إفراطه في الإدمان على الكحول ومده بوصفة من الأدوية مع مطالبته بالإقلاع بصفة نهائية عن عادته السيئة والقاتلة.
كان اليوم يوم خميس، وكانت السماء ملبدة بالغيوم تجود من حين لآخر بزخات وقطرات. تمشيت صحبة زميلي المريض في اتجاه السوق وقد شغلني مآله وعاقبته بحيث أشفقت لحاله فقررت أن لا أفارقه إلا بعد إيصاله إلى كوخه الطيني الكائن بمحيط مركزية م/م آيت خلفون.
عند وصولنا إلى السوق، جلس رفيقي على ناصية الطريق وهرعت نحو بائعي ما تبقى من الخضراوات والفواكه فاشتريت منها قدرا يكفيني ليومين وعدت بخف حنين إلى المكان الذي تركت فيه المعلم يئن من شدة الآلام التي تعصر معدته. لم يستغرق بحثنا عن وسيلة تنقلنا إلى قنطرة تانسيخت سوى لحظات قصيرة بفضل الدينامية التي يوفرها السوق مرة في كل أسبوع. هكذا دعانا ابن البلدة العائد حديثا من ديار الغربة إلى سيارته الحمراء من نوع (BMW)، وما هي إلا دقائق معدودة حتى اكتمل نصاب الكورسة، فانطلقت العربة تطوي الطريق طيا قاصدة المكان المذكور.
كان من الممكن أن نعبر النهر راجلين وندخل مباشرة إلى البلدة دونما حاجة إلى تجاوزها إلى حين بلوغ القنطرة والرجوع انطلاقا منها إلى مستقرنا في رحلة زائدة عن اللزوم. كان ذلك ممكنا لو كان صبيب واد درعة يسمح بذلك كما جرت به العادة في الأجواء العادية، أما وقد غمرت المياه سرير النهر عن آخره فقد أصبح عبوره مشيا على الأقدام مغامرة محفوفة بالمخاطر. لهذا كله، اضطررنا، لدى توديعنا لسائق السيارة الحمراء، إلى الجلوس على قارعة الطريق غير المعبدة والمؤدية رأسا إلى بلدة آيت سدرات في انتظار وسيلة نقل ثانية تعفينا من خيار المشي على الأقدام لمسافة تعد بالكيلومترات، لا سيما وأن صديقي قد هده المرض اللعين ولم يعد قادرا حتى على الوقوف، فأنى له القدرة على ممارسة رياضة المشي التي عادة ما ينصح بها الأطباء زبنائهم المعافين؟
فجاة، توقفت سيارة بيكوب من نوع بيجو وهي محملة بكمية من المواد الغذائية ومواد التنظيف. ساعدت المعلم على الصعود من الباب الخلفي وتراءت لي أكياس الدقيق وعلب الكرتون المملوءة بالسلع قد غمرت سائر أرجاء جفنة البيكوب ما أرغمنا على اعتلاء ركام الأكياس وأجسامنا ممدودة حيث استمر هذا الوضع طيلة المدة التي استغرقها قطع المسافة. قد تكون هذه المتاعب هينة وذات تأثير عابر بالنسبة إلي أنا السليم المعافى، لكنها بالنسبة لرفيقي الذي ما انفكت آلامه تحتد وتشتد عبورا لصراط جهنمي غير مستقيم.
أمام البناية الطينية المتواضعة التي أتخذت كمقر لإدارة م/م آيت خلفون، توقفت البيكوب فترجلنا من عليها وودعت المعلم الذي تكفيه خطوات قصار ليصل إلى بيته في حين تنتظرني مسافة كيلومترية لا بأس بها علي قطعها راجلا بمحاذاة النهر لكي ألتحق بمقر عملي بمدرسة آيت حمو أوسعيد.
لم يكد فصل الربيع يترك مكانه للصيف حتى بلغني نبأ موت المعلم الذي اعتاد صنع "الماحيا" اعتمادا على التمور الموجودة هنا بوفرة تضمنها الواحة. يحكى أنه ذات صباح، استقبل معلمات ومعلمي المركزية مـتعلميهم في الوقت القانوني المناسب، باستثناء معلم واحد لم يحضر وبقي تلاميذه في صفوفهم بدون حراك وهم ينتظرون مجيئه. جاء المدير وعلم بأمر غياب المعلم فظن أن المانع من حضوره قد يكون استغراقه في النوم بعد ليلة من السهر، فأمر اثنين من التلاميذ بالذهاب لإيقاظ المعلم، لكنهما سرعان ما عادا ليقولا للمدير إنهما وجداه نائما وما أراد أن يستيقظ. انتاب المدير شك في أمر المعلم فأسرع الخطى في اتجاه كوخه ليجده جثة هامدة ممدودة أمام باب المنزل الطيني الحقير والنمل يخرج ويدخل من فيه.