الأربعاء  04 كانون الأول 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

الخطاب الإعلامي للحكومة

2019-10-15 07:44:44 AM
الخطاب الإعلامي للحكومة
رولا سرحان

يُقالُ إن كسر ديمومة الأشياء المستقرّةِ على حالها هو "فن"، فتحويل الصخرة والحجر من شكلهما الأولي إلى شكلٍ على هيئة امرأة هو فنُّ النحت، وتحويلُ الكلام من حديثٍ إلى صوتٍ إيقاعي هو "فن الغناء"، والسياسةُ بتعريفها البسيط هي "فنُّ الممكنِ"، الذي قد يكون غير ممكنٍ أيضاً. وفي استلهام الفكرةِ أعلاه من المترجم لكتاب "الفن والنظرية الاجتماعية"، يروي المؤلفُ كيف يُمكنُ أن يكون أي شيءٍ عملاً فنياً إذا قالَ أحدٌ كذلك. لذلك، أستطيعُ الادعاء بأن "الحكومة الحالية"، لها فنُّها في خطابها الإعلامي، الذي هو موجهٌ للداخل (ظاهرياً) لكنهُ موجهٌ للخارجِ (عملياً)، بمعنى أن الخطابَ الإعلامي موجهٌ للعامةِ لكن الفعلَ السياسيَّ موجه خارجياً.

وكلمةُ "موجهٍ" هنا، ذاتُ دلالتين يقعُ من خلالها تحديدُ الفاعلِ الذي هو (الحكومة) وأحياناً (الآخرُ الغريبُ) بحسب راهنية التفسير السياسي المتَّبَعِ هنا. إذ يُمكننا الادعاءُ بأن ما تقومُ به الحكومةُ موجَّهُ، من قبيلِ أن محاولات إعادةِ ربطِ قطاع غزة بمصر خدماتياً (لجهة الصحة والطاقة) والتي تم الإعلان عنها رسمياً من قبلِ الحكومة، ليست سوى محاولة تسيرُ في مصبِّ موجهٍ نحو تطبيق أجندةِ الولايات المتحدة ودولة الاحتلال الإسرائيلي بفك القطاع عن الضفة لتطبيق صفقة القرن. في ذات الوقتِ، نلحظُ تمترسَ الفعل السياسي المضمر هنا، وراء خطابِ تعبوي شعبوي ذكي، يُرضي غرور المقاطعين، والداعين لمقاطعة الاحتلال، والذين يرغبون ويترددون في مقاطعته على كل المستويات والأصعدة، عبرَ الإعلان أن نيةَ الحكومة هي أساساً فكُّ التبعية الخدماتية عن الاحتلال تدريجياً، وكفِّ يدهِ عنا، فكانت (الحكومةُ) هنا هي "المُوجِّه" بكسر الجيم بينما كانت "الموجَّهةُ" في الحالةِ الأولى.

إن الكلام لا يُفكر، ولكننا نُفكّرُ فيه، هذا هو أصلُ الأشياء، أما مقولةُ إن الشعب مجموعة يُمكنُ تسيرُها، وإثارتُها، وفقَ مفهوم سيكولوجية الجماهير للوبون، فهي مقولةٌ فيها من الشك الكثير، خاصةً بعد تطور تقنيات الإعلام الحديث ووسائطه، إذ أن كل مقولةٍ اليوم تخضعُ لمشرحةِ الجماهيرِ التي وإن بقيت في "فضاء افتراضي" لكن تلك الفضاءات مكنتها من استعادةِ أصل السيادةِ والمشروعية، لأنها أضحت أداةً، ليست للتعبير عن الرأي وقياسه والحشد والتغيير على أساسه، بل أصبحت أداةَ محاسبةٍ، ومتابعةٍ ومساءلة، خاصةً في ظل غياب أي أفق لإمكانيات إحياء المشاركة السياسية للمواطنين، الذينَ وجودوا فيها ملاذا لإسماع أصواتهم.

ومثلما فعلت الحكومات العربية، تباعاً في ضخ بروباغندا ذات ديمومة زمنية غير منتهية الصلاحية وموجهة نحو شعوبها، فإن الشعوب اليوم تقود عملية بروباغندا معاكسة، تُمكنها من الحشدِ والتعبئة، لإطلاق بروباغندا مضادة، تُمكنها من التهكم على السياسيين، بل ودفعهم لمراقبة خطابهم الإعلامي. ومثلما تعلمت الشعوب من سياسييها فإن السياسيين يتعلمون من شعوبهم أيضاً، مستخدمين نفسَ أساليبِ سياساتهم التواصلية عبر الإعلام الحديث ووسائطه، فترامب يُغرد ضد الصحفيين، ورؤساء الأجهزة الأمنية في دولة الاحتلال يروجون لسياساتهم عبرها، والحكومة الفلسطينية تُطلق العنان لمقاطع فيديو فكاهية لرئيس وزرائها يتحدث عن مشروبي "البيبسي والكوكاكولا" في مقاربة سوئهما للصحة بسوء نتنياهو وغانتس بالنسبة للفلسطيني.  

إن خطورة وسائل التواصل الحديثة، تتمثلُ في أنها تجعلنا نقعُ في غرام ما نفعله عبرها، لأنها تمنحنا مؤشراً مباشراً عن مدى القبول والاعتراف بنا من قبلِ الآخر.

فلا تقع في حب ما تقوله دولة رئيس الوزراء، فتكون مثل بيجماليون الذي نحتَ من الصخرة امرأةً جميلةً فوقعَ في حبها.