الحدث - مي هماش
ماريَّنا ابراموفيك، قامت سنة 1974 بخوض تجربة، لتتعرف أكثر على تصرفات البشر إذا منحت لهم حرية القرار بدون شروط، وقررت أنّ تقف لمدة 6 ساعات متواصلة بدون حراك، وأتاحت للجماهير أن يفعلوا بها ما يريدوا، ووضعت بجانبها طاولة بها العديد من الأدوات منها سكين ومسدس، وأزها.. وهكذا.
ببداية الأمر كان رد فعل الجماهير سلمي فاكتفوا بالوقوف أمامها ومشاهدتها، ولكن هذا لم يستمر كثيرًا فبعدما تأكد الجماهير أنَّها لن تقوم بالقيام بأي رد فعل مهما كان تصرفهم تجاهها، أصبحت الجماهير أكثر عدوانيه، فقاموا بتمزيق ملابسها وقام أحدهم بوضع المسدس على رأسها - ولكن أحد الاشخاص تدخل وأخذ المسدس منه - وقاموا بنكزها ببطنها بأشواك الأزهار، وتحرش البعض بها، وبعد أنّ انتهت ساعات التجربة، تحركت مارينا من مكانها بدون اتخاذ أي رد فعل عدوانى تجاه الجماهير، وبمجرد أنّ بدأت بالتحرك همَّ الجماهير بالفرار.
هذه التجربة أثبتت لمارينا أنَّ البشر الّذين نتعامل معهم يوميَا مهما اختلف عرقهم وسنهم وخلفياتهم، قادرون على أرتكاب أفعال شنيعة ولكن إنّ اتحيت لهم الفرصة فقط.
انتشرت هذه الرواية على صفحات التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، وكان تجاوب المجتمع معها في مجمله ساخرًا، حول ماذا كانت تتوقع فتاة من هذه التجربة، وهل يجب أنَّ تقوم بهذه التجربة لتثبت أنَّ البشر عدوانيون بطبعهم، وأنَّها تجربة فاشلة بالمجمل لأنَّها ألحقت الأذى بنفسها دون تغيير، وعلى هذه الشاكلة.
هذه ليست طبيعة غريزية بالإنسان، أيّ على الرغم من الصراع الفلسفي لسنوات طويلة بين أصل الإنسان الخير أو الشرير، إلّا أنَّها لا تعكس شرورية الإنسان، ولا خيره بالطبع، إنَّها تعكس بنية تفكير عالمية، ليست مرتبطة بمنطقة دون آخرى، أو دين دون الآخر، إنَّها تُبين تراتبية معينة من التحولات الاقتصادية وما تبعها من تحولات دينية وأخلاقية.
التفاوت الظاهر بين مكان وآخر في نسبة العنف يعود بالأساس إلى فكرة الضبط الّتي تأتي من تدخل الدولة وسيطرتها على حدود ما يعتقده الأفراد أنَّه ملكية خاصة، مثل "الأم، الأبن، الابنة، الزوجة"، وهذا التدخل يقلل من حدة السلطة الّتي تُمارس من قِبل الأفراد تحت أيِّ ذريعةٍ كانت.
هذه الحدود الّتي تضعها الدولة من خلال مؤسساتها القانونية وأجهزتها التنفيذية، تساهم في الحفاظ على الحدود الأساسية الّتي تحمي الإنسان من الموت أو التعرض للتعذيب، قد لا تُعطي حق الحياة الكريمة لأنَّها بالأساس مسؤولية الأفراد، ولكنَّها تحافظ على حياة الفرد، وتمنع من تطاول السلطة الفردية على سلطة الدولة.
وإنَّ هذا الغياب لتدخل الدولة، يترك أثاره التي لا يمكن توقعها ولا ضبطها بطبيعة الحال، فالحدود الشخصية تذوب بين الأفراد، وتصبح هنالك لغة آخرى للتعاملات الإنسانية، وللمقايضة، وللتنشئة، حيث تُصبح هذه المعايير الّتي تنظم وتكون حياة المجتمع، هوائية مرتبطة بنفسانية الفرد صاحب السلطة.
إنَّ العنف المجتمعي الظاهر والعنيف، يصفعنا بطريقته الّتي تنتزع الأمان عنّا جميعًا، لنبدأ بتحليل أدق تفاصيل العنف الّتي نتعرض لها، بداية من نظرة تستبيحك أو تُهينك أو تقلل من قيمتك، كما وطريقة تعامل الآخرين معك المبنية على مجموعة من الأفكار المنغلقة جدًا، اتجاه الجنس الآخر (الذكور والإناث)، واتجاه الدين المختلف، واتجاه الميول الجسدية والجنسية والثقافية والحزبية المختلفة، تظهر كل ملامح العنف هذه أمامك دفعة واحدة تنبهك على ضرورة وضع الحدود، وإنهاء حالة السلطة العبثية الّتي يتمتع بها شخص عليك لمجرد أنّ تكون تابع لكنية هذا الشخص، أو تابع له في عملك أو أنّ يكون صاحب أي موقع هرمي.
إنَّ الوعي لعملية الحدود الأساسية للكرامة الفردية للأشخاص غاية في الضرورة في مجتمعاتنا المتهالكة، لأنَّها تضع حدًا لإنهاء حالة الطوارئ الّتي تُعلن فجأة ويتم استباحة كل شيء فيها، ولأنَّها تبقينا في حالة خوف من انهيار أي جهة سلطوية عليا حتى ولو كانت غير كفء، ولأنَّها تُجبِّر على النظر أبعد من حدود الصندوق الّذي يُفرض على المجتمع.
مع انتهاء تجربة مارينا هرب الجميع حتى دون أنّ تفعل لهم شيئا، ولكنها بدأت برسم الحدود الّتي أضاعتها وهي تقف صامتة دون رد على العنف، في اللحظة الّتي تحركت فيها سواء أعلنت للجميع أنَّها ستأخذ حقها أو لا، كان مفهومًا ضمنيًا لدى الجميع بأنَّ كل حركة في هذه اللحظة ستخضع للجلد والمحاسبة، فبدأت الحدود الّتي يضعونها حول أنفسهم لمنع أي اعتداء على جسدهم وكرامتهم، مرئية أكثر على جسد مارينا.