4- الأنطولوجيا
أ- الأنطولوجيات جهوية والحدس مقولاتي
بالنسبة لـهوسرل، كل علم تجريبي - الفيزياء مثلا - هو "علم وقائعي". ما هو وقائعي هو الأفراد الحقيقيون، الأجسام الملموسة الموجودة على نحو طارئ في المكان-الزمان أو في الزمان فقط، مثل شجرة، منزل، حدث رياضي أو تجربة نفسية. يعتمد كل علم واقعي على بعض "الضرورات التصورية"، أي القوانين الجوهرية المتعلقة بنوع الوقائع التي يعنى بها. مثلا، تفترض الفيزياء ضمنيًا جوهر الجسم المادي الذي ترتكز فيه القوانين القبلية المختلفة التي تخضع لها جميع الموضوعات التي تدرسها الفيزياء. أنواع الموضوعات تراتبية: بعضها أكثر عمومية من غيرها بمعنى أن القوانين المتجذرة في جوهر أنواع أكثر عمومية تنطبق على جميع الأجسام ذات الأنواع الأقل عمومية التابعة لها. في قمة هذه التراتبية نجد "الأنواع المادية العليا" (الشيء المادي، الصوت، الكيف الملموس، الشكل المكاني، التجربة المعيشية بشكل عام ، إلخ)، وتسمى أيضًا "المناطق الوجودية"، التي ليست هي نفسها خاضعة لأنواع ملموسة أكثر عمومية. تنتمي القوانين السابقة المتجذرة في هذه الأنواع العليا إلى "الأنطولوجيات المادية" أو الجهوية.
للوصول إلى القوانين التصورية في الأنطولوجيات المادية، يجب أولا إدراك ماهية الجهة الوجودية المقابلة. هذه الأخيرة هي موضوع مثالي أو مقولاتي ولا يمكن لهذا السبب أن يعطى لنا عن طريق الإدراك بالمعنى المعتاد للمصطلح. هنا يجب أن نلجأ إلى "الحدس المقولاتي"، الحدس الذي يعطينا ما ليس محسوسا بشكل مباشر.
لنضع في اعتبارنا المتضايف الشيئي لهذا المنطوق "الكتاب فوق الطاولة" « le livre est sur la table ». يمكن أن يكون لدينا تصور عن الكتاب والطاولة، ولكن القصد المقابل للرابطة "est" لا يمكن تعويضه بشيء ملموس بالإدراك الحسي. ينطبق الأمر نفسه على حالة / وضع الأشياء التي تفيد أن الكتاب فوق الطاولة. ومع ذلك، فمن الممكن أن يكون هناك عطاء حدسي لهذه الشيئية. هذا الملء الحدسي ليس ببساطة من قبيل الإدراك، ولكنه "مؤسس" على إدراك أشياء معينة، وهي الطاولة والكتاب. يتعلق الأمر إذن بدرجة أعلى من الحدس، الحدس المقولاتي أو المؤسس. في مثال حالة / وضع الأشياء التي مفادها أن الكتاب فوق الطاولة، يعطي الحدس المقولاتي معا العناصر التأسيسية التي هي الطاولة والكتاب إلى جانب حالة / وضع الأشياء نفسها عن طريق إدراكها في إطار وحدة. لذلك يمكن وصف هذا النوع من الفعل المقولاتي بأنه "تركيبي".
ولكن هناك أيضًا أفعال مقولاتية تسلك طريق التجريد، طالما أن الأشياء المؤسسة (صيغة اسم الفاعل) لا يتم تقديمها بشكل مشترك مع الشيء المؤسس (صيغة اسم المفعول). طور هوسرل نظرية أولية عن التجريد المستوحى من التجريبية في Philosophie de l’arithmétique، حيث أدت دورا رئيسيا في استهداف الكميات القابلة للعد. ومع ذلك فقد قال أخيرا إن هذه النظرية غير مقنعة. في مبحثه المنطقي الثاني، بفضل التمييز الواضح بين الأفعال العقلية ومحتوياتها (موادها)، اعتبر المحاولات الهادفة للتفكير في العلاقات بين التصور الفريد لرجل معين، لنقل تصور سقراط.، والتصور العام "رجل" بواسطة نظرية وراثية عن الأفعال العقلية، مثل تلك التي تؤكد أن تصور سقراط يمكن أن يتخلص تدريجيا من كل خصائصه الفريدة ليحتفظ فقط بالميزات المشتركة لجميع الرجال، (اعتبرها) محاولات وهمية.
من الآن فصاعدا، أحل هوسرل محل التجريد التجريبي، "التجريد المبتكر للأفكار" ، أي شكل من القصد المقولاتي الذي يكون فيه المحتوى العام مستهدفا بشكل مستقل عن التكوين الفعلي للأفعال العقلية التي يتم فيها هذا الاستهداف. هذا التجريد هو الذي يجعل من الممكن إدراك الماهيات، وخصوصا ماهيات مختلف الأنواع المادية العليا التي على أساس حدسها ترتكز الأنطولوجيات الجهوية. يتطلب حدس الماهيات حدس شيء عيني واحد على الأقل. مثلا، حدس الأزرق يتأسس على تصور أو خيال شيء أزرق واحد على الأقل. ومن ثم، فإن التجريد المولد للأفكار يتمثل في أن يستهدف بشكل مباشر العام على أساس حدس الحالة الفردية التي يجسدها.
المفاهيم التي تم الحصول عليها عن طريق التجريد المولد للأفكار هي مواد بمعنى أن لديها محتوى ملموسا. إنها مفاهيم مثل اللون، المنزل، الصوت، الفضاء، إلخ. القوانين المتجذرة في هذه المفاهيم هي قضايا "تركيبية". فهي تركيبية، لأن ما صدقها يتوقف على المفاهيم المادية التي ترتكز عليها. مثلا، القانون الذي يقول إنه لا يمكن أن يكون هناك لون بدون امتداد مغطى به يكون تركيبيا من حيث أنه يعتمد على ماهية مفهوم اللون. ينطوي هذا الاعتماد على مجموعة كاملة من القضايا التركيبية الثانوية التي يتم تحديد نطاقها من خلال توسيع المفهوم أو المفاهيم المادية التي ترتكز عليها القوانين التركيبية. مثلا، يمكنني استبدال مفهوم اللون، وهو مفهوم لون معين، ليكن اللون الأحمر، للحصول على القضية التركيبية التي تنص على أنه لا يمكن أن يكون هناك أحمر بدون امتداد يغطيه هذا اللون الأحمر، ونفس الشيء يقال عن أي لون آخر. من ناحية أخرى، لا يستقيم مثل هذا الاستبدال لمفهوم ليس خاضعاً لمفهوم اللون: لن تؤدي نتيجة الاستبدال إلى حقيقة، إلا في حالة طارئة.
ب- الأنطولوجيا الصورية
إلى جانب القوانين التركيبية القبلية التي يتوقف صدقها على المضمون المادي لبعض المفاهيم التي تحتويها، توجد أيضا قضايا يكون ما صدقها مستقلا عن أي محتوى ملموس: القضايا 'التحليلية" القبلية. هذه، مثلا، حالة القضية "إذا كانت النافذة جزءا من الواجهة وكانت الواجهة جزءا من المنزل، فإن النافذة جزء من المنزل." تتضمن هذه القضية مفاهيم مادية؛ ألا وهي مفاهيم النافذة، الواجهة والمنزل، ولكن حقيقتها مستقلة عن مضمونها المادي. لذلك، بغض النظر عن المفاهيم التي نستبدلها بمفاهيم النافذة، المنزل والواجهة، فإن النتيجة في المحصلة تكون دائما صادقة. هذه القابلية للاستبدال المحافظة على قيمة الصدق يمكن توضيحها عن طريق استبدال المحتوى المادي لهذه المفاهيم ب"شيء ما"، أي في النهاية بمتغيرات، للحصول على قانون: "إذا كان x جزءا من y و y جزءا من z، فإن x جزء من z ". هذا القانون يعبر عن تبادلية علاقة الجزء بالكل ويصدق أيا كانت الأشياء التي من الممكن أن تحيل عليها الحدود التي جرى استبدالها بالمتغيرات "z", "y", "x"،. في الأخير، تكون القضية التحليلية القبلية قضية قابلة تماما لأن يضفى عليها الطابع الصوري، خلافا لقضية تركيبية قبلية.
القضايا التحليلية تنتمي الى المجال الصوري. بعبارة أخرى، فهي تنتمي إلى المنطق الصوري بالمعنى الواسع، الذي يتضمن المنطق بالمعنى الضيق، المنطق الذي يتعامل مع المعاني، وعلم الأنطولوجيا الصوري، هذه النظرية الخاصة بالموضوع بشكل عام. هنا نجد واحدة من أقوى ادعاءات هوسرل: لا يقتصر الصوري على المنطق بالمعنى الضيق للكلمة. هناك حقا شكل أنطولوجي، وهو شكل يتعلق بجميع الأشياء، بغض النظر عن نمط وجودها. على عكس المنطق الصوري بالمعنى الضيق لمقولات المعنى والقوانين التي ترتبط بها، يشير مصطلح الأنطولوجيا الصورية إلى "المقولات الأنطولوجية الصورية" وقوانينها. من بين المقولات الأنطولوجية الصورية، يمكننا ذكر ما يلي: شيء ما، الكيف، العلاقة، الحالة، الكم، العدد، التعدد، إلخ.. كل هذه المفاهيم تتجمع حول "الفكرة الفارغة لشيء ما أو للشيء بشكل عام ". إن قانون تبادلية علاقة الجزء بالكل الذي أتينا على ذكره قبلا مجسد في مقولة الجزء وهو صوري من حيث أنه يحتوي فقط على المفاهيم الصورية: شيء ما (الذي تمثله المتغيرات المختلفة)، علاقة الجزء بالكل والشرطي المادي (متمثلا بـ "اذا...فان..." والذي ينتمي الى مقولات المعنى).
إن القوانين الصورية الأنطولوجية، وبعبارة أخرى، القضايا التحليلية المقعدة بالكامل والمجسدة في مختلف المقولات الأنطولوجية الصورية، لها شكل من الأسبقية، أو بالأحرى من التعامد، إذا ما قورنت بقوانين مختلف الأنطولوجيات المادية بحيث أنها تنطبق على جميع الأشياء، بشكل مستقل عن الجهة الأنطولوجية التي تنتمي إليها، في حين أن القوانين الأنطولوجية المادية تقتصر تحديدا على جهات أنطولوجية معينة. هذا التعامد للأنطولوجي الصوري بالنسبة للأنطولوجي المادي ينعكس كذلك في حقيقة أن المقولات التي تنتمي إلى المجال الأول لا يمكن الحصول عليها عن طريق التجريد من تلك المنتمية إلى المجال الثاني.
الأنطولوجيا الصورية الوحيدة التي طورها هوسرل هي تلك التي تتعلق بمقولات الكل والجزء. علم الأجزاء الصوري هذا تم عرضه بطريقة أكسيوماتيكية-استنباطية في المبحث المنطقي الثالث، ولكن تلاميذ هوسرل أهملوه منذ زمن طويل. منذ عدة عقود، شهدت دراسته إحياءاً هاماً في الميتافيزيقا التحليلية، ولا سيما في أعمال بيتر سيمونز Peter Simons، وباري سميث Barry Smith ، وكيفن موليغان Kevin Mulligan.
5- الفينومينولوجيا الترنسندنتالية (المتعالية)
أ- من البسيكولوجيا الوصفية إلى الفينومينولوجيا
وصف برنتانو تحقيقاته بأنها تعود إلى "البسيكولوجيا الوصفية"، وهو يعني بهذه العبارة "علم الظواهر النفسية". إن الظاهرة النفسية أو "ظاهرة الوعي" هي ظاهرة، على عكس "الظاهرة الفيزيائية" (لون، رائحة، منظر طبيعي، إلخ) ، تتميز بـ "القصدية"، أي كونها موجهة نحو شيء. مثلا، لا يوجد تمثيل ليس تمثيلا لشيء ما. برنتانو يضع البسيكولوجيا الوصفية في تعارض مع "البسيكولوجيا الجينية". الأولى، على عكس الثانية، لا تسعى إلى إثبات النشوء السببي للظواهر، وإنما لها بالأحرى مهمة تحديد الخصائص المشتركة لجميع الظواهر النفسية، فضلاً عن تلك المحددة لهذا الفئة أو تلك من الظواهر. يتعلق الأمر بمعرفة الظواهر النفسية وكيفية تصنيفها.
مصدر المعرفة الذي تفضله البسيكولوجيا الوصفية هو "الإدراك الداخلي". إنه هو الذي يسمح لنا بالولوج إلى الظواهر النفسية. وهكذا يتعارض الإدراك الداخلي مع الإدراك الخارجي الذي يسمح لنا بالولوج إلى الظواهر الفيزيائية. بينما في الثانية لا شيء يضمن لنا أن الظواهر الفيزيائية موجودة بالفعل كما تبدو لنا، تقدم لنا الأولى موضوعاتها ببداهة فورية لا لبس فيه.
باعتباره تلميذا لبرنتانو، فمن الطبيعي أن التحليلات الأولى لهوسرل تموقعت كذلك في المستوى البسيكولوجي الوصفي. ومع ذلك، انفصل التلميذ بسرعة عن معلمه في عدة نقاط. النقطة الأولى تتعلق بظواهر الوعي التي تخضع للتحليل البسيكولوجي الوصفي: لا يتعلق الأمر فقط بالظواهر النفسية، ولكن على نطاق أوسع ب"التجارب المعاشة" (Erlebnisse)، هوسرل يعني بذلك كل ما يتجلى في الوعي. يمكن أن تكون التجارب المعاشة مقصودة، وتسمى عندئذ "أفعالا"، أو غير مقصودة. في هذه الفئة الثانية نجد على وجه الخصوص الأحاسيس. وفقا لهوسرل، كان برنتانو قد استبعد هذه الأخيرة من نطاق التحقيق في بسيكولوجياه الوصفية لأنه كان ما يزال يخلط بين ما يصدر عن التجربة المعاشة وما ينتمي إلى الموضوع نفسه. هكذا كان يخلط، مثلا، بين الإحساس باللون وتلون الموضوع. بمجرد ما يحصل هذا التمييز، يصبح من الواضح أن الإحساس ينتمي أيضا إلى الوعي، أنه محايث، وليس ترنسندنتاليا (متعاليا).
النقطة الثانية من نقط الاختلاف بين هوسرل وبرنتانو تتعلق بالطريقة التي يأخذ بها التحليل البسيكولوجي الوصفي في الاعتبار التجارب المعاشة. بالنسبة للأول، لا ينبغي النظر إليها من وجهة نظر تجريبية، أي ك"حالات واقعية لكائنات متحركة في واقع طبيعي"، ولكن بالنظر فقط إلى ماهيتها. عاب هوسرل على برنتانو كونه استند في بسيكولوجياه مرة أخرى إلى وصف التجارب المعاشة المتصورة على أنها أحداث حقيقية تنتمي إلى كائنات بشرية حقيقية، بدلاً من الاستناد إلى ماهية التجارب الحية. يجب أن يكون علم النفس الوصفي علمًا تصوريا، وليس علمًا واقائعيًا.
لكل هذه الأسباب، سوف يتخلى هوسرل في النهاية عن تسمية "البسيكولوجيا الوصفية" لصالح "الفينومينولوجيا" من أجل تحديد منهجه الفلسفي. فإذا كانت الثانية لا تقتصر على نوع معين من التجارب المعاشة وتسعى إلى وصفها "الخالص"، أي إلى الحدس (المقولاتي) لماهياتها، فالأولى لا تسعى سوى الى وصف تجريبي للتجارب المقصودة. الفينومينولوجيا إذن هي علم تصوري بالوعي، وفي هذا الأمر تختلف اختلافًا جوهريًا عن كل بسيكولوجيا. سوف تكون المسافة بين الفينومينولوجيا والبسيكولوجيا أكثر حدة عندما سيقوم هوسرل، ابتداء من 1907 في L’Idée de la phénoménologie، بأن يجعل من "الاختزال" طريقا للوصول الإلزامي إلى الأولى، وبالتالي استبعد نهائياً من مجال اهتمامه الذاتية التجريبية - التي هي جزء من العالم - لفائدة الذاتية المتعالية - التي تجعل العالم ممكنًا.
ب- الاختزال
طبقا لهوسرل، فإن المعرفة، ولا سيما تلك التي تقدمها لنا العلوم التجريبية، ليست محصنة من الشك المرتاب. من هنا السؤال الذي يطرح نفسه هو كيف يقدم لها الأساس الذي بموجبه يتم استبعاد كل شك منه. ومن الواضح أن الأمر متروك للفينومينولوجيا للإجابة على هذا السؤال. للقيام بذلك، يجب أولاً أن تجد نقطة بداية، وهي مجموعة من المعطيات التي لا لبس فيها والتي يؤسس عليها كل صرح المعرفة. لا يمكن استخلاص هذه المعطيات من العلوم التجريبية، لأنها بالتحديد هي التي وضعت موضع سؤال من قبل النزعة الشكية وأن من مهام الفينومينولوجيا تأسيسها. بالمقابل، تبدو التجارب المعاشة للوعي واعدة أكثر. في الواقع ، يمكنني أن أشك في وجود أو عدم وجود موضوع إدراكي، تمثلي، حكمي، إلخ، ولكن كوني أدرك، أتمثل أوأحكم، هذا بالنسبة لي، لا يطاله شك.
التجارب المعاشة تعطى لنا في يقين واضح، يعني "شخصيا". في الواقع، تكون هناك بداهة عندما يكون هناك وعي بهوية بين ما هو مستهدف وما يقدم بطربقة حدسية. تحقيق القصد الذي يحدث عندما يكون هناك بداهة يمكن أن يتم على أوجه مختلفة. مثلا، لا يمكن أن يكون إلا جزئيًا. سوف نتحدث بعد ذلك عن بداهة "غير كافية". هذه هي حالة بداهة شيء واقعي، لأن الأخير دائمًا ما يُعطى "بالرسومات التخطيطية" - هناك دائمًا واحد على الأقل من هذه الجوانب التي لا يمكنني إدراكها. على النقيض من ذلك، سيقال إن البداهة "كافية" إذا تم تحقيق القصد كاملا، وأنه غير خليق بأن يستكمل بحدوس أخرى. تعطى التجارب المعاشة بالكامل، وليس عن طريق الرسومات التخطيطية. البداهة التي تميزها كافية إذن.
الانطواء، الخالص والبسيط، على التجارب المعاشة، المحايثة للوعي، على حساب ما يتعالى عليها، لن يكون مع ذلك كافياً لتأسيس المعرفة في مجملها. في الواقع، أليست المعرفة معرفة بشيء ما، بحيث يبدو من المستحيل تأسيسها فعلا دون مراعاة هذا الشيء المعين؟ يجب إذن أن نجد طريقة لإدماج هذا الشيء المحدد في دائرة المحايثة التي على أساسها تريد الفينومينولوجيا تأسيس المعرفة. هنا "epokhè" أو "reduction" (لن نفرق بين هذين المصطلحين في هذا النص). إنه هو الذي يجعلنا نلجأ إلى المجال الفينومينولوجي بحصر المعنى.
يقحم epokhè قطيعة مع "الموقف الطبيعي". هذا الأخير يحافظ على الإيمان بوجود العالم، فالعالم هنا يشمل ليس فقط الأشياء، الناس والحيوانات، بل القيم والأشياء المثالية. يأخذ الموقف الطبيعي أوضاع وجود هذه الأشياء المتعالية كما لو كانت واضحة بذاتها. عندها يعود epokhè لتعليق هذا الايمان، ل"وضعه بين قوسين". إذا بدا هذا التمشي قريبًا جدًا من الشك الديكارتي، فيجب التأكيد مع ذلك، على عكس هذا الأخير، أنه ليس مؤقتًا، بحيث أن الموقف الطبيعي لدى ديكارت يتم ايجاده بمجرد إثبات ضمانة الصدق الإلهي. بالنسبة لـهوسرل، من ناحية أخرى، يتطلب الموقف الفينومينولوجي التمسك بepokhè، لتحرير الذات بشكل دائم من إكراهات الموقف الطبيعي.
الEpokhè هو طرد العالم كشيء واقعي متعال خارج الاعتبار الفينومينولوجي. ومع ذلك، فإنه لا ينكر وجود العالم، بل يشك في موقفً دوغمائيً تجاهه. الepokhè في الواقع يترك كل شيء على حاله - لا يتعلق الأمر بالتشكيك في وجود العالم. بواسطة الاختزال (la réduction)، لا نخسر العالم، حتى لو لم يعد بالضبط متماثلا كليا مع عالم الموقف الطبيعي. هو مدرج من الآن في الدائرة الفينومينولوجية باعتباره مجرد موضوع للأفعال القصدية؛ هو مدرج فيه بشكل قصدي، لا واقعي. لا يعتبر إلا ك "ظاهرة"، بحيث تكون وحدها الكيفية التي يقدم بها نفسه للوعي مهمة، بغض النظر عن مسألة ما إذا كان موجودا أم لا. مثلا، في نظام الاختزال، لا تختفي الشجرة التي أراها: فهي ببساطة تتوقف عن كونها حقيقة قائمة بذاتها، وتختزل إلى مظهرها، وتعتبر كذلك. في النهاية، يدمج الاختزال الفينومينولوجي في المجال الفينومينولوجي ليس فقط "ما فيه يكمن الظهور"، أي التجربة المعاشة المحايثة، ولكن أيضًا ما يظهر كما يظهر.
هذا التقديم للاختزال الفينومينولوجي هو في الأساس ديكارتي بمعنى أنه يبدأ من البحث عن "نقطة أرخميدس" من أجل تأسيس العلوم بطريقة مطلقة. ولكن هذه ليست "الطريق" الوحيدة للوصول إلى الاختزال، حتى لو كانت هي الطريق المفضلة عمومًا في الكتابات التي نشرها هوسرل، ولا سيما في التأملات الديكارتية Méditations cartésiennes. وإلى جانب هذه الطريق الديكارتية الى الاختزال الفينومينولوجي، فإن نصوص أخرى كتبها هوسرل تجترح طريقا بواسطة علم النفس، تنطلق من البسيكولوجيا الوصفية القصدية وتغير طبيعتها، وطريقا أخرى بواسطة أنطولوجيا عالم الحياة، تنطلق من الأشياء المتشكلة وتعود إلى أفعال الوعي التي تشكلت.
- المثالية الترنسندنتالية
وفقا لتفسير شائع في كتاب "المباحث المنطقية" (1900-1901)، كان هوسرل قد دافع عن شكل من الواقعية التي بموجبها يوجد العالم في استقلال عن وعينا، و تمتلك أشياء هذا العالم في حد ذاتها ماهيات يمكننا معرفتها. في عام 1907، كان من شأن إدخال مفهوم الاختزال ضمن الدروس حول فكرة الفينومينولوجيا أن يقود هوسرل إلى القيام تجاه واقعية شبابه ب"منعطف ترنسندنتالي"، منعطف أصبح واضحًا مع نشر "الأفكار التوجيهية" في عام 1913. لفهم طبيعة هذا الانتقال إلى المثالية المتعالية، يجب علينا فحص نتيجة الepokhè. ماذا يتبقي بعد أن تم وضع العالم (خارج المدار)؟ ما هي "بقايا" الاختزال؟ وكما رأينا، بواسطة الاختزال، لا يكون العالم مفقودا، بل مدمجا بطريقة ما في دائرة المعطيات الفينومينولوجية. بهذه الطريقة، لا يُتصور العالم إلا باعتباره مدركا، موضوع حكم، متخيلا، إلخ؛ أي كمتضايف لإدراك، لحكم، لفعل تخيلي، إلخ. وبمجرد الانتهاء من الاختزال، يتم تعليق إيماننا بأطروحة العالم، بحيث لم يعد يبدو لنا ما هو متعال فيما يتعلق بالوعي إلا كمتضايف للتجربة الذاتية المستهدفة. هكذا يؤدي الاختزال إلى الذاتية المتعالية. إنها متعالية، لأنه بعد الاختزال يرجع بالضرورة الى هذه الذاتية كمتضايف لها كل شيء عاشت تجربته .
يؤدي الاختزال إذن إلى تنسيب العالم في علاقته بالوعي المانح للمعنى. بعبارة أخرى، في نظام الاختزال، يكون العالم مجردا من أي استقلالية تجاه الموضوعية. إذن، فإن الفينومينولوجيا الهوسرلية هي شكل من المثالية. ومع ذلك، فهي ليست مثالية ذاتية، مثل مثالية بيركلي، لأن الأمر لا يتعلق بالقول إن العالم وهم، من صنع الفكر الذي لا وجود له بمعزل عنه. وبمجرد أن يتم الاختزال، لا يتوقف العالم عن أن يوجد في المطلق. وجوده منقاد بالأحرى الى "معنى وجوده"، الذي منحه اياه الوعي. من وجهة النظر هاته، فإن المثالية الهوسرلية متعالية. برفضها وجود "الشيء في ذاته"، حتى ولو كان ذلك بمثابة مفهوم حدودي، تختلف هذه المثالية المتعالية عن نسخة كانط. سبب الرفض هو أن قضية وجود أو عدم وجود ما يسمى الأشياء في حد ذاتها، الأشياء الغريبة بالتعريف عن مجال العطاء الفينومينولوجي، ليس لها معنى، هذا المجال يشمل أيضا في ذاته الأشياء المتعالية. يؤدي الاختزال إذن إلى إعادة تعريف فينومينولوجية لفكرة التعالي نفسها، ولفكرة المحايثة تبعا لذلك. في الموقف الطبيعي، التعالي هو تعالي الأشياء التي تتعارض مع محايثة الوعي. بعد الاختزال، يتوقف الوعي عن أن يفهم بسذاجة باعتباره خارج "الصندوق" التي يوجد بداخله العالم. التعالي إذن مشمول بشكل غير واقعي، أي على أساس قصدي، في المجال (الموسع) للمحايثة. إنه مفهوم باعتباره "تعاليا في المحايثة"، تعاليا متشكلا.
أكيد أن هذا "التشكل" لا يجب أن يُفهم بالتأكيد على شاكلة إنتاج أو خلق مادي. إذا تم على الفور تجاهل مثل هذا التفسير الساذج للتشكل، يبقى أن هذه الفكرة هي واحدة من أفكار هوسرل العصية على الفهم. هذا الأخير لم يقدم أبدا عن ذلك عرضا منهجيا. لنقل ببساطة إنه لكي يستحق الشيء أن يكون موضوعا للوعي، يجب أن يتم تشكيله بواسطة نشاط قصدي. مثلا، عندما أدرك شيئا زمكانيا - مثلا المنزل الماثل أمام عيني - أكون أمام شيء متشكل لا يقتصر على ما أدركته لحظة مشاهدته، على الأحاسيس الحادثة . تعطيني هذه الأحاسيس في أحسن الأحوال "رسما تخطيطيا" (Abschattung) لماهية هذا الشيء، رسما مرتبطا بزاوية نظر معينة تتوقف على علاقتي المكانية بهذا الشيء. بمضاعفة وجهات النظر إلى هذا الأخير، أشعر بأحاسيس جديدة تزودني بمعلومات عن جوانب أخرى من الجسم. في كل واحد من هذه الرسومات، "ما وراء" ما هو محسوس، الشيء بأكمله هو ما كان مستهدفا على أساس وحدة قصدية، هو ما تشكل كمتماثل عن طريق توليفات تحديد الهوية. ولكن هذا هو الدليل على أن هذا الشيء الذي تم تشكيله يتجاوز في كل مرة ما أشعر به، أنه يتعالى على تجربتي المعاشة. هذا التعالي هو تعال يظهر للوعي على أنه كذلك؛ أي بمعنى الشيء المتعالي، الذي ليس سوى كون هذا الشيء المتعالي غير قادر على أن يمنح دون بقية، غير قادر على أن يمنح الا عن طريق رسم.
هذه هي الفكرة الجديدة عن التعالي التي يميزها هوسرل حتى داخل الدائرة الفينومينولوجية. لا يتعلق الأمر، كما في الموقف الطبيعي، بأن أقول إنني متيقن من حقيقة وعيي، لكني غير متيقن من حقيقة العالم "الخارج" عن وعيي. يتعلق الأمر بالقول إن في تجاربي المعاشة - المكونات الحقيقية لتيار الوعي، الذي لا أتساءل في هذه اللحظة عن واقعه المحتمل - تحضر محتويات حقيقية أو غير حقيقية، تتعالى عليها (التجارب). ومهما كانت متعالية، تبقى هذه المحتويات في عداد الظواهر.
د- النماط والنواط ( Noème et noèse)
يصف هوسرل "النماطات" (الموضوعات القصدية لهدف الفكر) بتلك المحتويات التي تتعالى على الأفعال، ولكن لا ينظر إليها إلا باعتبارها حاضرة فيها. في الجانب الخاص بما هو محايث للوعي، يميزمن جهة أولى، المكونات "الهيولانية" للتجارب المعاشة، مثل الأحاسيس والصور العقلية، ومن جهة أخرى، المكونات "التفكرية" «noétiques» للتجارب، التي "تنشط" السابقات بحيث يستهدف الوعي من خلالها محتويات متعالية. مع كل خاصية لمحتوى مستهدف - لنماط - يجب أن يتطابق بالفعل، على المستوى الذاتي، مكون من التجربة الحية التي تستهدفه؛ هذه هي فكرة التضايف الnoético-noématique. على وجه الخصوص، عندما يُدرك شيء زمكاني، يجب أن تتضمن التجربة التي تدركه، فضلا عن أحاسيس اللحظة الراهنة، مكونات تفكرية تستهدف حتى هوية شيء ما يمكن أن يتجلى من خلال الأحاسيس الأخرى ويحضر فيها مع تحديدات أخرى غير تلك التي يتم الاحساس بها الآن؛ مكونات تفكرية للتجربة الحية تستهدف إذن الشيء في جميع مظاهره (الحالية، الماضية، المستقبلية والمحتملة)، أي الوحدة الموضوعية التي تجعل منه موضوعا "= X" لجميع التحديدات التي يتجلى بها (X هو أحمر، X هو أملس، الخ). في خطاطة قيل عنها في كثير من الأحيان إنها تعيد الهيولومورفية الكانطية، يفهم النواط "noése" (فعل الفكر/ عمل الوعي القصدي) على أنه هو من يعد المكونات الهيولانية وينجز التوليف لكي يظهر مدخل إلى محتويات موضوعية بعيدا عما تم الإحساس به ذاتيًا. في منظور المثالية المتعالية، فإن النواط هو عادة مكان تنشط فيه الذات العارفة، في حين أن الهيولى هي موضع سلبيتها. يترتب عن ذلك إعادة تعريف معينة لمفهوم الفعل. فبينما في "المباحث المنطقية"، كان الأمر لا يزال يتعلق بأن يتم بواسطة هذه العبارة تعيين الأفعال العقلية أو الوظائف النفسية التي يمارسها العقل بشكل طبيعي، فقد أصبحت بعد المنعطف الترنسندنتالي بالأخص النشاط العائد إلى مبادرة و مسؤولية الذات المتعالية.
6- بنية الوعي
أ- وضع الوعي
منذ أعماله الأولى حول الأفعال العقلية إلى تأسيس تمثلات حسابية أولية وحتى أعماله الأخيرة التي تناولت مسألة البيذاتية، أعاد هوسرل بشكل منتظم تعريف وضع الوعي باعتباره الهدف الوحيد لتحليلاته الوصفية.
ظل الأمر، إلى حد اللحظة التي صدرت فيها "المباحث المنطقية" وقبل إدخال الاختزال الفينومينولوجي، يتعلق أساسا بدراسة التجارب المعاشة القصدية كأفعال عقلية؛ ذلك هو العقل الذي كان موضوع البسيكولوجيا الوصفية الموروثة عن برنتانو وستومبف. ومع ذلك، بواسطة الاختزال الفينومينولوجي، صارت حقيقة الأفعال معلقة، "موضوعة بين قوسين"، في نفس منزلة حقيقة محتوياتها؛ لا ينظر إلى المحتويات والتجارب المعاشة إلا من حيث أنها تظهر، من كونها ظواهر. إذن يصبح موضوع الفينومينولوجيا هو الوعي المنظور إليه كهذه البنية من التجليات التي ما زال وضعها الأنطولوجي غير محدد.
بواسطة الاختزال الفينومينولوجي، تعلن أيضا عن ذاتها المثالية المتعالية لدى هوسرل (انظر قسم [5.د] )، التي تعود بتيار الوعي إلى ذات تحس على نحو سلبي بمكوناته الهيولانية وتنجز بهمة ونشاط مكوناته التفكرية. طبقا لتقليد تجريبي معين، أكدت "المباحث المنطقية" على أن "الأنا" لا توجد قبل تيار التجارب المعاشية (ولا تشكل أساسها)، إنما تتشكل في ذاتها كأحد الأشياء المتمثلة من قبل هذه التجارب المعاشة. بعودته إلى هذا القول بعد المنعطف الترنسندنتالي، خلص هوسرل إلى اعتبار أن الأنا هي الذات التي تتمثل، أن التجارب المعاشة للوعي هي تجاربها وأن المحتويات المتمثلة مرتبطة تماما بأفعالها التمثلية - مصطلح « noème » يشهد من جهة أخرى على تبعيتها تجاه النشاط القصدي (noèse) للذات المتعالية التي تحكم تشكلها.
في هذا المنظور، يُمنَى الوعي بخاصيات ديكارتية و كانطية في وقت واحد. الاختزال الفينومينولوجي هو، في الواقع، اختزال إلى دائرة الوعي الأناني: فإلى تجاربي المعاشة وإلى المحتويات التي تحضر فيها يتعين الرجوع عندما، أعلق، منهجيا، من باب أولى، مسألة حقيقة ما يظهر لي. في دروسه التي ألقاها في ربيع 1907 حول "فكرة الفينومينولوجيا"، لم يستنكف هوسرل عن ربط هذا التمشي بالشك الديكارتي، الذي يضع بشكل جذري حقيقة العالم الممثل موضع سؤال، لكنه ينتهي الى التيقن من هذه الدائرة من المعطيات المطلقة التي هي تجاربي المعاشة وطريقتها في تقديم بعض المحتويات (انظر القسم [5 ب]). سوف تلح "الأفكار التوجيهية" لعام 1913 ودروس باريس لسنة 1929 (التي نُشرت بعد عامين تحت عنوان "التأملات الديكارتية") مرة أخرى على هذا النموذج الديكارتي، الذي أعطي للمشروع الهوسرلي انعطافة أكثر مثالية.
لكن استبدال الأنا المتعالية بالعقل (باعتباره"طبيعة بشرية") يدير، أيضًا وقبل كل شيء، ظهر المجن لهيوم لأجل تبني وجهة نظر كانط. إن الذات التي يجب أن تكون محور اهتمامات نظرية المعرفة هي الذات المتعالية، الذات في وظيفتها التشكيلية، وليس الذات التجريبية، أي الذات المفهومة على أنها جزء من العالم والتي هي بالتالي موضوعة خارج المدار من قبل الاختزال. بينما تكون الذات التجريبية الأخيرة "محددة"، خاضعة لتأثير الأسباب والأهواء، تكون الذات المتعالية حرة ومستقلة، حتى تكون مسؤولة تجاه متطلبات العقل النظري والأخلاق. وبصرف النظر عن تأثير الكانطية الجديدة، فإن هذا التموضع الجديد لـهوسرل يمكن أن يُفسَّر أيضًا على نحو باطني باهتمامه العقلاني، الذي قاده بالفعل إلى محاربة النزعة البسيكولوجية على مستوى المحتويات. في العمق، وهو يحارب في هذه المرة النزعة البسيكولوجية على مستوى التجارب الحية، هل يندرج الدور المتعالي ضمن استمرارية المنعطف اللابسيكولوجي، الذي يكمله ويعززه: إذا كانت محتوياته مُنظمة بعقلانية منطقية مستقلة عن قوانين الأداء الفعلي للجهاز النفسي البشري، من المناسب إيجاد نظير ذاتي في شكل مثيل لا تكون وظائفه آليات طبيعية، بل بنيات متعالية للوعي تكون قادرة على التوافق مع هذه العقلانية. ولأنه، بدوره، يريد إجراء نقد للعقل الخالص (بدلاً من مقالة ذات طبيعة إنسانية)، اختار هوسرل مثل كانط نظرية الوعي الخالص بدلاً من بسيكولوجيا تجريبية.
بعد "الأفكار التوجيهية"، سيحاول هوسرل تجاوز النزعة الأناوحدية المحتملة التي تسجن فيها المثالية المتعالية. ويصر على كون المحتويات الحاضرة في تجارب الوعي المعاشة ليست فقط متعالية عليه من حيث أنها يمكن أن تعاود الظهور في العديد من التجارب المختلفة، ولكن أيضًا من حيث أنه يمكن لها أن تظهر في تجارب ذوات أخرى؛ خلافا للتجارب المعاشة، تكون المحتويات "موضوعية" بقدر ما هي مشتركة، بيذاتية. المحتويات التي تظهر لوعيي في كثير من الأحيان تبدو له وكأنها تحمل بالفعل معنى ما كنت أنا بالذات من منحه لها، لكنها تحمل مقاصد الدلالة لذوات أخرى سابقة أو معاصرة لي. أن تكون هذه البيذاتية ممكنة حتى في النظام الفينومينولوجي، أي بعدما جرى الاختزال إلى الدائرة الأنانية، فذاك ما تعين على هورسل تفسيره بوضوح، وكرس له العديد من النصوص التي يرجع تاريخ أقدمها إلى فترة غوتنغن (انظر على وجه الخصوص هوسرليات، الأجزاء: الثالث عشر، الرابع عشر، الخامس عشر). نتج عن كل هذا العمل مفهوم جديد للوعي، مفهوم يراه، طبقا لارث لايبنيزي معين، عبارة عن مناد "monade"، وجهة نظر معينة إلى العالم، لكنها وجهة نظر تعكس في حد ذاتها جزءا من وجهات النظر الأخرى.
ب- بنية الأفق
مهما كان وضعه (روح، ذات متعالية ، أنا، موناد)، يكون الوعي قادرا على القصدية، وهذا يعني أنه قادر على تجاوز ما يحس به على الفور ليستهدف محتويات تتعالى عليه. لكن، لا يكون ذلك ممكنا سوى لأن الوعي نفسه ليس بنية بسيطة محتشمة، مكونة من العديد من الذرات الحسية المعزولة. بعيدًا عن كونه سلسلة متقطعة من الانطباعات الفردية، فإن تيار الوعي يتوفر على تنظيم بحيث يتم تسجيل كل انطباع في "أفق" الانطباعات المتزامنة الأخرى ولكن أيضًا الأمامية والخلفية، والتي تدخل في علاقات "الانصهار"، "التباين"، "التشابه"، الخ.، التي هي نفسها قد تم ادراكها. وهكذا، فإن الأحاسيس التي تحدث أثناء الإدراك البصري للتفاح الأخضر تدخل في علاقة تباين مع الأحاسيس المتزامنة للخلفية البنية التي على أساسها انفصلت، في حين تكون حاضرة في استمرارية الاحساسات باللون الأخضر نفسه الذي أحسست به للتو عندما كنت أشاهد هذه التفاحة والإحساسات بالأخضر ذاته التي سوف تنتابني عندما سأشاهدها مرة أخرى في لحظة من اللحظات.
هذه التصور الغني من حيث التجربة - أغنى بكثير من ذلك الذي اقترحته التجريبية الذرية - يساعد على شرح كيف، في تيار الوعي، يمكن أن تحضر محتويات ليست فقط مبينة، ولكن أيضا لديها هوية "معينة"، أي كما لو كان بامكانها أن يتم الاعتراف بها على أنها هي "نفسها"، حتى عندما تقدم نفسها في لحظات متمايزة من تدفق الوعي. الاعتراف بنفس الذات لا يعني أن الوعي يكتفي بفورية محتوى حسي، ولكن يدرجه ضمن أفق أحاسيس أخرى، سبق له أن خبرها،أو هو مقبل على الاحساس بها. لكن هذا ممكن فقط بفضل دينامية معينة لتيار الوعي مثل تلك التي وصفها كتاب "مبادئ علم النفس" لويليام جيمس، والذي كان هوسرل قد قرأه وشرحه بعناية. على هامش الأحاسيس التي تنتابنا على الفور، يقول جيمس، تظهر دائما، في "شرائح" الوعي، "هالة" من انطباعات أخرى متجاورة "تتعدي" (overlap) قليلا الأحاسيس الأولى وتمارس عليها تأثيرا. وفضلا عن الأحاسيس التي هي مركز اهتمامه المباشر، يمتلئ الوعي ب"أفكار ضمنية" (overtone) تفسح المجال لظواهر انصهار المعطيات الحسية (التي تساعد، مثلا، على إدراك متوالية نوتات موسيقية ككل)، ولكن أيضًا لجعلها تتصادى أوتتناغم (Obertöne) وهو ما درسه شتومبف مطولًا (انظر القسم [7.a]).
7- انتقادات
ان تأثير هوسرل على فلسفة القرن العشرين كبير. الوجودية، الهرمينوتيقا، فلسفات هيدجر، ليفيناس، دريدا، إلخ، كل ذلك يجد أصله في الفينومينولوجيا. ومع ذلك، فإن هذه الفلسفات ليست مجرد تتمات للعمل الهوسرلي. وبالتالي فإنها غالباً ما وجهت إليه انتقادات حادة. نذكر في ما يلي أهمها.
أ- نقد النزعة البسيكولوجية في الأعمال الأولى
في عام 1894، نشر غوتلوب فريغه مراجعة صارمة ل"فلسفة الحساب". عاب فريغه على هوسرل كونه انطلق من تصور ساذج للعدد - كتعدد من الوحدات -، وفضلا عن ذلك، إضاعته موضوعية الأعداد بأن جعل منها تمثيلات بسيطة بواسطتها يلزم تبيان تكوينها النفسي. ورفض فريغه على وجه الخصوص النظرية التي تعتبر الوحدة الحسابية تمثيلًا "مجرّدًا" يجب الحصول عليه بتنقية التمثيلات المحسوسة "في الحوض البسيكولوجي" لتخليصها من خواصها الملموسة الخاصة. بالنسبة لفريغه، العدد أو الوحدة هي محتويات موضوعية للفكر وليست تمثيلات ذاتية أو صور ذهنية يمكن الحصول عليها عن طريق إجراء عمليات نفسية على صور ذهنية أخرى.
تلقى نقد فريغه هذا موافقة معينة من هوسرل في « Prolégomènes à la logique pure » لعام 1900، وهي المقدمات التي أدانت بشدة النزعة البسيكولوجية باسم موضوعية المعاني والعلاقات المنطقية التي ترتبط بعضها ببعض (موضوعية سيمنطيقية)،على أن هوسرل ينسب شدة انتقاده إلى حقيقة أنه هو نفسه ارتكب الخطأ البسيكولوجوي في الماضي. ومع ذلك، فأن تكون النزعة اللابسيكولوجية لدى هوسرل مختلفة كثيرًا عن تلك التي لدى فريغه، فهذا ما يظهر بوضوح شديد عندما نرى المكانة الرئيسية التي تستمر التحليلات الوصفية - البسيكولوجية في احتلالها ضمن المباحث المنطقية الستة التي شكلت على نحو مباشر تتمة ل" Prolégomènes ". التباين لافت بين فريغه، الذي بعد رفضه للنزعة البسيكولوجية أزال تماما علم النفس من اهتماماته (الابيستيمو)منطقية، وبين هوسرل، الذي ما ان غذت الدوائر المرعية لأفعال (القوانين الواقعية) و لمحتويات (القوانين المثالية) حتى سعى جاهدا للتفكير بدقة في العلاقة القصدية بين هذه وتلك.
في هذا الصدد، ظل هوسرل بلا شك وريثا لهذا التلميذ الآخر من تلاميذ لوتز، كارل ستومبف، الذي سلط الضوء في وقت مبكر من عام 1892 على رهانات ومفردات النقاش حول النزعة البسيكولوجية، ولكنه قدم أيضا سلسلة من الملاحظات المفيدة المؤسسة على التمييز بين أفعال التمثيل ومحتوياتها، وهو التمييز الذي يفترض في الواقع من قبل النظرية البرنتانية عن القصدية والتي وجدت من جهة أخرى في أساس الملاحظات اللابسيكولوجية (المبثوثة) في أعمال العديد من تلاميذ برنتانو في اللحظة نفسها التي ينصحون فيها باستخدام أدوات علم النفس الوصفي وهو يحذون حذو معلمهم.
ب- نقد التداعيات في النزعة البسيكولوجية بعد " « Prolégomènes à la logique pure »
أدت العودة إلى الأبحاث المنتمية لعلم النفس الوصفي بعد الاختراق اللابسيكولوجي ل"المقدمدات" إلى إرباك أكثر من قارئ للمباحث المنطقية، خصوصا ناتروب، الذي عبر عن عدم ارتياحه تجاه ما اعتبره "تداعيات في النزعة البسيكولوجية". كما فعل هوسرل في رده على ناتروب، فهم مشروعه في عمل 1900-1901 يفترض بالضبط أن يندرج في هذا التوتر بين التأكيد على موضوعية المحتويات الفكرية ومتطلب وصف الطريقة التي يمكن بها أن تكون هذه المحتويات مستهدفة ومعطاة في أفعال الوعي.
الاتهام بوجود تداعيات في النزعة البسيكولوجية، أو في النزعة الأنثروبولوجية أو في النزعة التاريخانية سوف يوجه أيضا إلى هوسرل مباشرة بعد نشر "الأفكار التوجيهية." بعد إبراز البعد المتعالي والخالص للذاتية، أصر هوسرل مجددا وفعلا على سلبية الأنا كذات تجريبية وبوصفها الطريقة التي يؤثر بها نقشها الجسدي، وكذلك رسوخها في بيئة سوسيوثقافية متموقعة تاريخيا، على النشاط المتعالي.بعد ازاحتها جانبا في وقت سابق، لم يتم إلغاء مسألة الأصل والتكوين كلية من الفينومينولوجيا، ولكن بدلاً من ذلك يتم دعمها باستبدال البحث عن الدوافع بالبحث عن الأسباب. في فرنسا، سيطرح جان كافاييس وجان-توسان ديسانتي تساؤلات حول إمكانية التوفيق بين منطق مثالي وذاتي وبين أساس، أو من باب أولى تكوين، ذاتي.
ب- نقد الواقعية الأفلاطونية في "المباحث المنطقية"
خلافا للانتقادات السابقة، بعض قراء "المباحث المنطقية" و "المقدمات" على وجه الخصوص، ولكن أيضا تطورات لاحقة مكرسة للماهيات وهبتها الحدسية، تحركوا بالواقعية الأفلاطونية التي بدت وكأنها تنبثق من هذه النظرية حول الصفات الفكرية الممنوحة للتأمل في الوعي. هكذا سيعتبر هوسرل الماهيات حقيقة ميتافيزيقية مطلقة، لها شكل من أشكال الوجود المستقل.
وبينما هوسرل يعيد التأكيد على الطابع الموضوعي للمحتويات الفكرية غير المحسوسة، دافع عن هذه القراءة في الفقرة 22 من "الأفكار التوجيهية"، مصرا على أن الفكرانية ليست بالضبط كالواقعية، وأن الفكرانية، كما أظهرت "المباحث المنطقية"، تفترض أعمال التفكير التي تؤسس الحدس المقولاتي على الحدس الحسي. أرجعت مقدمة المبحث المنطقي الثاني بالفعل فكرانية المعاني الى اشكالية المثالية.
ارتباطا بشبهة الواقعية الأفلاطونية، فهم الوصول الى الفكرانيات بواسطة الحدس المقولاتي على أنه نوع من "الرؤية" الصوفية للامحسوس، وبالتالي كعودة غير محتملة إلى شكل من أشكال الحدس الفكري ". لكن هوسرل أوضح أن الحدس المقولاتي ليس مباشرا: يجب أن يقوم على حدس حسي.
ج- نقد المنعطف الترنسندنتالي
ظل كل تلاميذ هوسرل الأوائل، متجمعين في دائرة ميونيخ-غوتنغن، منهم أدولف ريناش ورومان إنغاردن، مرتبطين ب"واقعية "المباحث المنطقية"، وأدانوا إعادة تفسير لاحقة للفكرانيات باعتبارها نماطات تشكلت من النشاط المتعالي للأنا. برفضهم المثالية المتعالية في "الأفكار التوجيهية"، كانوا يرغبون في التمسك بالأطروحة التي بموجبها يتم منح ماهية معينة لكل جسم، والذي يملي على الوعي طريقة في التصويب نحو الهدف والحدس الخالص. من جانبه ، أكد هوسرل أنه كان دائمًا يعتبر أن هذه الفكرانيات لا يمكن أن تتشكل إلا في أفعال الوعي.