الحدث- توفيق العيسى
لم تكن البداية إطلالة على مدينة حيفا ومعالمها فحسب؛ بل تعدت ذلك إلى الحديث عن التغييرات التي صاحبت نكبة 1948، في هذه الأثناء يجلس رجل يكتب رسالة لصديق في المنفى، يخبره عن حيفا وعن بيته الذي ما زال في شارع عباس 36، ويطمئنه أن أمور البيت على ما يرام وينتظر عودته. في فيلم وثائقي بعنوان شارع عباس 36 للمخرجتين نضال رافع ومروة جبارة طيبي والذي عرض في مسرح القصبة في رام الله ومرشح لجائزة "طائر الشمس" الفلسطينية لعام 2019 عن فئتي الأفلام الوثائقية الطويلة والأفلام القصيرة، ضمن النسخة السادسة لمهرجان أيام فلسطين السينمائية 2019.
هجرت عائلة "أبو الغيدا" التي تمتلك بناية عنوانها شارع عباس 36 من حيفا، لتقوم عائلة فلسطينية أخرى بشرائها، وتبدأ قصة البحث عن الأصحاب الأصليين للبناية.
نضال رافع مخرجة العمل وإحدى شخصياته وابنة العائلة التي اشترت البناية، تكسر مشهدية الفيلم لتعود إلى ما هو أبعد من العام 1948، تظهر في بريطانيا حيث الفعاليات المناصرة للقضية الفلسطينية وحيث وعد بلفور.
يطرح الفيلم عدة تساؤلات، ويظهر مشاعر متباينة حول الواقع والأصل وأسئلة الهوية في المنفى والوطن والعودة والملكية وكيفية النظر للأشياء.
ملكية البيت تعود بالأصل إلى عائلة أبو الغيدا، كما أن الملكية الجديدة لآل رافع أتت من البقاء والحفاظ على أملاك الغائبين قسرا، لذلك عندما طرح السؤال ماذا لو عاد أصحاب البيت هل ستقبلون بالخروج منه؟ بطوليا سيكون الجواب نعم، ودون تردد، وإنسانيا يستحق من سكن البيت لحظة تأمل لا ليفكر بالجواب بل ليتأمل سنوات مرت وذكرياته، ليجيب بعدها بنعم.
في ذكر حيفا على أي مستوى تستحضر الذاكرة رواية الشهيد غسان كنفاني "عائد الى حيفا" بما تحمله من معنى ورمز، في هذا الفيلم تبدو العودة إلى حيفا عكس الرواية؛ ففي الأولى يعود بطلاها من المنفى أو الجزء المتبقي من الوطن إلى حيفا محملين بذكريات وحنين وبحث عن ابن مفقود في مقابل ابن طموح في الجزء الآخر، ليعودا بقيم وأفكار جديدة، أما في شارع عباس فقد خرج الوطن إلى فؤاد أبو الغيدا مالك البيت الأصلي في محاولة لإعادته وباحثا عنه، ليعود ولو مؤقتا في مشهد احتفالي تجاوز الحنين إلى الإصرار.
في هذا المشهد تختلط مشاعر عدة بين الحنين والبكاء على كل شيء مترافقا مع "رش الأرز" على عادة المهنئين ومستقبلي الغائبين في التراث الشعبي يرافقه إنشاد "موطني"، كل ما ذكر حالة طبيعية في الفيلم مشهديا، ولكن يعطي انطباعا برمزية لا ندري إن كانت مخرجتا الفيلم تقصدتاها أم أنها أتت في السياق الطبيعي للبحث عن أصحاب البيت واستقبالهم، فالعودة ولو مؤقتا لم تتحقق إلا بجهد العائلة التي ظلت في حيفا وحافظت على أملاك أبو الغيدا، وكأنهما تريدان القول إن أي حل سياسي لن يتجاوز من بقوا، ولا حل للقضية إلا بهم ومن خلالهم.
قد يرى أحد ما أننا بالغنا في تفسير المشهد، وأعلينا من هذا الرمز على حساب الشعور الإنساني، الا أن ما يحيل إلى ذلك رمزية تعدد المشاهد والتي هي بالأصل سياق طبيعي في معظمها للفيلم فنرى نضال رافع في أكثر من مشهد متنوع بين المكان والمحتوى، فلم ينصب عمل الفيلم على البحث والتركيز على قضية أملاك أبو الغيدا فقط، لتتعداها إلى نقاشات وأسئلة في أماكن مختلفة وحول قضايا عدة من أسئلة العودة إلى الوجود في المنفى والوطن وتغير الهوية وانعكاساتها إلى نقاش سياسي راهن حول خطاب ترامب والاعتراف بالقدس "عاصمة لإسرائيل" يتزامن هذا النقاش مع حوار بين دينا أبو الغيدا ونضال حول قطع ديكور احتفظت بها العائلة لأكثر من 12 عاما لتعيدها نضال إلى أصحابها محتفظين فيها في المنفى. هذه القطع على بساطتها إلا أنها كانت تشكل روحا في البيت ستصبح الآن روحا أخرى في بيت آخر هي لأصحابها الحقيقيين.
ويمكننا القول إن هذه المشاهد جاءت متكسرة بمعنى القطع الزمني للسيناريو ليتحول المشهد في أسئلته ورمزيته إلى سؤال بطريقة الومضة ويترك برسم التفكير وليس الإجابة فقط.
في شارع عباس حيث البناية موضوع الفيلم والقضية، لم يكن جمهور المستقبلين الحاضرين فقط، ولا البيت؛ بل حضرت الخطابة والأغنية والثقافة على بساطة انتقاء أبيات الشعر المرحبة بآل أبو الغيدا والتي ألقيت بتصرف، وتغيير بكلماتها لتتناسب أكثر مع الحدث وكأن بيت الشعر العربي لم يعد عربيا فقط في حيفا بل فلسطينيا أكثر، فالضيف والمضيف يتبادلان الأدوار بحق سياسي وإنساني وليس من باب الكرم.